شباط February 2011
إن أكثر ما يدهشك في تعاليم الرب يسوع المسيح، هو أنها تدخل بك إلى عمق أعماق المشكلة لتعالج الأسس والبدايات... فهو له المجد لا يهتم بالمظهر الخارجي، ولا يعبأ بتحسين الصورة الظاهرية للشخصية الأدبية بقدر ما يهتم ببنيانها المتين الثابت حسب المخطط الإلهي السامي، لتصبح قادرة على تأدية دورها في الحياة الأرضية بما يتماشى مع مشيئة السماء! فتعلن مجد الله الآب كنتيجة حتمية حتى من خلال ضعفها البشري حين يسنده بوجوده معها بالروح القدس، ويعطيها القدرة على اصطناع الثمر.
"أَنَا الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ. الَّذِي يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ، لأَنَّكُمْ بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا... بِهذَا يَتَمَجَّدُ أَبِي: أَنْ تَأْتُوا بِثَمَرٍ كَثِيرٍ فَتَكُونُونَ تَلاَمِيذِي" (يوحنا 5:15-8).
يرصد لنا البشير يوحنا في الأصحاح الخامس عشر من بشارته هذا الخطاب الرائع للرب يسوع المسيح عن الكرمة الحقيقية وأغصانها المثمرة. وفي روعة هذا الخطاب يوجّه أنظارنا إلى الأمور التالية:
1- وجود الكرمة "الحقيقية" النامية والمثمرة لمجد الله الآب، يعني هذا وجود كرمات أخرى كثيرة إلى جانبها من مختلف الأنواع والصفات، فهنالك:
أ- كرمة زائفة: كما يقول الوحي على لسان إرميا النبي: "وَأَنَا قَدْ غَرَسْتُكِ كَرْمَةَ سُورَقَ، زَرْعَ حَقّ كُلَّهَا. فَكَيْفَ تَحَوَّلْتِ لِي سُرُوغَ جَفْنَةٍ غَرِيبَةٍ؟" (إرميا 21:2). وكرمة سورق تعني كرمة جيدة مختارة ومميزة. مخاطبًا الأمة الإسرائيلية التي تحوّلت عن عبادة الله الحقيقية إلى عبادات وثنية زائفة.
ب- كرمة تالفة: كما يقول الرب على فم هوشع النبي: "وَأُخَرِّبُ كَرْمَهَا وَتِينَهَا اللَّذَيْنِ قَالَتْ: هُمَا أُجْرَتِي الَّتِي أَعْطَانِيهَا مُحِبِّيَّ، وَأَجْعَلُهُمَا وَعْرًا فَيَأْكُلُهُمَا حَيَوَانُ الْبَرِّيَّةِ" (هوشع 12:2). ويقول في سفر المزامير: "أَهْلَكَ بِالْبَرَدِ كُرُومَهُمْ، وَجُمَّيْزَهُمْ بِالصَّقِيعِ" (مزمور 47:78).
ج- كرمة ناشفة: كما يقول الكتاب على فم إشعياء النبي: "نَاحَ الْمِسْطَارُ، ذَبُلَتِ الْكَرْمَةُ، أَنَّ كُلُّ مَسْرُورِي الْقُلُوبِ" (إشعياء 7:24).
د- كرمة نادبة: كما يقول الوحي في نبوة عاموس: "وَفِي جَمِيعِ الْكُرُومِ نَدْبٌ، لأَنِّي أَعْبُرُ فِي وَسَطِكَ، قَالَ الرَّبُّ"، فما أرهب ذلك العبور حين يعبر الرب بين شعبه ليس للبركة ولكن للدينونة.
ﻫ- كرمة مجدبة: كما يقول الوحي في نبوة ميخا: "وَيْلٌ لِي! لأَنِّي صِرْتُ كَجَنَى الصَّيْفِ، كَخُصَاصَةِ الْقِطَافِ، لاَ عُنْقُودَ لِلأَكْلِ وَلاَ بَاكُورَةَ تِينَةٍ اشْتَهَتْهَا نَفْسِي" (ميخا 1:7). كالتينة التي مر بها الرب ولم يجد فيها ثمرًا مع أنها كانت مورقة، أي توحي للناظر بأنها مثمرة ولكنها مجدبة فلعنها الرب ويبست في الحال (متى 19:21).
