شباط February 2010
شاب في ريعان الفتوة، نزل إلى معترك الحياة فأنبلته بسهم البطالة، وأسلمته إلى أنياب الألم؛ لم يعثر على عمل يرد به هجمات الفقر عنه وعن عائلته.
فكرٌ يحلم بالسعادة ورغد العيش، وخيال السعادة يتمايل في البعيد البعيد.. قلبٌ يخفق ليحقق أمنية السلام والراحة وطيف السلام يهيم في هوة سحيقة؛ عقلٌ يعمل ليلاً ونهاراً ينشد هدف المادة وهو عن مصير محتم أبديّ لاهٍ.
إنه متروك... حزين... يعيش أيامه على مضض.. ولا يعرف للطمأنينة معنى وللحياة جوهرا.
تبدأ هذه القصة في بيروت وتنتهي في بلدة معرّة النعمان بالقرب من حلب بسوريا، بطلها شاب يُدعى توفيق من سكان بيروت.
كان لهذا الشاب رفيق مخلص، تربطه به وبأهله صداقة قديمة، وكان هذا الصديق الذي يزور هذه العائلة من وقت لآخر هو الأخ أنطون ن. رجل عرف طريق الرب منذ خمس وثلاثين سنة تقريباً، وقد كرّس نفسه لخدمة سيده الذي أحبه.
كان توفيق يتردد إليه قبل أن وجد عملاً، ليقضي عنده بعض الوقت. بادره الأخ أنطون بالسؤال ذات يوم قائلاً:
- يا توفيق، لماذا تعيش حياة اللامبالاة؟ ولماذا لا تسلّم نفسك ليسوع حتى يخلصك وينهي مشكلة الخطية في حياتك، فتصبح إنساناً جديداً، لك أهداف مقدسة، تعيش في كنف الرب يسوع الذي هو ملجأ أمين، وحصن حصين؟!
أجابه توفيق على الفور:
- هل تظن يا أخي أنني أستطيع أن أسلّم نفسي للرب، وأنا غير مستقرّ، وبدون عمل؟ وأنا كما تعلم مسؤول عن إعالة أمي وأخواتي! لا أستطيع ذلك الآن، لأن أفكاري مضطربة، أما إن وجدت عملاً يؤمِّن لي ولذويّ عيشة بسيطة متواضعة، فليس ما يمنع عندئذ مجيئي للرب وتسليم حياتي له.
أجابه الأخ أنطون:
- أن تبحث عن عمل شريف لتأمين معيشتك ومعيشة أهلك هذا شيء مهم، لكن الأهم من ذلك هو أن تفتش عن خلاص نفسك الخالدة، وأن تحصل على الحياة الأبدية. هذه النفس التي لا تملك سواها، فإن خسرتها خسرتها إلى الأبد. ولماذا تضع مشكلة العمل بينك وبين قبول الرب؟ هل الإيمان بيسوع يمنعك من البحث عن عمل؟ وهل تظن أن الرب يسوع يتخلّى عنك عندما تصبح ابناً له؟ إن كان الله يهتم بطيور السماء فبالأولى جداً أن يهتم بك! يقول النبي داود: كنت فتى وقد شخت ولم أرَ صديقاً تُخلّي عنه... الأشبال احتاجت وجاعت وأما طالبو الرب فلا يعوزهم شيء من الخير. إياك والتأجيل الذي هو خدعة الشيطان الرئيسية، وسلاحه الماضي الذي يشهره في وجه كل من يريد قبول الخلاص، ليثنيه عن عزمه ويستعبده إلى الأبد. لا تستسلم لأضاليله، بل تعال إلى يسوع حمل الله الذي حمل خطاياك بجسده على خشبة الصليب! هو يريحك من ثقل الخطية ومن عبء همومك التي تستأثر بك في كل يوم.
ثم سأل توفيق:
- وماذا يمنع إن أحسن لي الله وأعطاني عملاً أقوم به، يكفيني وعائلتي عوز الناس، وبعد ذلك أسلمه حياتي؟!!.
قال توفيق هذا الكلام ونهض مودعاً صديقه الذي أخذ يتأمل في حياة هذا الشاب بعد أن خرج.
مسكين توفيق الذي يؤجل قبول نعمة الله المجانية! ثم أحنى رأسه ورفع صلاة حارة إلى الله من أجل هذا الشاب لينقذه من خطيته ويعطيه عملاً لسدّ حاجاته.
بعد عدة شهور، نما إلى الأخ أنطون خبر مفاده أن صديقه توفيق قد وجد عملاً في شركة "كات" براتب لا بأس به! سرّ لهذا الخبر، وشكر الرب لاستجابته الشق الثاني من صلاته، وضاعف الصلاة من أجله ليعطيه الرب نعمة عند مقابلته له، ليقنعه بوجوب طلب الرب الذي أحسن إليه.
