شباط February 2010
لا يوجد في تاريخ الأمم والشعوب مرتبة أروع من مراثي سفر إرميا. ففي هذه المراثي تلتقي ذات النبي المتوجّعة مع الدفقات الشعرية المتفجّرة التي تعبّر عن عظم المأساة الإنسانية التي تعرّضت لها أمته على الرغم من جميع التحذيرات
التي ردّدها الله في مسامع الشعب من خلال النبي إرميا. ومأساة إرميا أنه كان مطلعاً عما سيحدث للأمة من نكبات، غير أن أبناء أمته، مَلِكاً وشعباً، لم يكترثوا لها. فمن قلب يَنِزّ بالألم، وروح بلغ بها الحزن حتى التراقي، نظم إرميا هذه القصيدة بوحي النبوّة.
لم يكن شعر رثاء المدن والممالك في الشرق الأدنى أمراً مستحدثاً. ولم يكن إرمياء أول من ابتدعه، فقد سبقه إلى ذلك السومريون الذين كانوا أول من نظم شعر رثاء المدن التي سقطت في أيدي الغزاة. ولعل أشهر قصيدة نظموها كانت في دمار مدينة أُور.
تتألف مراثي إرمياء من خمس قصائد تشكّل كل قصيدة منها أصحاحاَ من الأصحاحات. وقد عمد في نظم أبيات القصائد الأربع الأولى إلى استخدام حروف معينة من الأبجدية العبرانية في مطلع كل بيت بحيث إذا جمعت معا تؤلف كلمة أو عبارة. وقد استهل الشاعر في الحقيقة كل بيت بحرف من حروف الأبجدية العبرانية الإثني والعشرين بالتتابع لكي يحافظ على طول القصيدة، كما أنها تشير إلى بدء المقاطع الشعرية. وقد اختلف عدد أبيات المقاطع، فمنها ما كان ثلاثياً ومنها ما كان رباعياً. والبعض الآخر كان ثنائياً كما نجد في القصيدة الرابعة. أما القصيدة الخامسة فلم تنحُ نحو القصائد الأربع الأولى بل اتبعت نمط قصائد المزامير.
تدور كل قصيدة من هذه القصائد حول موضوع يختلف عن الأخرى. فالقصيدة الأولى تصوّر أُورشليم تندب ما أصابها من دمار وتستغيث بالله كي ينتقم لها. أما القصيدة الثانية، وإن كانت مماثلة في مناخها الحزين لجو القصيدة الأولى، فإن الشاعر يرى أن دمار المدينة كان نتيجة لأخفاق الأنبياء في تحذير الشعب بصورة فعّالة من الدينونة المرعبة التي ستحل به. وتدعو القصيدة الثالثة الأمة إلى التوبة والرجوع إلى الله والاتكال على رحمته كي يستردهم من سبيهم وينتقم من أعدائهم. وتتابع القصيدة الرابعة معالجة الفكرة عينها واصفة فظائع الحصار وصب اللوم على مواقف الكهنة والأنبياء. أما القصيدة الخامسة فهي صلاة ابتهال كي يرد الرب سبي الشعب النائح، وينقذهم من وضعهم المأساوي، وينعم عليهم بالفلاح والازدهار.
إن معظم الصور الشعرية في القصائد الموحى بها تقتنص القيم الخالدة، وتعرضها بكل جلالها على محك التجربة الإنسانية لارتباطها بالواقع الحتمي. وتزداد الصور كثافة عندما يدرك الشاعر بروح النبوة مدى عمق الفاجعة التي ستلم بأُمته. ومن ناحية أُخرى نرى أن السيادة الإلهية، والعدل، والقيم الأخلاقية، وساعة القضاء، والأمل ببركات المستقبل البعيد، هي موضوعات تتردد في مراثي إرمياء لأنها كانت تعكس علاقة الله بشعب قطع معه ميثاقا.
إن مشكلة الألم في مراثي إرمياء تأخذ طابعا قوميا وكأن آلامه أصبحت تجسيدا لكل آلام شعبه. ومع أن الله قد أوحى إليه أن زمان الكارثة قد اقترب فإن وقوعها ترك أثرا مذهلا في حياته وهو يقف على أنقاض المدينة المقدسة مفجوعا تماما كما كان يقف شعراء العرب في العصر الجاهلي على أطلال حبيباتهم الدارسة.
