حزيران June 2010
في الحلقة الماضية، تناولنا موضوع "المسيح رسالة الله للعالم" كما ورد في سفر العبرانيين الأصحاح الأول الزّاخر بكلماتٍ تصف المسيح بأسمى وأمجد الأوصاف. ولا بد من التذكير هنا بأنّ هذا السفر هو أحد أسفار العهد الجديد الذي هو الانجيل، ويخاطب جماعة العبرانيين اليهود الذين آمنوا بالمسيح، وانسلخوا عن اليهودية، وصاروا مؤمنين مسيحيين، وتعرضوا للاضطهاد من بني لحمتهم، فجاءت الرسالة
لتشجعهم على الاستمرار في مسيرة إيمانهم، وأن لا يرضخوا لنداءات العودة إلى زخارف الطقوس الدينية اليهودية التي هجروها، ولذلك جاء تسليط الضوء في هذا السفر مذكراً بسموّ ورفعة المسيح فوق كل الأنبياء والملائكة.
ويقع هذا السفر في 13 أصحاح تكاد كلها تسلّط الضوء على شخص المسيح وهويته، وسموّ مجده.
ولعلنا لا نبالغ لو قلنا بأن ما ورد في هذا السفر من وصف لهوية المسيح لمن أعظم، وأروع، وأعمق، وأوضح ما وصف به في أسفار الكتاب المقدس. فالكلمات تبدأ قوية من أولها وتضع الحقيقة أمام عيني المطّلع بكل دقةٍ ووضوح، وإليكم بعضاً منها:
يبدأ الأصحاح الأول بالقول: "الله، بعد ما كلّم الآباء بالأنبياء قديماً، بأنواعٍ وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه، الذي جعله وارثاً لكل شيء، الذي به أيضاً عمل العالمين، الذي، وهو بهاءُ مجده، ورسم جوهره، وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته، بعد ما صنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا، جلس في يمين العظمة في الأعالي، صائراً أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسماً أفضل منهم".
فالحقيقة الأولى التي يؤكد عليها الوحي هنا هي أن الله في زمن التوراة كان يكلم الناس عن طريق الأنبياء، ولما جاء المسيح صار الله يكلم الناس من خلال المسيح الذي يصفه بأنه بهاء مجد الله ورسم جوهره، وأنه هو حامل كل الأشياء بكلمة قدرته.
كلمات قوية فعلاً وهي في غاية الإيجاز، لكنها مكثفة غنية وصريحة في ما ترمي إليه. فالسؤال الآن:
ما الذي كلمنا الله به من خلال المسيح؟
الله كلمنا بالمسيح عن طبيعة الله بأن الله هو:
أولاً: راعٍ صالح
ثانياً: إله محب
ثالثاً: أب سماوي
لذلك فهو يستحق أن يُعْبَد وأن يُحبَّ وأن يُطاع...
المسيح جسّد هذه المعاني، وهو قام بهذا الدور، فكان وما زال الراعي الصالح والإله المحب والأب الرؤوف.
حدثنا المسيح يوماً عن الراعي الذي غاب أحد خرافه، وابتعد عن القطيع، وضاع في شعاب الأرض. فترك الراعي خرافه الأُخر في البرية، وذهب يفتّش عن الخروف الضال في مخابىء الأرض، بين الأشواك والمغائر وشقوق الجبال حتى وجده. وحين وجده حَملَه على منكبيه وعاد به فرحاً إلى حظيرة الخراف.
هذا ما جاء لأجله المسيح. فهو ترك عرش السماء ونزل إلى أرضنا ليفتش علينا نحن الذين ضللنا وابتعدنا ليردّنا إلى حظيرة الله.
والمسيح أكّد ذات المعنى بصورة مثل آخر هو مثل الابن الضال في إنجيل لوقا أصحاح 15، فسلّط هناك الضوء على حنان الأب وعطفه على ولده الشارد الذي رجع - بعد تيهٍ وضياع - تائباً نادماً طالباً الرحمة والغفران على ما فات فتقبله الأب، واحتضنه، ورحّب به فرحاً، وغمره بحنانه وكرمه، وأمر عبيده أن يلبسوه حلةً جديدة، وأن يضعوا خاتماً جديداً في يده. فأعاد له كرامته واحتفل بعودته أمام عيون عبيده قائلاً: ابني هذا كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوُجد.