الزواج... أولاً
كان هذا اللقاء بعد مدة قصيرة في بيت توفيق، حيث سأله الأخ أنطون عن عمله الجديد، وتوفيق يجيبه عن أسئلته بسرور. ثم قال له:
- يا عزيزي، ها إن الرب قد أعطاك عملاً، فماذا يمنعك الآن عن المجيء إليه كما وعدت سابقاً؟!
أجابه:
- إني شاب عازب، وأنا الآن منشغل في البحث عن فتاة أتزوّجها وأعيش وإياها حياة هادئة، ثم آتي إلى الرب.
أجابه الأخ أنطون حزيناً:
- هل تضمن بقاء حياتك حتى وقت الزواج؟ وهل الحصول على زوجة أولى من الحصول على السلام الأبدي الذي تناله من يسوع عندما تُقبل إليه؟ اليوم يوم خلاص! الآن هو الوقت المقبول! الآن إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم. أمامك الآن فرصة، اغتنمها واطلب الرب لأنك إن أضعتها ربما لا يمكنك التمتّع بفرصة أخرى. لذلك اسمع لصوت الله ولبِّ نداءه لأنه "الآن وقت لطلب الرب".
حاجتي... إلى ولد
افترقا وفي قلب هذا الأخ غصّة، وفي صدره حسرة على هذا الشاب الذي لا يدرك قيمة نفسه الخالدة، لكنه استمرّ في الصلاة إلى الله من أجله، حتى علم ذات يوم أن توفيق قد تزوّج، فقصده مهنّئاً، وبعد قليل بادره قائلاً:
- يا أخي توفيق، قد أعطاك الرب ما طلبته منه، ساعدك على إيجاد عمل، وها أنت قد تزوّجت، وقد تأنّى الرب عليك وأبقاك حياً، ألا تغتنم هذه الفرصة الجديدة وربما الأخيرة وتطلب خلاص نفسك؟!
وأردف توفيق قائلاً:
- وإنني على قاب قوسين أو أدنى من الخلاص، وقد صممت أن آتي إلى يسوع الذي شوّقتني لأتعرّف عليه. يسوع الذي عندما تتحدث عنه أشعر كأنك تتحدث عن شخص حبيب على قلبك، لا بل أشهى شيء على نفسك، وأشعر أن هذا أفضل حديث بالنسبة لك. هذا تصميمي، لكن بعد أن يرزقني الله ولداً أنعم وأسرّ به.
- آسف يا عزيزي، لأنك حتى هذه الساعة ترفض عرض يسوع السخي بشأن نفسك وتنصاع لخداع الشيطان منقاداً إلى ضلاله، سامعاً صوته الذي يغريك للسلوك في الطريق التي تؤدي بك إلى الهلاك. فهلاّ تنتبه لنفسك وتنقذها من المصير المؤلم الذي ينتظرها. ها إن كل إنسان سيقف أمام ذلك الديان. فما هو جوابك أمام ذلك الديان العادل إذا فارقت هذه الحياة وأنت لا تزال بخطيتك؟ إن الموت قريب من كل إنسان فلماذا تموت بخطاياك، والله لا يسر بموت الخاطي بل أن يرجع عن طريقه فيحيا، لأنه يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون.
فأجابه توفيق بكل اتزان:
- لا بأس، اطمئن يا أخي، إني سأتعرّف على الرب عندما يأتيني ولد.
بعدها ودّعه الأخ وهو يفكّر في مصير هذا الشاب الذي يؤجل الخلاص... وتلاحقت الصور والمشاهد في مخيّلته، فتصوّره شخصاً ثابتاً يستمتع بفرح الخلاص ويربح عائلته للمسيح. فغمرته الغبطة وانتعش قلبه فرحاً، ثم انقلب المشهد إلى صورة أخرى معاكسة، فتصوّر هذا الشاب يدركه الموت وهو غير مخلّص، وكلمته كل يوم: غداً آتي إلى الرب، فيهوي بخطيته إلى الأبدية المظلمة المتّقدة بالنار والكبريت. في تلك اللحظة سرت في كيانه موجة من الشفقة على هذا المسكين، وتمنّى لو استطاع إقناعه أو إلزامه بالدخول إلى عرس عشاء الخروف. ولكن، ها هو قد قابله مراراً كثيرة، وفي كل مرة أعوزه الجواب لقّنه الشيطان للحال عذراً. وأصبحت كلمة الله كلمة عادية، إذ آنفت أذنه عن سماعها وخفّ تأثير فاعليتها في نفسه، وضميره الذي كان يؤنبه على خطيته كان يسكته ويصم أذنيه عن سماع صوته.
يا لمكر الشيطان وأساليبه القتالة في اجتذاب الناس إلى شباكه! لقد استطاع تخدير ضمير هذا الشاب، وإخماد شعلة كلمة الله التي كان يسمعها. كم من نفوس أمثال هذا الشاب قد اقتنصها عدوّ الخير وأخضعها لمشيئته بعد أن قيّدها بقيود أبدية؟!
