تشرين الأول Oct 2010
إن مقولة النمو لها شأن بالغ الأهمية في المسيحية! فالمسيحي الحق هو كائن حيّ وحياته تلك ليست ذاتية بل هي حياة الله فيه بالروح القدس. وكل كائن ذي حياة يمتاز في صدر امتيازاته بالنموّ الذي لا بدّ منه لتحقيق غرض الحياة. فإن الله له غرض متكامل في نموّ المؤمن وهذا الغرض يظهر واضحًا في إعلانات الكتاب المقدس، حيث يفرّق الكتاب بين نوعين من البشر كلاهما ينمو ولكن غاية نموهما مختلفة متضاربة. ونجد هذين النوعين معًا في مزمور 92 مثلاً حيث يقول الوحي: "إِذَا زَهَا الأَشْرَارُ كَالْعُشْبِ، وَأَزْهَرَ كُلُّ فَاعِلِي الإِثْمِ،
فَلِكَيْ يُبَادُوا إِلَى الدَّهْرِ" (عدد 7). ثم ينتقل إلى الصورة الأخرى فيقول: "اَلصِّدِّيقُ كَالنَّخْلَةِ يَزْهُو، كَالأَرْزِ فِي لُبْنَانَ يَنْمُو. مَغْرُوسِينَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ، فِي دِيَارِ إِلهِنَا يُزْهِرُونَ. أَيْضًا يُثْمِرُونَ فِي الشَّيْبَةِ. يَكُونُونَ دِسَامًا وَخُضْرًا لِيُخْبِرُوا بِأَنَّ الرَّبَّ مُسْتَقِيمٌ. صَخْرَتِي هُوَ وَلاَ ظُلْمَ فِيهِ" (الأعداد 12-15).
وإذا أردنا أن نستقرئ الفوارق بين هذين الناميَين فنقول:
1- إن نموّ أهل العالم هو نموّ خارجي مظهري، أما نموّ المؤمن فهو داخلي معنوي.
2- إن نموّ الأشرار يعطي أزهارًا فقط أما نموّ المؤمن فينتج ثمرًا لفائدة المجتمع.
3- إن نهايات الشرير بائسة وبغير رجاء أما أواخر المؤمن فهي مباركة مليئة بالرجاء والشهادة لمجد الرب.
4- إن مصير الأشرار مهما نموا فهو إلى الخراب والفناء في أبدية الشقاء، أما مصير المؤمن فهو البقاء في الأبدية السعيدة مع المسيح.
ونجد هذه المقارنة في مواضع أخرى كثيرة في كلمة الله. ففي المزمور الأول يقول المرنم عن المؤمن: "فَيَكُونُ كَشَجَرَةٍ مَغْرُوسَةٍ عِنْدَ مَجَارِي الْمِيَاهِ، الَّتِي تُعْطِي ثَمَرَهَا فِي أَوَانِهِ، وَوَرَقُهَا لاَ يَذْبُلُ. وَكُلُّ مَا يَصْنَعُهُ يَنْجَحُ" (عدد3). ثم يقول: "لَيْسَ كَذلِكَ الأَشْرَارُ، لكِنَّهُمْ كَالْعُصَافَةِ (القش اليابس) الَّتي تُذَرِّيهَا الرِّيحُ" (عدد 4).
سرت يومًا برفقة أحد الخبراء الزراعيين الذي كان يعمل في تطوير بعض المحاصيل، وجئنا إلى أحد الحقول، وكانت فيه نبتات نامية. ولكني لاحظت بينها نبتات صغيرة جدًا فسألته: لماذا زرعت تلك النبتات الصغيرة في وقت متأخر بين تلك النبتات النامية؟ فأجابني: تلك النبتات مزروعة في وقت واحد، ولكن تلك الصغيرة جدًا مصابة بمرض يسمّى "تقزّم النبات". فليحمنا الرب من مرض التقزّم الروحي، فالبعض رغم السنين الطويلة يظلّ يجترّ على نفس البدائيات التي تعلّمها منذ زمن طويل، أو التي سمعها من أسلافه الأولين!! أو يقلّد ما يراه في محيطه دون تقييم أو تثمين.