فالأب هنا يمثل الله.. والابن الضال يمثل كل انسان. فكلنا "كغنمٍ ضللنا. ملنا كل واحد إلى طريقه". هذا هو شكل الإله الذي تعبده المسيحية! والمسيح قام بهذا الدور وجسّد هذه المعاني في حياته على الأرض. فهو جاء من أجل الخطاة.. ودفع من أجلهم الثمن الغالي على صليب الفداء ليُؤمِّن لهم الحياة الأبدية.
شيء آخر أعلنه الله لنا من خلال المسيح:
أعلن الله لنا من خلال المسيح القدوس عمق أبعاد الخطية وبشاعتها
لقد وضعت الخطية فاصلاً بين الإنسان والله. يقول الوحي: "آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم، وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع. لأن أيديكم قد تنجست بالدم، وأصابعكم بالإثم. شفاهكم تكلمت بالكذب، ولسانكم يلهج بالشر. ليس من يدعو بالعدل، وليس من يحاكم بالحق".
ويقول الإنجيل في الرسالة إلى رومية: "أجرة الخطية هي موت. وأما هبة الله فهي حياة أبدية...". الخطية خاطئة جداً تقود إلى الهلاك. والشيطان بخبرته الطويلة يعرف كيف يزيّن الخطية بثوب براقٍ شهي ليسقط الناس في شباكها. والمسيح جاء لخلاص الناس من الخطية المتغلغلة في قلب كل انسان. ونذكر هنا أنه عندما طُرد آدم من الجنة، طُرد لأجل خطية واحدة. والله بقدسيته ما زال على موقفه من كل خطية أو عصيان، ولا يمكن للخاطي أن يدخل السماء من دون أن تُغفر خطاياه. والطريق الوحيد لغفران الخطايا هو في قبول دم المسيح للتكفير عن خطاياه. فعلى حساب دم المسيح يتم غفران الخطايا لكل من يرجع إليه تائباً. والمسيح أكّد على هذه الحقيقة في كثير من أقواله. ومنها قوله: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيليّ الأحمال وأنا أريحكم".
الخطية تجلب التعب والهمّ والقلق والضياع. وهنا يقول المسيح: "من يُقبل إليّ لا أخرجه خارجاً"، أي لا أردّه خائباً! الخطية تبني جداراً من الظلام بين الإنسان وربه. لذلك يقول المسيح: "من يتبعني فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة". والنور يطرد الظلمة!
أمرٌ آخر أعلنه الله لنا من خلال المسيح:
وهو أن أعظم ما يمكن أن يحصل عليه انسان هو خلاص نفسه ونجاته من هلاك يوم الدين
فهو من قال: "ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟".
قد يحتاج الإنسان إلى:
الطعام ويحصل عليه...
والمال ويحصل عليه...
وملذات الدنيا حلالها أو حرامها وقد يحصل عليها...
والمركز العالي في المجتمع وقد يحصل عليه...
ولكن عند الموت، كل هذه تصبح فانية لا قيمة لها، ولا يأخذ منها شيئاً... فهناك يُغلق ملف الميت بانتظار يوم الدين حيث يصدر الحكم... فلا استئناف ولا شفاعة تنفع، لأن في لحظة الموت يكون قد تقرر مصير صاحبه! يقول الانجيل: وُضع للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة. فالفترة ما بين غمضة العين في الموت والدينونة لا ينفع فيها شيء، لأن الحياة في الدنيا تمثِّل فترة الامتحان التي يكرم المرء بعدها أو يُهان. والمسيح أوضح هذا في ما قاله عن لعازر المسكين والغني لابس الأرجوان (راجع إنجيل لوقا 16 لتتأكد أن لا شيء ينفع الميت بعد إغلاق ملفه).
أختم بقول المسيح: "أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل". ويؤكد الإنجيل على هذا بقوله: "الله يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون".
قارئي العزيز، ها هي المعلومة الآن بين يديك وأنت صاحب القرار.