أيار May 2010
بقلم الدكتور لبيب ميخائيل
يعطي الكتاب المقدس بكلا عهديه مكاناً خاصاً للأرامل، وإليك القليل من الكثير الذي قيل عن الأرامل.. والأرملة هي المرأة التي مات زوجها.
"لاَ تُسِيءْ إِلَى أَرْمَلَةٍ مَا وَلاَ يَتِيمٍ" (خروج 22:22).
"الرَّبُّ... يَعْضُدُ الْيَتِيمَ وَالأَرْمَلَةَ" (مزمور 9:146)
"أَبُو الْيَتَامَى وَقَاضِي الأَرَامِلِ، اَللهُ فِي مَسْكِنِ قُدْسِهِ" (مزمور 5:68).
"اَلدِّيَانَةُ الطَّاهِرَةُ النَّقِيَّةُ عِنْدَ اللهِ الآبِ هِيَ هذِهِ: افْتِقَادُ الْيَتَامَى وَالأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ، وَحِفْظُ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ الْعَالَمِ" (يعقوب 27:1).
هكذا تكلم الكتاب المقدس عن الأرامل، وكلمات الكتاب المقدس تصوّر المرأة الأرملة في موقف الضعف، وفي حاجة إلى الحماية والرعاية.. ومن النادر أن تجد أرملة سعيدة، ففي كثير من حالات الترمّل، وخصوصاً الترمّل في سن مبكرة تقضي الأرملة وقتها في رثاء نفسها وسواد حظها.
لكنني أريد أن أقدم في هذه الرسالة أرملة مات زوجها وهي ما زالت في ريعان شبابها، وبدلاً من أن تقضي عمرها ترثي نفسها عاشت للرب، وكانت حياتها حياة التسبيح والفرح والتعبد للرب. وقد ذكر لوقا البشير قصة هذه الأرملة بالكلمات:
"وَكَانَتْ نَبِيَّةٌ، حَنَّةُ بِنْتُ فَنُوئِيلَ مِنْ سِبْطِ أَشِيرَ، وَهِيَ مُتَقدِّمَةٌ فِي أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ، قَدْ عَاشَتْ مَعَ زَوْجٍ سَبْعَ سِنِينَ بَعْدَ بُكُورِيَّتِهَا. وَهِيَ أَرْمَلَةٌ نَحْوَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، لاَ تُفَارِقُ الْهَيْكَلَ، عَابِدَةً بِأَصْوَامٍ وَطَلِبَاتٍ لَيْلاً وَنَهَارًا. فَهِيَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَقَفَتْ تُسَبِّحُ الرَّبَّ، وَتَكَلَّمَتْ عَنْهُ مَعَ جَمِيعِ الْمُنْتَظِرِينَ فِدَاءً فِي أُورُشَلِيمَ" (لوقا 36:2-38).
وقد ذكرت حنة في مناسبة صعود القديسة مريم مع ابنها البكر يسوع إلى أورشليم بعد أن تمت أيام تطهيرها لتقدمه للرب "كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي نَامُوسِ الرَّبِّ: أَنَّ كُلَّ ذَكَرٍ فَاتِحَ رَحِمٍ يُدْعَى قُدُّوسًا لِلرَّبِّ وَلِكَيْ يُقَدِّمُوا ذَبِيحَةً كَمَا قِيلَ فِي نَامُوسِ الرَّبِّ: زَوْجَ يَمَامٍ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ" (لوقا 23:2).
في هذا المشهد العظيم وقفت حنة تسبح الرب.
وحنة تُعتبر مثالاً جميلاً للترمّل، يجب أن تتبعه كل امرأة ترملت في صباها أو شيخوختها.
حنة ترملت في شبابها الباكر
عاشت حنة مع زوج سبع سنين بعد بكوريتها، وبقيت أرملة نحو أربع وثمانين سنة.. وإذا افترضنا أن حنة تزوجت وهي في الخامسة عشرة من عمرها، فتكون قد صارت أرملة وهي في الثانية والعشرين وهي سن مبكرة جداً، وعاشت أرملة أربع وثمانين سنة، وهذا يعني أنها عاشت أكثر من مئة سنة.
كانت حنة نبية، وهذا يعني أن النبوة لم تكن وقفاً على الرجال وحدهم، فمريم أخت موسى كانت نبية (خروج 20:15)، ودبورة كانت نبية (قضاة 4:4)، وخلدة كانت نبيـة (2ملوك 14:22)، وعمل النبي أو النبية هو توصيل رسالة الله للناس.
وحنة عاشت سبع سنين مع زوج بعد بكوريتها، ومن هنا تظهر أهمية احتفاظ الفتاة بعذراويتها حتى تتزوج.
