شباط February 2011
غادرت "سلمى" منزلها في الصباح المبكر في طريقها إلى مدفن المدينة الذي لم يكن يبعد كثيرًا عن الحيّ الذي تقطن فيه. كان الطقس باردًا، والسماء متلبّدة بالغيوم، فلفّت وشاحها حول عنقها، وتلفّعت بمعطفها، وانطلقت بخطى متسارعة لتزور ضريح شخصٍ لعب دورًا كبيرًا في حياتها وانقذها من الحالة المزرية التي كانت عليها. وها هي الآن تذهب لزيارة قبره في مناسبات خاصة تقديرًا لِما فعله من أجلها، وتعبيرًا عن محبتها له.
كانت "سلمى" في الثانية عشرة من عمرها عندما وجدت نفسها تائهة في شوارع المدينة لا تجد لنفسها مأوى تلجأ إليه ولا من يعطف عليها. لقد فقدت والديها في أثناء الحرب الأهلية التي أشاعت الدمار والبؤس في بلدها، وقضت على الآلاف من الأبرياء؛ إنها لتذكر تلك الليلة المشؤومة التي انفجرت فيها قذيفة هدّمت البيت الذي تقطن فيه مع والديها فأودت بحياتهما ولم ينجُ أحد سواها؛ وها هي الآن تتساءل: لماذا حافظ الله على حياتها فلم تلقَ نفس مصير والديها. وفكّرت في نفسها: إن الحياة التي قضتها بعد وفاة والديها كانت أقسى من الموت إذ عانت من البؤس والخوف ما لا يعاني منه الموتى. والأنكى من ذلك أنه لم يكن لها قريب في المدينة تفزع إليه ليمدّ إليها يد العون، فقد هاجر والداها من بلدٍ بعيد قد سمعت عنه كثيرًا منهما. ولكن لم يحدث قط أن التقت بأحد أقربائها. وهكذا وجدت نفسها وحيدة شريدة في طرقات مدينة خيّم عليها الموت تبحث عن لقمة الخبز، وتتعرّض فيها للمذلّة. وفي المساء كانت تعود إلى منزلها المتهدّم تحتمي بجدرانه من غائلة البرد القارص ورهبة الليل.
ولشد ما اعتراها الذهول عندما وجدت نفسها هائمة في شوارع المدينة التي أصبحت كالخرائب، فانطوت على نفسها، وتجمّدت الدموع في عينيها. كانت تجلس على قارعة الطريق تستجدي المارة القلائل الذين جازفوا بحياتهم ومكثوا في المدينة، ولكن قلة ضئيلة منهم أشفقوا عليها وأحسنوا إليها ببعض الطعام. وكم ليلة باتت فيها على الطوى، وأخفقت جميع محاولاتها للحصول على أي عمل. فماذا تستطيع أن تقوم به فتاة في الثانية عشرة من عمرها؟
كان قد انقضى عليها نحو ثلاثة شهور عندما التقت به لأول مرة. كانت تستجدي المارة بثيابها الرثّة، ونظراتها المفعمة باليأس. فتوقّف قريبًا منها يرمقها بعين كئيبة. كان رجلاً في العقد الخامس من عمره، تأتلق في عينيه نظرات مليئة بالعطف والحنان، وتطوف على شفتيه ابتسامة مشجعة. أحسّت "سلمى" في بادئ الأمر، بالخوف منه، فأسرعت تغادر مكانها - لتتفادى نظراته التي بدت لها غامضة. وعندما عادت إلى موضعها في اليوم التالي وجدته ينتظرها وبرفقته امرأة تطلّ الطيبة من محيّاها. ترددت "سلمى" قليلاً ثم همّت أن تمضي إلى شارع آخر، ولكن صوتًا رقيقًا قال لها:
- لا تخافي يا ابنتي، فنحن لا نريد لك سوءًا.
توقّفت "سلمى" في مكانها ونظرت إليهما بوجل، ولكن المرأة استطردت قائلة:
- هل يمكننا أن نتحدّث إليك قليلاً؟
تفرّست "سلمى" بهما، ثم أجابت بصوت فيه نبرة من التردّد:
- ماذا تريدان مني؟
جلست المرأة إلى جوارها على رصيف الطريق بينما ظلّ الرجل واقفًا يحدّق إليها بعطف، وأجابت المرأة:
- أنا اسمي "نجوى" وهذا أخي "فاضل". ونحن نقيم في هذه المدينة، ولعلنا من القلائل الذين شاءت إرادة الله أن لا يتعرّض منزلنا للهدم بالقنابل. فتعهّدنا أمام الرب أن نمدّ يد المساعدة لكل من يحتاج إليها. وعندما رآك أخي يوم أمس تتسوّلين، رقّ قلبه لك وأحسّ كأن الله قد أتى به إلى هذا المكان لكي يلتقي بك، و...
أخذت "سلمى" تتأَمّل في هذا الرجل الماثل أمامها بكثير من الحذر، ولكنها لم ترَ فيه ما يبعث على الخوف. أطرقت برأسها إلى الأرض للحظة، ثم قالت:
- كيف يمكنكما أن تساعداني؟
ولأول مرة خاطبها الرجل:
- يا بنيّتي، إننا نرغب أن نوفّر لك حياة كريمة فلا تعودين تتسوّلين في الشوارع أو تقاسين من الجوع والبرد. إننا نريد لك أن تعيشي معنا في بيت تتمتّعين فيه بالدفء، والمحبة والحنان.
