تشرين الأول (أكتوبر) 2008
المطلعون على حقائق التاريخ المسيحي عبر العصور يلاحظون أن المسيحيين منذ أن وُجدوا، آمنوا بالمسيح رباً حياً دائم الحضور، تجسّدَ على الأرض بهيئة إنسان، وتجسُّده لم يلغِ لاهوته، والمسيحية بذلك استمرَّت عبر تاريخها الطويل تحتفظ بإيمانها القويم بوحدانية الله.
إنما التساؤل الذي يردده البعض هو: هل َقبِلَ المسيح ما تنادي به المسيحية أم لا؟
وماذا قال هو عن نفسه في هذا؟
تساؤلٌ يدعو للاهتمام والدراسة والبحث ليُقدِّم للمتسائل الجواب الوافي والصريح.
فقد سبق الإنجيل وأكَّد على ضرورة الاستعداد الدائم لمجاوبة كل من يسألنا عن سبب الرجاء الذي فينا والإيمان الذي ننادي به (1بطرس 15:3).
والتساؤل في العقائد المسيحية مشروعٌ مسموح به، لا نتردّد في الإجابة عنه بكل صراحةٍ وصدق، إذ ليس في عقائدنا ما يُخْجلنا أو يُحْرجنا في شيء، بل إن التساؤل له إيجابياته بفتح باب الحوار لتوضيح المبهم في ذهن المتسائل أياً كان.
سبق وأوضحنا أن الله هو مصدر الوحي، وأن لا وحي من دون الله، وأن صاحب الوحي يحرسه ويحميه ولا يجيز له العبث والتزوير، فهو من نزَّل الوحي وهو له حافظ، فلا سلطان على وحي الله من غير الله، ولا قدرة لأيٍ من مخلوقات الله العبث بوحيه، وطالما أن كل وحي الله من مصدرٍ واحد، فكل وحيه في مستوىً واحدٍ من القدسية والأهمية، منسجمٌ بعضه مع بعض، لا يعلو فيه وحيٌ على آخر، فليس هناك من وحي نخب أول مصونٌ لا يمسه سوء، ووحيٌ آخر نخب ثاني مباح فيه العبث والتغيير! ذلك لأن الرب ربٌ واحد، وهو سبحانه قال في كتابه العزيز: "لأني أنا ساهرٌ على كلمتي لأجريها" (إرميا 12:1).
فالرب الساهر على كلمته لا ينعس، ولا ينام، ولا يغفل عن حقه، ولا يسمح بتزوير كلمةٍ أوحى بها لبني الإنسان، ولا يعطي فرصةً للعابث أن يمدّ يده لأقدس مقدساته وهو وحيه!
والمسيح نفسه أكَّد على هذا بقوله في إنجيله: "الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطةٌ واحدة من الناموس" والناموس هو كلام الله وشريعته (متى 18:5).
فالقائلون بتحريف التوراة والإنجيل يتحدثون من عنديَّاتهم، من رؤوسهم، وليس من كتابهم، ويحدث عادةً عندما يعجز المدّعي عن إثبات ما يدعيه، يميل البعض إلى تشويه صورة الوجه الآخر بدل تقديم الدليل على ما يدّعيه، فالبيِّنَةُ على من ادَّعى.
ونعود للتساؤل: ماذا قال المسيح عن نفسه بخصوص ما يدّعيه المسيحيون عنه؟ فنقول:
أولاً: نسَبَ المسيح الأزلية لذاته في أكثر من مناسبة، ومنها حين خاطب اليهود في إنجيل يوحنا الأصحاح الثامن بقوله: "قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن".
وفي ليلة العشاء الأخير مع تلاميذه خاطب الآب السماوي قائلاً: "مجّدني أيّها الآب عندَ ذاتك بالمجدِ الذي كانَ لي عندَك قبلَ كون العالم" (يوحنا 5:17).
وفي إنجيل لوقا 10 يتحدّث يسوع مع مجموعة من تلاميذه بعد جولة تبشيرية قاموا بها، وفي عودتهم إليه فرحين قالوا له: يا رب، حتى الشياطين تخضع لنا باسمك! فردَّ عليهم قائلاً: "رأيت الشيطان ساقطاً مثل البرق منَ السّماء" (ع 18)، وكان بهذا يشير إلى مشهدٍ قديمٍ سبق خليقة آدم حين سقط رئيس الملائكة بعد تمرّدٍ على الله وتحوّل إلى شيطان. والمسيح كان شاهد عيان، وأراد أن يؤكد لهم أن الشيطان ساقط ومغلوب منذ زمان، ثم قال: ”لا تفرحوا بهذا: أن الأرواح تخضع لكم، بل افرحوا بالحري أن أسماءكم كُتبت في السموات“ (ع 20).
