نيسان April 2010
كثيراً ما يتلقّى معمل السجّاد طلبيّات لرسوم متنوعة من الزبائن، لكن يُحكى أن أحد الزبائن طلب مرة أن يصنعوا له سجادة في وسطها صليب كبير. كانت فرحة الرجل عظيمة عندما استلم سجّادته بعد أيام، ووضعها في مدخل بيته ودعا زميلاً مسيحيًّا له لزيارته. ولما رأى المسيحيّ الصليب على أرض السجّادة داس عليها من أوّلها إلى آخرها والرجل يحدّق فيه ولا يصدّق. أتدوس صليبًا تبشّرني أنه طريق الخلاص؟ لكن المسيحيّ أجاب بحكمة: "في صليب بْيِِنْداس، وصليب بْيِِنْباس، وصليب بْيِنْحَطّ ع الرَّاس"، وتابع يشرح له:
يوجد ثلاثة صلبان يا صديقي:
1- صليب يستحقّ أن ندوسه بأرجلنا تماماً كما دسْتُ على الصليب في وسط سجّادتك. وهو صليب اللصّ الذي عَيَّرَ المسيح، فقد كُتِب عنه، "وَكَانَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُذْنِبَيْنِ الْمُعَلَّقَيْنِ يُجَدِّفُ عَلَيْهِ قَائِلاً: إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ، فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا!" لوقا 39:23. فقد عاش شرّيراً ومات وهو يجدّف ولم يستفدْ من وجود المسيح بقربه.
2- صليب يستحقّ أن نقبّله، وهو الصليب الذي حمل اللصّ الآخر، ويبدو أنه شارك رفيقه في تعييره للمسيح في البداية، ولكنّه وهو الأقرب له من كل الجموع، سمع جميع الكلمات المباركة التي نطق بها وهو في عمق الألم، سمعه يصفح لصالبيه ويقول: يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ" (لوقا 34:23). وعرف أن المصلوب بجواره ليس إنساناً خاطئاً مثله ومثل زميله، فقال: "أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ اللهَ، إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟ أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْل، لأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا، وَأَمَّا هذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا لَيْسَ فِي مَحَلِّه" (40-41). وبعدها تضرّع إلى المسيح بكلماته المشهورة: ”اذْكُرْنِي يَارَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ“ (42)، وحصل منه على الوعد الثمين، ”الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ“ (43). فصليبه مكرّم لأنه بِسَبَبِهِ تَعَرَّفَ على المخلّص ونجا ولو في ساعاته الأخيرة على هذه الأرض من شقاء أبديّ إلى نعيم لا يفنى.
3- وصليب يوضع على الرأس. وهو صليب المسيح المبارك. فبموت المسيح تصير لنا الحياة، ولا عجب أن يشيد بولس: "وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (غلاطية 14:6) فهو طريق خلاصنا وبه ننتقل من الموت إلى الحياة.
ولكن أدعوكم للتأمل معي في ثلاثة مصلوبين آخرين لم يرد ذكرهم في قصة الصلب وليس لهم صلبان خشبية حقيقيّة مع أننا نراهم في صفحات الأناجيل الأربعة. فمن هم يا ترى؟
1- صكّ الدين
أو حكم الدينونة الذي كان علينا جميعاً. "إِذْ مَحَا الصَّكَّ الَّذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ، الَّذِي كَانَ ضِدًّا لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ الْوَسَطِ مُسَمِّرًا إِيَّاهُ بِالصَّلِيبِ" (كولوسي 14:2). ولذلك نهتف قائلين: "إِذًا لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ" (رومية 1:8). ومع أن هذا يرد في رسالة الرسول بولس لكن يمكن أن نقرأ عنه ما بين سطور قصة الصلب في الأناجيل. فيخبرنا شاهد العيان يوحنا الحبيب أن المسيح ”قَالَ: قَدْ أُكْمِلَ. وَنَكَّسَ رَأْسَهُ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ“ (يوحنا 30:19). وهذه العبارة "قد أكمل" هي ما كان الدائن يستخدمه عندما يُدفَع له الدين، وكانت ختماً يوضع على الصكوك لتأكيد وفاء الدين. وقيلت إتماماً لنبوة في المزمور 22 "يَأْتُونَ وَيُخْبِرُونَ بِبِرهِ شَعْبًا سَيُولَدُ بِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ" (31)، فعبارة "قد فعل" مرادفة لـ "قد أُكمل"؛ والسيّد وفّى بذاته ديوننا وسمّر الصكّ الذي حكم علينا.
2- العالم
وهذا ما ينبغي أن يُصلَب في كل يوم في حياة المؤمن. وكما صرّح بولس، "قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ" (غلاطية 14:6). وقد يقول قائل، لكن العالم حيّ يعجّ بالشُّرور، إلا أنّ ما ينبغي أن نضعه نصب أعيننا هو أن نحسب العالم بشهواته عدواً لله، كما أوصانا التلميذ الحبيب: "لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ. إِنْ أَحَبَّ أَحَدٌ الْعَالَمَ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ الآبِ. لأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ: شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ الآبِ بَلْ مِنَ الْعَالَمِ" (1يوحنا 15:2-16).
3- الإنسان العتيق
فالحرب قائمة بين طبيعتنا الساقطة التي ورثناها من آدم وبين الروح الذي فينا. لذلك دعا المسيح تلاميذه إلى حمل الصليب. يخطئ كثير من الناس عندما يسمّون المرض صليباً، والابن العاق صليباً، ولكن الحقيقة هي أن هذه أمور حتمية لا يستطيع المؤمن تغييرها، أما الصليب الذي يدعونا المسيح إلى حمله طوعاً فهو إنكار النفس، "وَدَعَا الْجَمْعَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي" (مرقس 34:8). والاختيار الذاتي لصلب أهوائنا وشهواتنا في كل يوم "وَلكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ" (غلاطية 24:5). لذلك يذكرنا الرسول بولس قائلاً: "عَالِمِينَ هذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا الْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ الْخَطِيَّةِ، كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضًا لِلْخَطِيَّةِ" (رومية 6:6). وهذا ما ينبغي أن نضعه نصب أعيننا، مثلما صرّح بولس: "أَقْمَعُ جَسَدِي وَأَسْتَعْبِدُهُ" (1كورنثوس 27:9).
وعندما نرى هؤلاء الثلاثة مصلوبين في حياتنا اليومية نغدو شهادة للملا، ونحكي لهم قصة الفادي الذي أحبهم. فالناس لم يروا يسوع مصلوباً ولكن بولس يوبّخ الغلاطِيّين، "أَنْتُمُ الَّذِينَ أَمَامَ عُيُونِكُمْ قَدْ رُسِمَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ بَيْنَكُمْ مَصْلُوبًا!" (1:3) فكيف رُسِم المسيح مصلوباً أمام عيونهم؟ أليس في حياة بولس الذي بشّرهم؟
لقد أحيانا المسيح بموته وقيامته وهو يتوقّع منا أن نحيا له أيضاً "وَهُوَ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ الأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ"
(2 كورنثوس 15:5). وكما أنه صالحنا مع الآب هكذا نحن أيضاً مدعوّون لكي نحيا كسفراء عنه ونسعى في خدمة المصالحة لنردّ كثيرين إلى المسيح الذي أحبّهم وقدّم حياته من أجل خلاصهم.