أيار May 2011
يحدِّثنا التاريخ في عهديه القديم والحديث عن الثورات، والانتفاضات، والحروب الاستقلالية، والتضحيات الهائلة التي يبذلها أبناء الوطن في سبيل الحريَّة والعيش الكريم. ولم تبخل الأمم بنفوس أبنائها أو تتقاعس عن خوض معترك القتال سعيًا وراء كسر طوق العبوديَّة؛ فأضحت تضحيات أبطال الشعوب تواريخ تُحكى. ومع الزمن، تضخَّمت أحداثها حتى بلغت أحيانًا حدَّ الأساطير.
وما نراه اليوم يجري من أحداث جسام في شرقنا العربي هي صورة حيَّة عن الماضي، وإن اتَّخذت أشكالاً وأحجامًا تختلف عما كانت عليه في القِدَم. ولكنَّها في معظمها تجسِّد أحلام الشعوب المستعبدة، وتسجِّل بمداد الدماء أشواقها التي تتوق إلى التحرُّر والانعتاق من العبوديَّة، ولتحقيق أمانيها التي كانت تترعرع في الصمت؛ ثم ما لبثت أن انفجرت كبركانٍ ثائرٍ يجتاح في طريقه كل عقبةٍ كؤود.
غير أنَّ كثيرًا من هذه "الحركات التَّحرُّرية" قد يكون مثارها أيدٍ خفيَّةً خبيثةً تحاول أن تستغلَّ الأوضاع السائدة لتنفيذ مآربها الشخصيَّة أو مصالحها السياسية حتى إذا ما تحققت يقع الشعب تحت نير عبوديَّةٍ أدهى وأمرَّ، تمامًا كما حدث في ألمانيا النازية والاتحاد السوفييتي حيث تحكَّمتا بالأمم الخاضعة لهما بقبضةٍ من حديدٍ.
ديكتاتورية مرعبة
ولكن هناك لم يظهر لها نظيرٌ في التاريخ ولن يظهرَ، يترأَّسها، منذ أن وجد الإنسان، ديكتاتورٌ عاتٍ بلغ من السؤدد والاستبداد ما لم يبلغه أحدٌ سواه، كلَّف السماء والأرض ثمنًا باهظًا جدًا؛ وما برحت مملكته قائمةً في جميع أرجاء الأرض يخضع لها الملوك، والسلاطين، والرؤساء، والقواد عن وعيٍ أو غير وعيٍ. وقد يتَّخذ هذا الديكتاتور مظاهر شتَّى فيبدو أحيانًا كملاك نورٍ، وأحيانًا أخرى في صورة الشهوات المغرية، أو بريق الذهب الوهَّاج، أو السلطة المتحكِّمة في مصائر الشعوب. هذه المظاهر الخدَّاعة التي أتقنها هذا الديكتاتور أضفى عليها البهجة، والوميض الباهر، ووشَّحها بألوان زاهية خدَّاعة حملت الكثيرين على الاغترار بها والانسياق وراءها؛ فتجنَّدوا في خدمته، وأذعنوا لإرادته، وقدَّموا له فروض الطاعة والولاء، فأصبح هذا الديكتاتور مولاهم الأعظم وسيدهم المرهوب الجانب.
لقد لقَّب الكتاب المقدس هذا الديكتاتور بإله هذا الدهر، وسلطان الهواء، والحية القديمة، وإبليس: والشيطان، والكذَّاب، وأبي الكذَّابين، وملاك النور المزيَّف، وغيرها من الألقاب؛ وجميعها تنمُّ عن الاحتيال، والنفاق، والخداع، والقسوة، والتَّعجرف، والاستبداد، والظلم، وإشاعة الفوضى، وإثارة الفتن، وسفك الدماء، بل حتى التمرّدَ على الله.