ثانياً: في إنجيل يوحنا 11 يؤكد المسيح لمرثا أخت لعازر الذي مات ودُفن قبل أربعة أيام أنه سيقيمه قائلاً: "أنا هو القيامة والحياة، من آمن بي ولو ماتَ فسيحيا". وهذه بحدّ ذاتها إشارة إلى مجد لاهوته. فلا يوجد نبي يتجرّأ على القول عن نفسه أنه هو القيامة والحياة... فالقيامة والحياة بيد الله، وما الأنبياء إلا خداماً لله.
ثالثاً: نَسَبَ المسيحُ لنفسه أنه عالم بالخفايا ونوايا القلوب. ففي إنجيل مرقس2 وبّخَ المسيح جماعة من الكتبة اليهود على أفكار غير معلنة كانت تراود قلوبهم في جلسةٍ التقوا فيها معه، فقال لهم: "لماذا تفكرون بهذا في قلوبكم؟"
وفي إنجيل يوحنا 1 تحدّثَ المسيح عن نثنائيل بكلامٍ دلَّ على أنه يعرفه قبل أن يلتقي به بالوجه، فردّ عليه نثنائيل متسائلاً: من أين تعرفني؟ فقال له: "قبل أن دعاك فيلبّس وأنت تحت الشجرة رأيتك". فذُهِلَ الرجل وآمن بالمسيح وصار من أتباعه.
رابعاً: أوضح المسيح أن وجوده لا يحدّه زمان أو مكان وكان ذلك في حديثه مع نيقوديموس قائلاً عن نفسه: "ليسَ أحد صعد إلى السماء إلاّ الذي نزلَ من السماء ابن الإنسان [المسيح] الذي هو في السماء" (يوحنا 13:3). فهو مع أنه كان أمام نيقوديموس قال عن نفسه بذات الوقت أنه أيضاً في السماء.
والسؤال لمن اختلطت عليه الأمور: من هو الذي يوجد في أكثر من مكان في آنٍ واحدٍ؟!
خامساً: قَبِلَ المسيح السجود لشخصه في مواقف متعددة، منها ما جاء في إنجيل متى 8 حين سجد له الأبرص قائلاً: "يا سيد، إن أردت تقدر أن تطهرني. فمدّ يسوع يده ولمسه قائلاً: أريد، فاطهر! وللوقت طهر الأبرص، ولم يعترض المسيح على سجوده له.
وفي إنجيل متى 9 جاء إليه رئيس ديني يهودي وسجد له قائلاً: "إن ابنتي الآن ماتت، لكن تعال وضَعْ يدك عليها فتحيا". فحضر المسيح وأمسك بيد الصبية الميّتة فقامت في الحال. ولم يعترض على سجود أبيها له... علماً أن أباها كرجل دين يهوديٍ مُوَحِّد لا يقبل السجود لغير الله!
وفي إنجيل متى 14 كان تلاميذه قد استقلوا سفينة في بحيرة طبريا وبقي هو على الشاطئ ليصرف آلاف الجموع الذين تجمَّعوا حوله خلال النهار، وفي غيابه عن تلاميذه وهم في السفينة هاج عليهم البحر بريح عاصفة، فجاءهم المسيح في عتمة الليل ماشياً على سطح الماء برجليه، فلما رأوه ظنوه شبحاً ومن الخوف صرخوا، فردّ عليهم قائلاً: "تشجعوا، أنا هو، لا تخافوا!" ولما دخل السفينة سكنت الريح على الفور فذهلوا وقاموا وسجدوا له ولم يعترض على سجودهم.
وفي يوم قيامته من القبر في صباح الأحد باكراً جاءت مجموعة من النسوة المؤمنات لزيارة القبر، وبينهنّ مريم المجدلية التي أخرج منها سبعة شياطين وصارت من أتباعه. ولما وجدن القبر فارغاً وقعن في حيرة، فظهر المسيح لهنّ فجأةً، ولما عرفنه اقتربن منه وسجدن له.
فكل حالات السجود التي ذكرناها لم تكن مجرد تكريمٍ، بل اعترافاً بهويته، والدليل واضح من قرائن أخرى وردت في الإنجيل، ومنها عندما ظهر المسيح لجماعة التلاميذ بعد قيامته بثمانية أيام وكان بينهم توما لأول مرة بعد القيامة، وكان توما قد غاب عن جماعة التلاميذ لبضعة أيام بسبب شكه بحقيقة قيامة المسيح من بين الأموات، وأقنعه زملاؤه بأن يحضر ويرى، وبينما هم مجتمعون وتوما معهم وكانت الأبواب مغلَّقةً بسبب الخوف من اليهود، ظهر لهم المسيح فجأةً ووقف في وسطهم وقال: ”سلام لكم“، ثم نادى توما وعاتبه على شكّه بكلمات بمنتهى الرقة، فقام توما واقترب من المسيح وسجد له قائلاً: "ربي وإلهي"، فقال له: "لأنك رأيتني يا توما آمنت! طوبى للذين آمنوا ولم يروا "... سجد له توما قائلاً: "ربي وإلهي". وتوما هذا هو واحد من تلاميذ المسيح المقربين إليه، وهو من حمل بشرى الإنجيل بعد صعود المسيح إلى السماء، وذهب إلى الهند ينادي بالإنجيل، ومسيحيّو الهند الذين يعدّون بالملايين مدينون لتوما في اتباعهم للمسيحية. وفي الهند استشهد توما بسبب إيمانه.