فما هي مجالات نموّ المؤمن؟
ينمو المؤمن متقدمًا في دوائر ثلاث:
أولاً: دائرة الذهن
إن نموّ الذهن الروحي يعني نموّ المؤمن في المعرفة الكتابية واستجلاء الحقائق الروحية. فيتقدّم من الأساسيات إلى التعمّق في الروحيات كما يتقدّم التلميذ في صفوفه الدراسية. يقول الرسول بولس: "لِتَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلرَّبِّ، فِي كُلِّ رِضىً، مُثْمِرِينَ فِي كُلِّ عَمَل صَالِحٍ، وَنَامِينَ فِي مَعْرِفَةِ اللهِ" (كولوسي 10:1). وعبارة معرفة الله هنا تعني معرفة أمور الله وكل ما هو مستقيم في عينيه، ما يرضيه وما يغيظه. وهذا النوع من النموّ كان موضوع صلاة بولس الرسول في رسالته إلى أهل أفسس 16:1-18 "لاَ أَزَالُ... ذَاكِرًا إِيَّاكُمْ فِي صَلَوَاتِي، كَيْ يُعْطِيَكُمْ إِلهُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ... رُوحَ الْحِكْمَةِ وَالإِعْلاَنِ فِي مَعْرِفَتِهِ، مُسْتَنِيرَةً عُيُونُ أَذْهَانِكُمْ، لِتَعْلَمُوا مَا هُوَ رَجَاءُ دَعْوَتِهِ، وَمَا هُوَ غِنَى مَجْدِ مِيرَاثِهِ فِي الْقِدِّيسِينَ..." (ويرجى إكمال القراءة حتى نهاية الأصحاح). ومكتوب عن التلاميذ أن الرب فتح ذهنهم ليفهموا الكتب. وهذا ما يؤكد على ضرورة الصلاة الملحة إلى الرب قبل قراءة الكلمة الإلهية والتأمل فيها إذ أننا بحاجة دائمًا لكي يفتح الرب أذهاننا لكي نفهم.
وهناك حالات سلبية لذلك النموّ - والمفترض أن يتم آليًا للذين يقرأون الكتاب ويطالعون التعاليم الإلهية - وجهلٌ مطلق للذين لا يقرأون الكلمة. وفي هذه الدائرة أيضًا تنشأ البدع والهرطقات والضلالات الكثيرة وهي أمراض تفسد الذهن الروحي وتمنعه من النموّ الصحيح. فيتكلم الكتاب عن:
1- أذهان غليظة: "بَلْ أُغْلِظَتْ أَذْهَانُهُمْ، لأَنَّهُ حَتَّى الْيَوْمِ ذلِكَ الْبُرْقُعُ نَفْسُهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ بَاق غَيْرُ مُنْكَشِفٍ، الَّذِي يُبْطَلُ فِي الْمَسِيحِ" (2كورنثوس 14:3). وهنا يتكلم الرسول بولس عن ذلك البرقع الذي وضعه بنو إسرائيل على قلوبهم لكي لا يستطيعوا أن يروا مجد المسيح بوجه مكشوف من خلال العهد القديم. فرغم كل الإعلانات الواضحة التي أشارت إلى الرب يسوع لكنهم رفضوا أن يؤمنوا به.
2ً- أذهان عمياء: "وَلكِنْ إِنْ كَانَ إِنْجِيلُنَا مَكْتُومًا، فَإِنَّمَا هُوَ مَكْتُومٌ فِي الْهَالِكِينَ، الَّذِينَ فِيهِمْ إِلهُ هذَا الدَّهْرِ (الشيطان) قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ الْمَسِيحِ، الَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ" (2كورنثوس 3:4-4). ويقارن بين حالة هؤلاء وحالة المؤمنين بقوله: "لأَنَّ اللهَ الَّذِي قَالَ: أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (2كورنثوس 6:4).
3ً- أذهان فاسدة: "وَكَمَا قَاوَمَ يَنِّيسُ وَيَمْبِرِيسُ مُوسَى، كَذلِكَ هؤُلاَءِ أَيْضًا يُقَاوِمُونَ الْحَقَّ. أُنَاسٌ فَاسِدَةٌ أَذْهَانُهُمْ، وَمِنْ جِهَةِ الإِيمَانِ مَرْفُوضُونَ" (2تيموثاوس 8:3). وقد ترجم "آرثر واي" عبارة فاسدة أذهانهم بقوله: "إن أذهانهم فاسدة ومهترئة في الأعماق". فهي فاسدة مشوّهة ومنحرفة بقصد مقاومة الحق.
4ً- أذهان مظلمة: "لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ. وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ" (رومية 21:1-22). وقد جمع الرسول بولس هنا الفكر مع القلب مُكنّيًا بهما عن الذهن البليد الأحمق المغلق عن معرفة الله الذي تعلن عنه الطبيعة والخليقة بكمالها ونظامها العجيب، ولكنهم لا يستطيعون أن يبصروا أو يدركوا في أذهانهم لأنها مظلمة.
5ً- أذهان نجسة: "كُلُّ شَيْءٍ طَاهِرٌ لِلطَّاهِرِينَ، وَأَمَّا لِلنَّجِسِينَ وَغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ شَيْءٌ طَاهِرًا، بَلْ قَدْ تَنَجَّسَ ذِهْنُهُمْ أَيْضًا وَضَمِيرُهُمْ. يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ اللهَ، وَلكِنَّهُمْ بِالأَعْمَالِ يُنْكِرُونَهُ، إِذْ هُمْ رَجِسُونَ غَيْرُ طَائِعِينَ، وَمِنْ جِهَةِ كُلِّ عَمَل صَالِحٍ مَرْفُوضُونَ" (تيطس 15:1-16).