2- إنه من فضل الرب ولطفه أنه جعل الثمر من عمل الأغصان التي تشير إلى المؤمنين، فهم الذين يصنعون الثمر وليس الكرمة ذاتها. فلم يرَ أحد قط ساق كرمة يحمل عنقودًا من العنب.
3- لكي تثمر أغصان الكرمة، بل لكي تعطي ثمرًا كثيرًا فهي تُقلّم من قِبل الكرّام. وقد عبّر الرب عن ذلك بقوله: "كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لاَ يَأْتِي بِثَمَرٍ يَنْزِعُهُ، وَكُلُّ مَا يَأْتِي بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ" (يوحنا 2:15). وهذا يعني قطع الأغصان غير المثمرة وبنفس الوقت قصّ أجزاء من الغصن المثمر لكي يثمر أكثر فيما بعد. والتقليم أو التنقية هي ما يرمز إلى الآلام والضيقات التي يحتملها المؤمن لأجل المسيح.
4- إن سر النمو المثمر هو ثبات الأغصان في الكرمة، الذي هو المسيح، فلا يمكن لأي غصن منفصل عن الكرمة بأن يعطي ثمرًا ولا أن يستمر حيًا أو ينمو أصلاً بل يكون مستأهلاً للإبعاد والحرق "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَثْبُتُ فِيَّ يُطْرَحُ خَارِجًا كَالْغُصْنِ، فَيَجِفُّ وَيَجْمَعُونَهُ وَيَطْرَحُونَهُ فِي النَّارِ، فَيَحْتَرِقُ" (يوحنا 6:15).
5- إن الثمر الذي يطلبه الله من المؤمن هو ثمر دائم وليس آنيًّا منقطعًا، وهو ثمر جزيل وليس هزيلاً نادرًا، وهو أيضًا ثمر جيد وليس ثمرًا رديئًا مرًّا (يوحنا 8:15)؛ و (إشعياء 2:5 و4).
6- إن غاية الثمر هي تمجيد الله، "بهذا يتمجّد أبي". يظن البعض أن نموّهم وثمرهم وامتلاكهم بعض المواهب يجعلهم مميزين بين البقية فيصيرون موضع مديح الناس واحترامهم. ولكن كلمة الله توضّح أن غاية نفس المؤمن الحقيقي هي مجد الله فقط "كَذلِكَ أَنْتُمْ أَيْضًا، مَتَى فَعَلْتُمْ كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَقُولُوا: إِنَّنَا عَبِيدٌ بَطَّالُونَ، لأَنَّنَا إِنَّمَا عَمِلْنَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْنَا" (لوقا 10:17). ويقول كاتب مزمور 115 "لَيْسَ لَنَا يَا رَبُّ لَيْسَ لَنَا، لكِنْ لاسْمِكَ أَعْطِ مَجْدًا" (مزمور 1:115).
7- كما أن لون الثمر في الطبيعة، وشكله، وطعمه، ونفعه، هي أوصاف مهمة تحفّز الناس على طلب هذا الثمر. فكذلك "ثمر الروح" الذي يتكلم عنه الوحي المقدس على لسان الرسول بولس في رسالته إلى أهل غلاطية: "وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ. ضِدَّ أَمْثَالِ هذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ" (غلاطية 22:5 و23).
وهذه الآية الرائعة تتضمّن معاني روحية عديدة هي: إن ثمر المؤمن ليس ثمرًا ذاتيًا بل هو "ثمر الروح"، أي نتيجة عمل الروح القدس في المؤمن، فهو الذي يعطيه الإمكانية لإنتاج الثمر. وهو ثمر واحد له صفات جيدة متعددة: "مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ". وعبارة "ضِدَّ أَمْثَالِ هذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ" تعني فيما أرى أن جميع الخدمات والأوصاف الأخرى التي قد يتخذها الناس للتدليل على إيمانهم لا يعتدّ بها على أنها من ثمر الروح، ولكنها نشاطات شخصية نسبية، بشرية أو بحسب مقاييس البشر.
