نيسان April 2010
في ظلمةِ الليل البهيم، هناك فوق تلالِ جثسيمان، جلسنا نحنُ الأعوان، كلٌّ بمحاذاةِ الآخر غارقينَ في الأحزانْ، والتعبُ بادٍ على الأبدانْ، والنومُ يدغدغُ الأجفان. وإثرَ تصريحِ السيد قبلَ الانطلاقِ من ذلك المكان، بأنَّ جميعَنا سوفَ نشكُّ فيه، وأنَّ واحداً بالذاتْ لسوفَ يُنكره أيَّما نُكرانْ، شرَعْنا نردِّد الكلمات، ونطلقُ الشعارات مع بطرسَ والإخوانْ لنقول: كلاَّ، حاشاكَ من النكران، يا تاجَ الرأس وفخرَ الأنام، من المستحيلِ أن نفعل، فهذا ليس في الحسبانْ، لا وليس من الإيمانْ، لأنَّ لكَ الملكَ والصولجان، وأنتَ وحدكَ أملُ الإنسان، ومبعثُُ كلِّ إحسانْ من الآنْ وحتى نهايةِ الأزمان!
وبينما نحن بين الصحوةِ والمنام في جثسيمان، وبطرسُ ويعقوب ملازِمان، وكذا يوحنا للمعلّم الحناَّن، سمعناهُ يقول لهم: ”نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ. اُمْكُثُوا ههُنَا وَاسْهَرُوا مَعِي“، فارتعدَتْ قلوبُنا وارتعشت فرائصُنا اكتئاباً وحزناً نحنُ الآخرين. ولمَّا عاد وأيقظ الثلاثة المقرَّبين، قال لهم بلهجة العتاب: ”أَهكَذَا مَا قَدَرْتُمْ أَنْ تَسْهَرُوا مَعِي سَاعَةً وَاحِدَةً؟ اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. أَمَّا الرُّوحُ فَنَشِيطٌ وَأَمَّا الْجَسَدُ فَضَعِيفٌ“. وفي المرة الأخيرة سمعناه يقول لهم: ”نَامُوا الآنَ وَاسْتَرِيحُوا! هُوَذَا السَّاعَةُ قَدِ اقْتَرَبَتْ، وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي الْخُطَاةِ“ (متى 26).
وبعد قوله لهذا الكلام التفتنا إذ سمعنا وقع أقدام، وحسِبنا أنَّها جحافلُ من العسكر قد وطِئَتِ المكان، وكان حدْسُنا صحيحاً، إذ أقبلَ جمعٌ كثير بسيوفٍ وعصي من عند رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ وكان يهوذا على رأس المقام. وساعة اقترب منه استقبلَهُ بالأحضان وقبَّله قبلة الولهان. وللحال ألقوا عليه الأيادي. عندها جزعْنا جميعاً، ومن هولِ المشهد تركناهُ، وشرعْنا بالهرب كلٌّ يركضُ في اتجاه بعيداً عن كلِّ ما يجري في جثسيمان من شؤون وأشجان.
ومضوا بالمعلم إلى دار رئيس الكهنة وهناك تعرَّض للكثير من الهوان. أما هو فبقي ساكتاً ولم يجب على كل ما قيل فيه من بطلان. وتناهى إلى مسمعنا صوتُ ديكٍ يصيح مرةً ومرتين. فتذكَّرنا للتوّ كلمات المعلم حين قال بكلٍ صدق وأمانْ بأنَّ بطرس الشجاع لسوفَ ينكرهُ ليس مرةً ومرتين بل ثلاثَ مرات، وقبلَ أن يصيحَ ديكٌ صيحاتْ في تلك الليلةِ بالذات. وسرعان ما سيفقدُ الاطمئنان، وسيُخيفه الشيطان، ويرعبه فقدانُ السلطان، وهكذا نطق حقاً بطرس بكلمات اللَّعن والحلْفان، بأنَّه لا يعرف "الرجل"، ولا حتى هو من الجليلِ كانْ. وتحقَّق بالضبط ما تنبَّأ به المعلم. وللحال، تذكَّر بطرس قول السيد بشأن النكران، فبكى أشدَّ بكاء، مليئاً بالمرارة ومفعماً بالأحزان، لأنه بالحق فقد الرِّهان.
وعندما صدر الحكم الجائر بحق المعلم، وعلّقه الأثمةُ الفجَّار فوق صليب العار، غاصتْ قلوبُنا فينا، وخَبا الأملُ والرجاء، وانتفى الإيمانُ ولم يبق في العيانْ إلا سيادةُ الظلام واستبدادُ العسكر الرومان، واستئثارُ الإنسان وسطوةُ الطغيان على الحق والإيمان. ولم يكن أمامَنا من مهربٍ سوى التقهقرِ والتراجعِ إذ فارقَنا الاطمئنانْ وصرنا عبيداً للأوهام وأداةً في يدِ الحيران. ولكن، وبعدَ انقضاءِ حدث الصلب ، وقبل أن يلفظَ المعلم أنفاسَه الأخيرة، لفَّ الظلامُ الأنامْ، لمدة ساعات ثلاث، صرخَ بعدها المعلم، بصوتٍ عظيم وأسلم الروح. فانشقَّ حجابُ الهيكل إلى اثنين ، واعترفَ قائدُ المئة الواقفُ مقابله بأنَّ ابنَ الله كان هذا الإنسان. والنساءُ من بعيد كنَّ ينظرنَ كلَّ ما حدث فرُحْنَ يبكينَ ويلطُمنَ حزناً وأسىً على الذي قضَى وهو بعد في ريعان الصِّبا من دون حسبان. أما نحن التلاميذ والأتباع، فصرْنا خائفين جَزِعين، ومرتبكين ممَّا يمكن أن يفعله فينا رؤساء البلدان من يهودٍ ورومان. فقَبَعْنا في عليَّةٍ بعيدا عن ضوضاءِ الأحداث، عسى أن تهدأ الأمور ويعود كلُ شيء إلى ما كانْ.