فمنذ القديم احتال هذا الديكتاتور على أبوينا الأولين فأوقعهما في أشراكه ممَّا أفضى إلى انفصال الإنسان عن خالقه من جرَّاء خطيئة العصيان؛ ومن ثَمَّ، شرع هذا الديكتاتور يعبث بمصائر الأفراد والجماعات، فانتشر وكلاؤه وجنوده في كل أنحاء المسكونة يغوون الناس عن عبادة الخالق للتعبُّد للمخلوق، فأقام المضلَّلون معابدَ للأوثان، وشيَّدوا هياكلَ لآلهة لا تنفع بل تضرُّ لأنها تستهدف تمجيد الشيطان وتعظيمه. وهكذا اتَّسعت رقعة إمبراطوريته، واستولى زبانيَّتُه وجنوده على أركان هذا العالم، وما نجا منه إلا فئةٌ ضئيلةٌ وقفت في وجهه وصدَّته فعجز عن إذلالها وإخضاعها؛ فاستشاط حقدًا على كنيسة المسيح، ووطَّد العزم على القضاء عليها. بيد أنه أخفق في مؤامرته لأن المصلوب المنتصر تعهَّد أن يرعى كنيسته حتى أن أبواب الجحيم لن تقوى عليها. غير أن إبليس لم تثبط له عزيمةٌ، واشتدَّت وطأته عليها على أملٍ أن يفلح في إزالتها فيصبح العالم ملكًا خالصًا له.
لقد عمد إبليس سابقًا أن يحبطَ خطة الله لخلاص الجنس البشري عندما أقدم على تجربة المسيح في البرية ليردَّه عن تنفيذ المهمة الإنقاذية الكبرى المنوطةِ به. فقد حاول إغراء المسيح على التمرد على إرادة الله وتغيير مساره، وعرض عليه القوة، والمال، والسلطان شريطة أن يسجدَ له فقط. غير أن هذا الديكتاتور المدلِّسَ نسي أنه يقف أمام الذي بكلمة قدرته خُلقت السماوات والأرض، والذي به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيءٌ مما كان. إنَّ هذا التجاهلَ كان كافيًا للقضاء على خطة الشيطان فوجد نفسه آنئذٍ مخذولاً، واهنًا، محطَّمًا لانهيار مؤامرته. فالمسيح لم ينتصر على الموت وإبليس على الصليب فقط بل دحره أشد اندحارٍ في تجربة البرية أيضًا. وسيجد هذا الديكتاتور الأعظم نفسه ذات يوم واقفًا بكل ذلٍّ في حضرة الديَّان الأعظم الذي سيطرحه إلى بحيرة النار المتَّقدة مع جميع أجناده وأعوانه.
مأساة الرؤية
ولكن المأساة التي تعيشها الشعوب هي مأساة الرؤية. فهذه الأمم على اختلاف عرقيَّاتها، وآمالها، وأحلامها، وأشواقها، قد أخفقت في إدراك حريَّتها لأنها رهينة عبوديَّتها وتعبُّدها لهذا الجبَّار الظالم. لم تثر عليه، ولم تلقِ عن عاتقها أنياره أو تحطِّم أصفاده بل ظلت توغل في أقبية ظلماته، وتستسلم لرغباته، وترزح تحت عبء طغيانه. ومع ذلك لم تقدم على الثورة أو التمرد عليه. إنها لا تعبأ بتعنُّته، وتسرع لتلبية جميع أوامره مهما أسفر عنها من فواجع وآلام. لقد استطاع هذا الديكتاتور أن يثير الرهبة والرغبة في قلوب اتباعه إذ استهدف أن ينتقم من الله الذي طرده من حضرته باستعباد خليقته. لقد أدرك أن موت المسيح على الصليب، وفداءه للإنسان وقيامته قد جرَّدته من القوة التي طمع في استردادها، فعمل لهذا على جرَّ البشرية المفدية إلى مهاوي