سادساً: نذكّر هنا أن المسيح نفسه نهى عن السجود لغير الله إذ قال في إنجيل متى 5: "للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد". فهو هناك حرّم السجود لغير الله مؤكداً على وحدانية الله الذي له وحده ينبغي السجود... ومع ذلك قَبِلَ السجود لشخصه.
وهذا التعليم استمرّ في حياة رسل المسيح وأتباعه فيما بعد:
ففي أعمال الرسل 10 حضر بطرس الرسول إلى بيت كرنيليوس الضابط الروماني بعد أن دعاه كرنيليوس ليُعَرِّفه على الإيمان بالمسيح. ولما وصل بطرس إلى مدخل البيت تقدّم كرنيليوس وسجد لبطرس، فقال له بطرس بحزم: ”قم فأنا أيضاً إنسان“.
وفي مشهدٍ آخر لبولس الرسول وبرنابا معه (أعمال الرسل 14)، فبعد أن جرت معجزة شفاء على أيديهما في مدينة لسترة لرجلٍ مقعد منذ ولادته، هذه المعجزة التي أثارت مشاعر الكهنة الوثنيين في المدينة، فقالوا إن الآلهة نزلت إلينا وتمثّلت بالناس، وباشروا بتقديم طقوس من العبادة لبولس وبرنابا، فمزّق الرسولان ثيابهما احتجاجاً وصرخا في الجموع قائلين: "لماذا تفعلون ذلك؟ نحن أيضاً بشر تحت الآلام مثلكم نبشركم أن ترجعوا من هذه الأباطيل إلى الله الحيّ الذي خلق السماء والأرض والبحر وكلّ ما فيها".
وفي سفر الرؤيا آخر أسفار الإنجيل، دخل يوحنا اللاهوتي في رؤيا، ظهرَ له فيها ملاك عرّفه على ما في السماء من أمجاد، وفي نهاية الرحلة أراد يوحنا أن يكرِّم الملاك الذي أراه كلّ هذا وأنبأه بما سيأتي على المسكونة، وقع ساجداً عند قدمي الملاك، فاحتجّ الملاك ورفض قائلاً: انظر لا تفعل لأني عبد معك ومع إخوتك، اسجد لله.
ونعود فنقول: لقد نهى المسيح عن السجود لغير الله، وإنجيله المقدس نشرَ هذا التعليم بين الناس، وأطاع رسل المسيح وطبّقوا ذلك في حياتهم، ومع ذلك فهو قَبِلَ السجود لشخصه ولم يرفضه إقراراً منه بلاهوته... علماً أن المسيح في حياته على الأرض عُرِفَ بتواضعه وبعده عن التعظّم والكبرياء.
ويخبرنا لوقا في ختام إنجيله عن مشهد صعود المسيح إلى السماء بعد قيامته بأربعين يوما ليودِّع تلاميذه قبل لحظة الصعود، فيقول الإنجيل: "وأخرجهم خارجاً إلى بيت عنيا ورفع يديه وباركهم وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأُصعد إلى السماء، فسجدوا له ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم". هنا نذكِّر بأن السجود للمسيح رافقه منذ ولادته، فالمجوس الذين جاءوا من المشرق ليزوروا الطفل المولود، فلما رأوه مع مريم أمه، يقول الإنجيل: ”فخرّوا وسجدوا له، ثم فتحوا كنوزهم وقدّموا له هدايا: ذهباً ولباناً ومرَّاً“ (متى11:2)، ثم عادوا إلى بلدانهم“.
ففي ميلاده قُدِّم له السجود، وفي مغادرته للأرض كان آخر ما قُدِّم له هو السجود، فالسجود له رافقه كلّ الوقت حتى حين غادر الأرض وعاد إلى عرشه في السماء!
وما زال المسيحيون يمارسون السجود للمسيح ويعبدونه بفخرٍ واعتزاز لأنه يستحق السجود والإكرام والعبادة، فهو الرب.
والكتاب المقدّس يؤكِّد بأن السجود للمسيح سيكون أمراً حتمياً على الجميع:
”لكي تجثو باسم يسوع كلّ ركبة ممّن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض ويعترف كلّ لسانٍ أن يسوع المسيح هو ربٌ لمجد الله الآب“ (فيلبي 11:2).