وفي فجر أول الأسبوع، بينما نحنُ الأحدَ عشر مجتمعون، إذا بنا نسمعُ قرْعاً قوياً على الباب، ازدادتْ معه دقاتُ قلوبنا، وارتعْنا جدا. وسرح خيالُنا للحيظات بأنَّنا لابدَّ قد وقعْنا في يد اليهود والرومان. ولمَّا قامَ أحدُنا بفتح الباب ونحن مختبئون وراءه، فوجئنا بالمريمتين يخبراننا بأنَّ المعلم قد قام من بين الأموات، وقد لاقاهنَّ قائلاً لهما سلامٌ لكما. وقالتا أيضاً بأنَّه أوصاهما بأن يذهبا ويقولا لنا أن نذهب إلى الجليل وهناك سوف نراه. لم نصدِّق ما سمعَتْه الآذانْ، ولا حتى ما جاء في هذا الإعلان من بَيان. فكلامُ المريمتين ظهرَ لنا كالهذَيَان. وبينما نحن في هذا الزَّوغان، إذا بتلميذي عمواس قد جاءَا وهُما لنفسِ الخبر حاملان، ووجهُهما يطفِرُ بالفرح والعِرْفان، وصارا يؤكِّدان بكل ثقة وإيقانْ بأنِّ المعلم قد رافقهما في رحلتِهما، وأنَّهما لم يعرِفاه إلا عندما كسَر الخبزَ معهما وقتَ العشاء. وهكذا انفتحَتْ أعينهما، لكنه عاد واختفى عنهما.
ونحن في قمةِ الذهول من الأحداثِ المتتابعة هذه، سمعنا جميعا صوتَ المعلم الحنَّانْ يُحيينا وهو يقف بيننا وفي وسطنا ويقول لنا: سلام لكم. فللحال خفنا وظننا لأول وهلةٍ أنَّ روحه آخذٌ في الجولانْ. لكن صوتَ توبيخِه لنا جعَلنا نصحو من غفوتنا، ورأيناه تماماً كما عرفناه، بالعيانْ. قال لنا: ”مَا بَالُكُمْ مُضْطَرِبِينَ، وَلِمَاذَا تَخْطُرُ أَفْكَارٌ فِي قُلُوبِكُمْ؟ اُنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ: إِنِّي أَنَا هُوَ! جُسُّونِي وَانْظُرُوا، فَإِنَّ الرُّوحَ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ كَمَا تَرَوْنَ لِي“ (لوقا 24). عندها أرانا يديه ورجليه. فصرخنا جميعاً من عٌظم الفرح غيرَ مصدِّقين أنَّه حقاً قام وعاد إلينا ليجمعَنا تحتَ لوائِه، وليطرد الخوف من قلوبنا. ثم طلب منا طعاماً. فناولناه جزءا من سمك مشوي وشيئا من شهد العسل ونحن نسبّح بالحمد والشكران. فأخذ وأكلَ قدامنا. وبدأ يذكِّرنا بالكلام الذي قاله لنا وهو بعد معنا، أنَّه لابدَّ أن يتمَّ جميعُ ما هو مكتوب عنه في الناموس والأنبياء. عندها وعندها فقط، فُتِحتِ الأذهانْ، وفهمنا نحن الخائفين معنى مجيئه لكلِّ إنسان، ومغزى آلامِه بالبَيان. وسرعان ما أدركنا حقيقةَ قيامتِه بالبرهان، آخذا على نفسه عقابَ البشر في كلِّ أوانْ وحتى نهاية الأزمان. ولهذا حثَّنا نحنُ شهود العيان أن نحمل رسالة الحق والإيمان، رسالةَ الخلاص والرجاءِ والأمانْ، إلى كل أصقاعِ الدنيا ابتداءً من أورشليم وإلى أقصى البلدان.
وبعدَ ذلك ألبسَنا قوةً علوية، حلَّت علينا، سماوية، ورفع يديه وباركنا، وصار يرتفع عن أعيننا، وهو يصعد منفرداً إلى السماء حيث مركز الآب. وكان المنظرُ رائعاً جداً. وشعرنا بعد ذلك بفرح يغمر قلوبنا، وسلامٍ يسكنُ نفوسنا، وبجرأة غير عادية، تحفِّزنا على الذهاب إلى الناس لنخبرَ بخلاصه المجَّان، ونعلنَ الغفران، وننشر انتصاره على إبليس الشيطان، ونشهدَ بعُظم عمله، وقوةِ قيامته المجيدة. ونبشّر بالحياة الجديدة المنبعثة في قلب كل من يؤمن من أي دينٍ كان. فمنكَ نطلب الغفرانْ على كلِّ الشكوك والأوهام، والخوفِ والأحزان، وعُذراً لك نقول، أيها المعلم، يا ابن الله وابن الإنسان. لأنك وحدك مصدرُ كلِّ قوة وإيمان على مرِّ العصور والأزمان.
التوقيع: الأحدَ عشر