6ً- أذهان مرفوضة: "وَكَمَا لَمْ يَسْتَحْسِنُوا أَنْ يُبْقُوا اللهَ فِي مَعْرِفَتِهِمْ، أَسْلَمَهُمُ اللهُ إِلَى ذِهْنٍ مَرْفُوضٍ لِيَفْعَلُوا مَا لاَ يَلِيقُ" (رومية 28:1). وإذا قرأنا الأعداد اللاحقة حتى نهاية الأصحاح فإننا نتبيّن أن أصحاب هذه الأذهان المرفوضة رفضوا معرفة الله أولاً ورفضوا كل ما تُعلّم كلمته المقدسة بإرادتهم وتصميمهم، لذلك فقد حصلوا على تلك العاقبة ووصلوا إلى أدنى دركات الانحطاط في الفكر والقناعة وبالتالي السلوك أيضًا.
أما تجنّب الوقوع في هذه الأمراض فلا يمكن أن يحصل إلا بواسطة العودة إلى الله من كل القلب، والتواضع أمامه، وطلب عمل نعمته في القلب، وإنارة روح قدسه للفكر والضمير. وعندها يستطيع الإنسان أن ينمو في الاتجاه الصحيح.
ثانيًا: دائرة العواطف والمشاعر
ومركزها بحسب الكتاب المقدس هو ما يسمى "بالقلب" ولا يعني به العضلة اللحمية بل المحرّك المعنوي. وهذه الدائرة تحكم أحاسيس الفرد نحو ذاته وتوجّه علاقاته مع الآخرين. وإن النمو في هذا المجال "بحسب الفكر الإلهي" هو زيادة قدرة المؤمن للتحكّم في عواطفه ومشاعره.
أ- فمن حيث التحكم بمشاعره بالنسبة لذاته، يصبح المؤمن قابلاً لذاته ويتخلّص من مشاعر الخوف، واليأس، والفشل، ورثاء الذات.
ب- ومن حيث التحكّم بعواطفه تجاه الآخرين، فهو يتقدّم في التحكم عليها بحيث يصبح:
1- محبًا وليس مبغضًا. إن فقرات كثيرة وأشعارًا كاملة في الكتاب المقدس تتحدث عن فضائل المحبة الصادقة التي تنمو في قلب المؤمن فتطرد منه البغضاء الذميمة في نظر الله. "سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ... لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ..." (متى 43:5-45). حيث يحثّ رب المجد في موعظة الجبل على تجنّب البغضاء مهما كانت الظروف. ويقارن الرسول بينها وبين القتل فيقول: "كُلُّ مَنْ يُبْغِضُ أَخَاهُ فَهُوَ قَاتِلُ نَفْسٍ" (1يوحنا 15:3).
2- ويصبح غيريًا لا أنانيًا، كما يقول الرسول بولس "لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضًا" (فيلبي 4:2). وهو يطلب من المؤمنين في الأعداد اللاحقة أن يكونوا متمثّلين بالمسيح الذي أخلى نفسه لأجل خلاص البشرية.
3- ويصبح متواضعًا لا مستكبرًا. ويحذّر الكتاب المقدس في عهديه من خطية الكبرياء ويصفها بالكريهة في نظر الله "الَّذِي يَغْتَابُ صَاحِبَهُ سِرًّا هذَا أَقْطَعُهُ. مُسْتَكْبِرُ الْعَيْنِ وَمُنْتَفِخُ الْقَلْبِ لاَ أَحْتَمِلُهُ" (مزمور 5:101).
فهنا يعلن الله عن عدم احتماله للكبرياء رغم كل حلمه وسعة صدره ورحمته الواسعة.
4- ويصبح مسامحًا وليس حاقدًا. يقول الرسول بولس: "وَكُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ اللهُ أَيْضًا فِي الْمَسِيحِ" (أفسس 32:4).
فجميع هذه العواطف والمشاعر يمكن للإنسان أن يجعلها تنمو إلى الأفضل في حياته مهيّئًا التربة التي تترعرع فيها في داخله بواسطة الصلاة وطلب سكنى الروح القدس في القلب، وهو الذي يمنح المؤمن المعونة والعناية الدائمة لكي يبقى قلبه نقيًا، لأن القلب هو مصدر كل الشرور كما سنرى في الحلقة التالية عن "دائرة السلوك".
فليت الرب يعطينا أن نكون في الحالة الروحية المرضية أمامه لكي نستطيع أن نتقدم في هذه الدوائر الهامة في حياتنا اليومية، وله كل المجد والسلطان إلى الأبد.
البقية في العدد القادم