ومن ناحية روحية، فقد جاءت قصائد إرمياء شهادة حية على ضلال الأمة ونقضها للميثاق الذي عقده الرب مع الشعب. لقد انكشفت لإرمياء، بوحي رؤيا إلهية، فظائع الأهوال التي ستحيق بأُورشليم وما سيلحق بها من ويلات ومحن. أضف، أن إرمياء كان شاهد عيان لكل ما حلّ بالمدينة من ذبح وتدمير فوصفها بقلب مدمّى وصفا مليئا بالتفاصيل الأليمة. وتكاد هذه المراثي تخلو من أية نبرة عزاء لولا ما نراه في صلاة إرمياء الواردة في الأصحاح الخامس، وفيها يتخطى الظروف الراهنة إلى ما بعد المأساة إذ يرى، على الرغم من الظلمات المحدقة، بارقة أمل مصدرها الله.
كانت تجربة إرمياء تجربة ألم خلاّق. فهو، أولا، يحمل على كاهليه اوزار أُمته وينوء بها. وثانياً، يعتريه شعور بالكآبة لعجزه عن تغيير قضاء الله المحتوم. فرؤساء الدولة والشعب لا يرتدعون عن كفرهم وضلالهم غير آبهين بتحذيرات الله وإنذارات أنبيائه؛ وهو يدرك يقينا أن الدينونة باتت وشيكة بل إنها تحققت طبقا للقضاء الإلهي. وهكذا تفجَّر قلب النبي بعذاب ملتاع عبّر عنه في هذه القصائد التي أراها أروع ما نظم في أدب المراثي عبر العصور.
لنتأمّل في مطلع المرثاة الأولى:
”كَيْفَ أصْبَحَتْ المَدِينَةُ الآهِلَةُ بِالسُّكَّانِ مَهْجُورَةً وَحِِيدَةً! صَارَتْ كَأَرْمَلَةٍ؛ هَذِهِ الَّتِي كَانَتْ عَظِيمَةً بَيْنَ الأُمَمِ...
”تَبْكِي بِمَرارَةٍ فِي اللَيْلِ وَدُمُوعُهُا تَنْهَمِرُ عَلَى خَدَّيْهَا . لا مُعَزِّيَ لَهَا بَيْنَ مُحِبِّيهَا. غَدَرَ بِهَا جَمِيعِ خُلاَّنِهَا وَأَصْبَحُوأ لَهَا أَعْدَاءً“.
أترى كيف تحوَّلت المدينة في عيني الشاعر إلى امرأة أرملة وحيدة لا ناصر لها، مهجورة لا معزيَ لها بين محبيها، بل إن خلاّنها قد انقلبوا عليها كأنهم ذئاب خاطفة قد أقبلت لتنهش لحمها. إن عملية التشخيص هذه، بما فيها من كنايات ومجازات، أحيت المدينة في ذهن القارئ وأثقلته بصور مكثَّفة تجسّد واقع التجربة الإنسانية في المجتمع الشرقي حيث تتعرّض المرأة الأرملة التي تفتقر للحماية والمال إلى كل صنوف المذلّة والبؤس.
ويستطرد النبي الشاعر قائلاً:
”تَنُوحُ الطُّرُقُ المُفْضِيَةُ إِلَى صِهْيَوْنَ لأَنَّهَا أَقْفَرَتْ مِنَ القَادِمِينَ إِلَى الأَعْيَادِ. تَهَدَّمَتْ بَوّاَبَاتُهَا جَمِيعَاً. كَهَنَتُهَا يَتَنَهَّدُونَ؛ عَذَارَاهَا مُتَحَسِّرَاتٍ وَهِيَ تُقَاسِي مُرَّ العَذَابِ“.
عالم الأعياد الملوّن، ومهرجانات الاحتفالات التي كانت أورشليم تعيشها قد استحالت إلى عالم مأساوي تنوح فيه الطرق التي أقفرت من مباهج الأفراح، ومواكب الانتصارات. لقد أضحت المدينة التي عمَّها الخراب أطلالا خالية ينعق فيها الغراب.