وكانت حنة من سبط أشير، وقد بارك يعقوب عند موته أشير بالكلمات:
"أَشِيرُ، خُبْزُهُ سَمِينٌ وَهُوَ يُعْطِي لَذَّاتِ مُلُوكٍ" (تكوين 20:49). وحنة وجدت الخبز الحقيقي السمين في يسوع المسيح "وَتَكَلَّمَتْ عَنْهُ مَعَ جَمِيعِ الْمُنْتَظِرِينَ فِدَاءً فِي أُورُشَلِيمَ".
حنة لم ترثِ حظها العاثر
لم تشكّ حنة في محبة الرب الذي سمح بحرمانها من زوجها، ولم توجه اللوم إليه، ولم تفقد إيمانها به، ولم تتذمّر عليه.. بل تقبّلت موت زوجها خاضعة لحكمته وخطته لحياتها، وقررت أن تقضي بقية حياتها في عبادته.. وهذا واضح من الكلمات: "وَهِيَ أَرْمَلَةٌ نَحْوَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، لاَ تُفَارِقُ الْهَيْكَلَ، عَابِدَةً بِأَصْوَامٍ وَطَلِبَاتٍ لَيْلاً وَنَهَارًا" (عدد 37).
هذه صورة رائعة لأرملة شابة.. أرملة تقبّلت إرادة الله بتسليم كامل، واتخذته قاضياً لها، يرعاها، ويحميها، ويملأ حياتها بالفرح والسلام. وهي تذكرنا بأرملة عاشت قبلها بزمن طويل، وهي راعوث الموآبية...
هذه المرأة تزوجت من شاب عاشت معه وقتاً قصيراً.. ومات وهي ما زالت في شبابها الباكر، ولم تتذمّر راعوث... كانت حماتها تحدثها عن إله إسرائيل، إله المعجزات، الذي أخرج شعبه من أرض مصر، بيت العبودية بيد قوية، وآمنت راعوث بهذا الإله العظيم، آمنت به بناء على ما قالته لها حماتها عنه. "إِذًا الإِيمَانُ بِالْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللهِ" (رومية 17:1). فلما مات زوجها لم تشكّ في محبة هذا الإله، ولم توجّه إليه اللوم، وتركت أباها وأمها وأرض مولدها لتعود مع حماتها إلى أرض إسرائيل، وتحتمي تحت جناحي إله إسرائيل. ولما رجعت سلفتها بعد موت زوجها إلى شعبها وآلهتها، وطلبت منها "نعمي" حماتها أن ترجع هي الأخرى كما رجعت سلفتها، "قَالَتْ رَاعُوثُ: لاَ تُلِحِّي عَلَيَّ أَنْ أَتْرُكَكِ وَأَرْجعَ عَنْكِ، لأَنَّهُ حَيْثُمَا ذَهَبْتِ أَذْهَبُ وَحَيْثُمَا بِتِّ أَبِيتُ. شَعْبُكِ شَعْبِي وَإِلهُكِ إِلهِي. حَيْثُمَا مُتِّ أَمُوتُ وَهُنَاكَ أَنْدَفِنُ" (راعوث 16:1-17). كانت راعوث مثالاً جميلاً لتعامل الكنّة مع حماتها.. وقد كافأ الرب راعوث الأرملة التي تركت أباها وأمها وشعبها، وذهبت مع حماتها لتعتني بها في شيخوختها، وأحبّت الرب رغم موت زوجها، فكافأ الرب إيمانها بأن أعطاها زوجاً صالحاً هو "بوعز" وأنتج هذا الزواج الابن الذي من نسله جاء يسوع المسيح. وهكذا صارت "راعوث" جدة ليسوع مخلص العالم.
هذه صورة جميلة لأرملة أحبت الرب وتمسّكت به رغم الأحزان التي مرت بها.
حنة عرفت كيف تستثمر عمرها العابر
ذكر بولس الرسول بعض الأرامل بالكلمات: "أَمَّا الأَرَامِلُ الْحَدَثَاتُ فَارْفُضْهُنَّ... يَتَعَلَّمْنَ أَنْ يَكُنَّ بَطَّالاَتٍ، يَطُفْنَ فِي الْبُيُوتِ. وَلَسْنَ بَطَّالاَتٍ فَقَطْ بَلْ مِهْذَارَاتٌ أَيْضًا، وَفُضُولِيَّاتٌ، يَتَكَلَّمْنَ بِمَا لاَ يَجِبُ" (1تيموثاوس 11:5 و13)، أما حنة فلم تكن من هذا النوع.. لقد عرفت كيف تستثمر عمرها العابر.
وعمر الإنسان مهما طال فهو قصير، ولذا صلى داود هذه الصلاة: "عَرِّفْنِي يَا رَبُّ نِهَايَتِي وَمِقْدَارَ أَيَّامِي كَمْ هِيَ، فَأَعْلَمَ كَيْفَ أَنَا زَائِلٌ" (مزمور 4:39). ثم أعطى داود مقاييس العمر، فقال:
إن العمر يقاس بالأشبار "هُوَذَا جَعَلْتَ أَيَّامِي أَشْبَارًا" (مزمور 5:39).