التهلكة والجحيم. والواقع، إن في هذا الموقف تحديًّا لسلطان الله، وهو تحدٍّ وإن بدا ناجحًا فإنه لا بدَّ أن يبوء بالفشل لأن الشيطان يعي تمام الوعي أن يوم الدينونة بات وشيكًا؛ ولكن الأمل السرابي يراوده بالغلبة وربما باستعادة مجده التاليد. إن الثورات التحررية في هذا العالم هي ثوراتٌ وقتية تتبدَّل بتبدُّل الحكومات وأصحاب السلطة، وقد تحمل في طيَّاتها شعاراتٍ رائعةً مفعمةً بالآمال العراض والتي تعبِّر عن أشواق الشعب المغلوب على أمره. ولكن ويا للأسف، فإنها تسفر في كثير من الأحيان عن مآسٍ سياسيةٍ، واجتماعيةٍ، واقتصاديةٍ على غير ما أراده لها أصحابها. أنا أدرك أن الحرية هي من حق كل أمةٍ، ومتى تحققت فإنها تكشف عن مواهب مبدعةٍ وإنجازاتٍ هائلةٍ ولا سيما إن اتَّسمت الحرية بالمسؤولية والعمل من أجل مصلحة الوطن. ولكن حين تتجنَّد الشعوب في خدمة هذا الديكتاتور الذي يوحي لها أنها تتمتع بالحرية فإنها تجد نفسها ترسف بأغلال العبودية وهي عنها غافلةٌ.
دعوة للتمرد
إن الدعوة هنا هي دعوةٌ للتمرد على هذا الديكتاتور الذي يعمل على تضييق الخناق على النفوس المخدوعة. فمنذ السقوط تكبَّدت الإنسانية كل صنوف الشقاء بفضل استبداد هذا الظالم الذي لا يريد الخير للإنسان. ولكن هناك، على الجانب الآخر، على خشبة الصليب جاء من صرخ في وجه التاريخ بصوت مليءٍ بالمحبة والإخلاص:
إن حرَّركم الإبن فبالحقيقة تكونون أحرارًا.
وقال أيضا:
إن نيري هيِّنٌ وحملي خفيفٌ.
إن المسيح يدعونا أن نثورَ وأن نتمرَّدَ، بل أن نتدجَّجَ بالسلاح ونحاربَ هذا الطاغي الأثيم بجميع الأسلحة الروحية. وهي أسلحةٌ فعَّالةٌ تفوق جميع الأسلحة البشرية في صراعنا الروحي. وحين ننضمُّ إلى المسيح في موكب جيش المفديين فإنه يتقدَّمنا للقتال ليهدم حصون إبليس، ويهزم قوى الشر، ويؤمّن لنا الانتصار. لقد أمرنا هذا القائد المظفَّرُ أن نقاومَ إبليس فيهرب منا؛ غير أن هذه المقاومةَ هي ليست مقاومةً جسديةً ولا بأسلحةٍ بشريَّةٍ إنما هي مقاومةٌ روحيةٌ بقيادة من قهر الشيطان سابقًا وسيقهره في كل حينٍ.
دعوة للتحرر
إننا مدعوّون لثورة روحيةٍ عنيفةٍ ضد مكائد إبليس، ومجابهةِ هذا المتسلِّطِ بالصمود الراسخ بالمسيح، ومقاومتِه حتى الموت. إننا نسعى إلى حريةٍ حقيقيةٍ لا يحدُّها زمانٌ ولا مكانٌ لأنها أكبر من كل زمانٍ ومكانٍ. هي حريةٌ أبديةٌ نحظى بها حين نتحدَّى الشيطان بقوة الروح القدس، ونتحوّلُ من أبناء ظلمةٍ إلى أبناء نورٍ.
خطوتنا الأولى أن نهجرَ مملكة العبودية إلى مملكة الحرية ونستسلم لمحبة المسيح الغافرة. ولا يمكن لمثل ملك الملوك هذا أن يجعلَ من أتباعه عبيدًا لأن كلَّ الذين قبلوه وساروا تحت رايته أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه.
فأي السيدين تود أن تتبعَ؟
إن اختيارك يحدِّدُ مصيرك الأبدي.