- ولكن...
فقاطعتها المرأة بلطف:
- لماذا لا تأتين معنا، فتكونين ضيفتنا، ثم بعد ذلك تقرّرين ما تشائين؟
سكتت "سلمى" لبرهة، ثم أحسّت في داخلها بشعور غريب يدفعها للقبول. تطلّعت إليهما، وقالت:
- حسنًا، سأذهب معكما...
لم يكن بيت "فاضل" بعيدًا عن المكان الذي التقى فيه بها. وعندما دخلت إلى البيت، استولى عليها شعور غريب هو مزيج من الخوف والرجاء. خُيِّل إليها أنها تولج إلى عالم جديد لا تعرف عنه شيئًا؛ هو عالم مجهول قد يحمل إليها الخير أو الشر؛ وكأنما "نجوى" أدركت ما يجول بخاطرها، فقالت لها:
- يا "سلمى"، لا تخشي شيئًا، أنت في أمان في هذا البيت. تعالي أُريك حجرتك.
عندما دخلت "سلمى" إلى حجرتها وتأملت فيها أجهشت بالبكاء. فهذه هي أول مرة منذ أن أصبحت يتيمة متشرّدة تجد نفسها في حجرة مؤثّثة بفراشٍ وثير نظيف وأغطية دافئة، وستائر نوافذ تقيها من عيون الغرباء. اقتربت منها نجوى وطوقت كتفيها بذراعيها وقالت لها:
- آمل أن يصبح هذا المنزل هو مأواك الدائم فتشعرين فيه بالأمن والطمأنينة. آه، انتظري، ربما يحسن بك أن تغتسلي، وسآتي إليك بثياب جديدة نظيفة...
عندما خرجت "سلمى" من حجرتها بدت في عينيّ "فاضل" وكأنها وُلدت من جديد، فعَلَتْ ثغره ابتسامة حانية، وقال لها:
- لو رأيتك الآن في الطريق لما عرفت أنك أنت نفس الفتاة التي التقيت بها يوم أمس... أنت جميلة جدًا!
تطلّعت "سلمى" إليه بنظرة امتنان ثم أشاحت بوجهها نحو "نجوى" وقالت:
- أشكركما من أجل اهتمامكما بي...
شعر "فاضل" بالعبرات تغصّ في عينيه، وراحت الذكريات تتناوح في خياله، لكم أيقظت هذه الفتاة الصغيرة في ذهنه صورًا من الماضي البعيد! فمنذ سنين فقد زوجته وابنته الطفلة في حادث سيارة، وبقي وحده يجوس في ظلال الأماني والأحلام الهاربة في دياجير الظلمة، ولولا نعمة الرب ورجاءه باللقاء الأبدي لأقدم على الانتحار. ربما أرسل الله إليه هذه الفتاة الصغيرة لكي تملأ قلبه بشيء من البهجة التي فقدها.
أحسّت "نجوى" بما يخالج قلب أخيها من مشاعر، ولكنها اعتصمت بالصمت وأخذت تصلي في قلبها من أجله. إنها تدرك عمق المصاب الأليم الذي ألمّ بأخيها، ولكنها تعرف أيضًا أن المأساة لم تنلْ من إيمانه.
فجأة قالت "نجوى":
- لا شك أنكِ جائعة يا "سلمى"؛ الحقيقة إننا نحن جائعان أيضًا. هل تريدين أن تساعديني في تجهيز الغداء؟
نظرت إليها سلمى بدهشة، ثم ارتسمت على محيّاها إمارات الغبطة وأجابت:
- طبعًا، طبعًا.
وتبعتها إلى "المطبخ" حيث أسرّت "نجوى" إليها بقصة أخيها.
اكتنف الحزن قلب "سلمى" وغمغمت:
- لقد استقرّ رأيي أن أمكث معكما في هذا البيت. سأكون له ابنة وأنت تكونين لي أُمًّا.
فضمّتها "نجوى" إلى صدرها وأخذتا في البكاء.
وحين اجتمعوا معًا حول مائدة الغداء، قال "فاضل" لنجوى:
- إننا معتادون على تقديم الشكر لله على نعمه علينا.
وشرع في طلب البركة على الطعام.
ومنذ ذلك اليوم ابتدأت رحلة "فاضل" و"نجوى" ، واستمرّت تلك العلاقة تنمو يومًا بعد آخر. ولم يمضِ عليها وقت طويل حتى اختبرت "سلمى" نعمة الله في حياتها، وأصبحت ابنة للرب. وكثيرًا ما كانت تقول "لفاضل":
- أنا الآن لي أبوان: أب أرضي وأب سماوي يعتنيان بي.
وعندما بلغت الثانية والعشرين من عمرها تزوّجت من شاب مؤمن من أعضاء الكنيسة التي انتمت إليها، وأنجبت منه طفلين، فكانت تردّد في مسامع "فاضل" و"نجوى":
- أنا ابنتكما، وهذان حفيداكما.
وذات ليلة، مضى "فاضل" إلى مخدعه لينام، ولكنه أُصيب بنوبة قلبية لفظ فيها آخر أنفاسه.
كان ذلك منذ خمس سنوات، وها هي الآن ذاهبة لزيارة ضريحه، لا لتندب وفاته مع أن الحزن يعتصر قلبها، ولكن لكي تحدّثه عن عمل الرب في حياتها وعن حفيديه، وتبدي له شكرها على حنانه ومحبة أبوّته لها.