أن الإنسان نفخة "إِنَّمَا نَفْخَةً كُلُّ إِنْسَانٍ قَدْ جُعِلَ" (مزمور 5:39).
وأن الإنسان مجرد خيال "إِنَّمَا كَخَيَال يَتَمَشَّى الإِنْسَانُ" (مزمور 6:39).
أما موسى النبي فقال: "أَيَّامُ سِنِينَا هِيَ سَبْعُونَ سَنَةً، وَإِنْ كَانَتْ مَعَ الْقُوَّةِ فَثَمَانُونَ سَنَةً، وَأَفْخَرُهَا (وهي أيام الشباب) تَعَبٌ وَبَلِيَّةٌ، لأَنَّهَا تُقْرَضُ سَرِيعًا فَنَطِيرُ" (مزمور 10:90).
عرفت حنة بقربها من الرب هذه الحقائق، وعزمت أن تقضي عمرها في التعبد لإلهها، والتلذّذ بالشركة معه.
حنة رأت في مولود بيت لحم الفادي البار
إذ رأت حنّة القديسة مريم تحمل وليدها يسوع "فَهِيَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَقَفَتْ تُسَبِّحُ الرَّبَّ، وَتَكَلَّمَتْ عَنْهُ مَعَ جَمِيعِ الْمُنْتَظِرِينَ فِدَاءً فِي أُورُشَلِيمَ" (لوقا 38:2).
لقد رأت حنة النبية، التي زاد عمرها عن مئة سنة، في الطفل يسوع الذي كانت تحمله أمه، الفادي الذي تمت فيه نبوات الأنبياء.
عرفت حنة أن هذا الوليد هو الذي تنبأ إشعياء عن ولادته من عذراء حين قال: "وَلكِنْ يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ" (إشعياء 14:7).
عرفت حنة أن هذا الوليد هو الذي تنبأ ميخا النبي عن مكان ميلاده عندما قال: "أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمَِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطًا عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ، مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ" (ميخا 2:5).
وأصغت حنة إلى كلمات سمعان الشيخ الذي أخذ يسوع على ذراعيه وبارك الله وقال: "الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ، الَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ، وَمَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ. وَكَانَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ يَتَعَجَّبَانِ مِمَّا قِيلَ فِيهِ. وَبَارَكَهُمَا سِمْعَانُ، وَقَالَ لِمَرْيَمَ أُمِّهِ: هَا إِنَّ هذَا قَدْ وُضِعَ لِسُقُوطِ وَقِيَامِ كَثِيرِينَ فِي إِسْرَائِيلَ، وَلِعَلاَمَةٍ تُقَاوَمُ. وَأَنْتِ أَيْضًا يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ، لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ" (لوقا 29:2-35).
أدركت حنة أن يسوع هو "خلاص الله"، كما قال ملاك الرب الذي ظهر ليوسف في حلم: "لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ. لأَنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ. لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ" (متى 20:1-21).
وعرفت حنة أن يسوع هو نور إعلان للأمم، وأنه جاء لجميع الشعوب. ورأت ظلال الصليب في العلامة التي تقاوم.. وشاركت مريم في مشاعرها وهي ترى ابنها على الصليب، لتُعلن أفكار من قلوب كثيرة..
ورأت أن الصليب كان تدبيراً أزلياً "لتعلن أفكارٌ من قلوب كثيرة".. قلوب شريرة، كقلوب رؤساء الكهنة الذين أسلموا يسوع للصلب، وقلب بيلاطس الوالي الجبان، الذي خاف على منصبه، فأسلم يسوع للصلب.
لكن الصليب أعلن مع هذا كله عظمة محبة الله، وفكره من ناحية الإنسان كما قال بولس الرسول: "وَلكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا" (رومية 8:5).
هذا كله عرفته هذه الأرملة السعيدة.. التي رغم تقدمها في السن "وقفت".. فالسنون لم تحنِ ظهرها.. فوقفت تسبّح الله.
ولا عجب لأنها "بنت فنوئيل"... وفنوئيل هو اسم المكان الذي رأى يعقوب فيه الله.. وباركه الله هناك وقال له: "لاَ يُدْعَى اسْمُكَ فِي مَا بَعْدُ يَعْقُوبَ بَلْ إِسْرَائِيلَ" (تكوين 28:32). فحنة بنت فنوئيل.. بنت مكان رؤية وجه الله. كانت أرملة فرحانة بالرب!
حنة هي مثال يُحتذى، وإذا اتخذتها كل امرأة سمح الرب أن يأخذ منها زوجها مثالاً لها، لعاشت حياة مملوءة بالفرح السماوي.. أو بعبارة أخرة لاختبرت رغم ترملها كيف تكون أرملة سعيدة.