وأخيرًا وليس آخرًا: إن أولى صفات هذا الثمر هي "المحبة"، وهي ليست المحبة البشرية الجسدانية، بل المحبة القلبية المضحية المعبّر عنها في اليونانية بلفظة "أغابي"، وتُطلق بالأخص على المحبة الإلهية.
وقد ركّز الرب يسوع له المجد في خطابه عن الكرمة على ثمر المحبة في الأعداد 9 و12 و13 و17 في الأصحاح الخامس عشر من بشارة يوحنا. وكذلك فقد شدّد الرب على المحبة في أماكن كثيرة في البشائر الأربعة، وشدّد الرسل على هذا التعليم في رسائلهم. وكذلك فإننا نقرأ عنها في مواقع عديدة في أسفار العهد القديم أيضًا.
ولا بدّ لنا في موضوع الثمر من أن نتأمل في هذا المقطع من رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية الأصحاح الحادي عشر والذي يصف فيه بشكل مدهش كيف تحوّل تعامل الله مع الشعب القديم الذي شبّهه الله بكرمه الذي تلقّى منه كل أصناف الاهتمام والعناية الخاصة "فَنَقَبَهُ وَنَقَّى حِجَارَتَهُ وَغَرَسَهُ كَرْمَ سَوْرَقَ، وَبَنَى بُرْجًا فِي وَسَطِهِ، وَنَقَرَ فِيهِ أَيْضًا مِعْصَرَةً، فَانْتَظَرَ أَنْ يَصْنَعَ عِنَبًا فَصَنَعَ عِنَبًا رَدِيئًا" (إشعياء 2:5). أي أن الله هيّأ التربة، وأزال العوائق، واختار نوعية جيدة، ورتب له الحراسة، وجعله مكانًا للفرح بالروح القدس، ورغم كل ذلك فقد أعطى ثمرًا رديئًا إذ عبد ذلك الشعب الأوثان، وترك الله القدوس، وحين أرسل ابنه ليأخذ ثمر الكرم تآمروا عليه وأخرجوه خارجًا وقتلوه (متى 39:21).
لذلك فقد قرر الله أن ينزع الأغصان التي تعطي ثمرًا رديئًا لكي يطعم كرمه بأغصان أخرى. فقد أقام الكثيرين من بين الأمم الذين قبلوا خلاص المسيح وعمل بهم ما يسمّى بـ "التطعيم بخلاف الطبيعة". وحيث أن مواعيد الله وهباته هي بلا ندامة، فلا بد من أن يفي بوعوده للآباء والقديسين الذين تعامل معهم بآيات وعجائب في العهد القديم. فإن الأصل الذي أبقاه الله هو أصل مقدس، ولكنه قطع الأغصان ذات الثمر الرديء وطعّم مكانها أغصانًا من الأمم لتعطي ثمرًا جيدًا لمجد الله الآب. فصارت تلك الأغصان البرية شريكة في أصل الشجرة المقدسة ودسمها! وبما أن التطعيم في الطبيعة هو بعكس هذه العملية تمامًا حيث تُقطع الأغصان البرية ويطعّم مكانها أغصان جيدة لكي تفرع وتعطي ثمرًا جيدًا. فقد هتف بولس الرسول بناء على ذلك الإعلان بأنشودته الرائعة:
"يَا لَعُمْقِ غِنَى اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ الْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ الاسْتِقْصَاءِ! لأَنْ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ؟ أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيرًا؟ أَوْ مَنْ سَبَقَ فَأَعْطَاهُ فَيُكَافَأَ؟ لأَنَّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ الأَشْيَاءِ. لَهُ الْمَجْدُ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ" (رومية 33:11-36).