”قَدِ امْتَدَّتْ يَدُ العَدُوِّ إِلَى كُلِّ ذَخَائِرِهَا، وَأَبْصَرْتُ الأُمَمَ يَنْتَهِكُونَ حُرْمَتَهَا“.
كانت الكارثة التي ألمت بالمدينة صورة مصغّرة عما أصاب المملكة بأسرها، بيد أن أورشليم كانت رمز عظمتها ولاسيما أنها كانت مقر الهيكل المقدس؛ لهذا شرع إرمياء في تصوير مشاهد صادقة من ماضيها المجيد ثم حاضرها الفاجع، وأورد لنا تعليلات لدواعي سقوطها أهمها الخطيئة:
”ارْتَكَبَتْ أُرُوشَلِيمُ خَطِيئَةً نَكْرَاءَ فَأصْبَحَتْ رَجِسَةً. جَمِِيعُ مُكَرِّمِيهَا يَحْتَقِرُونَهَا لأَنَّهُمْ شَهِدُوا عُرْيَهَا، أَمَّا هِيَ فَتَنَهَّدَتْ وَتَرَاجَعَتِ القَهْقَرَى.
”قَدْ عَلِقَ رِجْسُهَا بِذُيُولِهَا. لَمْ تَذْكُرْ آخِرَتَهَا، لِهَذَا كَانَ سُقُوطُهَا رَهِيبَاً، وَلاَ مُعَزِّيَ لَهَا“.
لم يحاول الشاعر أن يُبرر ذنوبها ويتستّر على أرجاسها على الرغم من حبه للمدينة، ولكننا نراه يلوب حزنا على النكبة التي أحاقت بها.
ثم لا يلبث الشاعر أن ينتقل بنا إلى تجربته الشخصية فيهتف من قلب موجع:
”أَلاَ يَعْنِيكُمْ هَذَا يَا جَمِيعَ عَابِرِي الطَّرِيقِ؟
”تَأَمَّلُوا وَانْظُرُوا، هَلْ مِنْ أَلَمٍ كَأَلَمِي الَّذِي ابْتَلاَنِي بِهِ الرَّبُّ فِي يَوْمِ احْتِدَامِ غَضَبِهِ؟
”مِنَ العَلاَءِ صَبَّ نَارَاً فِي عِظَامِي فَسَرَتْ فِيهَا.
”نَصَبَ شَرَكَاً لِقَدَمَيَّ فَرَدَّنِي إِلَى الوَرَاءِ. جَعَلَنِي أَطْلاَلاً أَئِنُّ طُولَ النَّهَارِ.
”شَدَّ مَعَاصِيَّ إِلَى نِيرٍ، وَبِيَدِهِ حَبَكَهَا فَنَاءَ بِهَا عُنُقِي. أَوْهَنَ الرَّبُّ قُوَايَ وَأَسْلَمَنِي إِلَى يَدٍ لاَ طَاقَةَ لِي عَلَى مُقَاوَمَتِهَا“.
وإذ يبلغ ألمه حدّاً لا يحتمل يقول:
”كَلَّتْ عَيْنَايَ مِنَ البُُكَاءِ، جَاشَتْ أَحْشَائِي وَأُرِيقَتْ كَبِدِي حُزْنَاً لِدَمَارِ ابْنَةِ شَعْبِي...“
لقد تمت الوحدة العضوية ما بين ذات الشاعر والمدينة المدمرة المهجورة في صياغة شعرية قلّ أن نجد لها نظيراً في شعر رثاء المدن والممالك. فمن وجهة فنية أصبح النبي هو المدينة والمدينة هي النبي.
وأخيرا لا بد من الإشارة إلى أن من خصائص الشعر العبراني القديم التوازي من طباق وجناس وكنايات وترادف، فضلا عن التشبيهات والمؤالفة بين الألفاظ والموازنة بين فكرة وفكرة. وهي في ذاتها تولد إيقاعا داخليا تخفق الترجمات في تبيانه.
من كتاب المؤلف:
الأدب الكتابي في معركة الحياة