هذا ما جال في خاطر الأخ بعد أن ترك صديقه. ثم رفع صلاة من قلبه فخرجت كحشرجة آذت قلبه فانسابت الدموع من عينيه مترقرقة.
النهاية غير المنتظرة
بعد بضعة أسابيع ترامى إلى آذان الأخ أنطون أن صديقه سافر إلى الكويت للعمل هناك بناء لطلب الشركة.
أما توفيق الذي باشر عمله في البلاد الصحراوية، بعيداً عن أهله وعائلته، كان لم يزل كل يوم منشغلاً في هذه العائلة التي تركها، وكان يرنو إلى ذلك اليوم الذي فيه يوافيهم فيراهم ويفرح بهم. وآخر تلك السنة حين أُعطي إجازة ليرجع إلى وطنه طار قلبه فرحاً، وتهلّل وجهه بشراً!... إنه سيلاقي الأهل والأحباء!!! هذه ملامح زوجته تبدو الآن أمام عينيه... وهذه بسمات أولاده تعلو وجوههم... هؤلاء جميعاً مع لفيف من الأصدقاء سيجتمع معهم ويتمتع برؤياهم بعد أيام معدودة...
أتى اليوم المحدد فاستقلّ الطائرة مع ثلاثة عمال يعملون في الشركة قاصدين لبنان. أقلعت الطائرة، وبسرعة فائقة بدأت تعبر الأجواء فوق بعض البلدان العربية - بينما كان توفيق يتأمل في تضاريس الأرض تحته فتبدو لديه كحجارة صغيرة يراها من ذلك العلو الشاهق. كان الركاب الزملاء يتحدثون مع بعضهم والفرح بادٍ على وجوههم، وكل واحد يفكر في أحبائه وفي لقياهم بعد قليل، ولم يدرِ في خلد كل واحد منهم أن النهاية قريبة، وأن المستقبلين سيكونون لا في المطار بل في الأبدية المظلمة.
كان توفيق في ذلك الوقت كعادته منشغلاً في أمور هذه الحياة... هذا الانشغال الذي أقعده عن البحث في شأن خلاص نفسه... فنسى الله تماماً وأسقطه من حسابه؛ هذا الإله الذي يدور العالم كله في فلكه، إذ نسمة كل حيٍّ بيده. وأتخيّل أنه مرّ خاطر سريع في فكر توفيق عن هذا الإله الذي سمع عنه كثيراً، فطرد للحال هذه الفكرة التي تزعجه وتقضّ مضجعه كلما توسع بها، واستأنف حديثه مع رفاقه ليُسكت هذا الصوت، ولم يدرِ أن عقارب حياته سيفاجئها الغروب، وأن هذا الإله الذي هرب من وجهه كل هذه السنين التي كان يسمع بها عنه سيواجهه بعد دقائق معدودة.
وما أن وصلت الطائرة فوق أرض الشهباء، بقرب بلدة معرّة النعمان حتى هوت إلى الأرض إثر عطل حدث لها لم يستطع قائدها إصلاحه، فارتطمت بالصخور تاركة في جوفها جثتين هامدتين وشخصين أصيبا بجروح بليغة. أما توفيق وهو أحد الشخصين اللذين فارقا الحياة فقد انتهت حياته بهذه المأساة وأضاع الحياة الأرضية بعد ضياع الحياة الأبدية ليغوص في جحيم أبدي.
اختر لنفسك
في هذه الآونة، كان يتردّد شاب إلى محل الأخ أنطون. ن. وكان الأخ يتكلم معه عن الخلاص، فقبل البشارة وسلم حياته للرب وسار في طريق الرب وهو لا يزال على قيد الحياة، وإلى الآن صار له ثلاث عشرة سنة يسير مع الرب فرحاً بخلاصه مطمئناً للمستقبل، له رجاء بالحياة الأبدية. إن ذلك الشاب هو كاتب هذه السطور الذي استقى تفاصيل هذه القصة الواقعية من الأخ أنطون.
والآن، إذ قد عرضت أمامك هذه القصة الواقعية، التي يمكن أن تحدث كل يوم ومع أي إنسان... أسألك عن تفكيرك الشخصي في مسألة خلاصك وتقرير مصيرك الأبدي، يا من سمعت كلمة الله كما سمعها توفيق ولم يتّعظ بها.
فهل تكون قصة حياة هذا الشاب الذي استهان بالخلاص سبب بركة لحياتك لتستفيد من خسارته في طلب الرحمة؟!
هل تُقبل أنت إلى الرب يسوع طالباً الرحمة فتنال الحياة الأبدية وتعيش فرحاً في الرب متعزياً به كما يعيش مقدم هذه القصة؟!
أرجوك أن تختار النصيب الصالح الذي لن يُنزع منك إلى الأبد... تلك هي التجارة العظيمة الرابحة. لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه.