Voice of Preaching the Gospel

vopg

كانون الأول December 2011

هناك فارق كبير بين التعهّد والتمنّي. وبادئ ذي بدء، لا بدّ لي قبل أن أخوض في تفاصيل هذا المقال أن أعرض تعريفي لهذين المصطلحين لئلاّ يسيء القارئ العزيز معنى ما أرمي إليه.

التعهّد: إن التعهّد، في رأيي هو تصميم إرادي جازم لتحمّل وإنجاز غرض أو هدف أخذ المتعهّد على عاتقه القيام به مهما كلّف الأمر.

التمنّي: أما التمنّي فهو رغبة في النفس يتوق المرء إلى تحقيقها، ولكنه يدرك قصوره عن بلوغها إما لافتقار إلى العزيمة، أو الشعور بالعجز، أو لأن رغبته في نقيضها أقوى من رغبته في إنجازها.

إذًا، فالتعهّد يتميّز بالرغبة والتصميم الصادق بل الجهاد في سبيل إحقاقه، بينما التمنّي هو رغبة عاجزة يتوق إليها المرء ولكنه يفتقر إلى العزيمة في جعلها أمرًا واقعًا في حياته.

ونحن في مطلع كل عام جديد نأخذ على أنفسنا تعهدات هي أقرب إلى التمنّيات لأنها تعبير عن أشواق نشعر في قرارة نفوسنا أنه يتعذّر علينا تطبيقها. إنها كمن يتوق إلى الوصول إلى القمر وهو مسترخٍ على أريكته يتمتّع بأحلامه، ويطارد أوهامه؛ تشيع إليه نظراته الشاردة وقد يغمض أجفانه ويهيم في عالم الخيال وكأنه يريد أن يقنع نفسه بأنه حقًا في طريقه إلى الإيفاء بتعهده.

وأَقترحُ على قارئي العزيز أن يتوقف لحظة قصيرة يسترجع فيها لائحة التعهدات التي أعلنها، وأعتقد أنها ستكون في العام الجديد المشروع الأول والأهم في حياته، وأنه لن يتوانى عن التضحية بكل غالٍ ورخيص من أجل تحقيقها. ثم بعد استرجاعها، إسأل نفسك هذا السؤال:

كم من هذه التعهدات تمّ تحقيقها، وأصبحت جزءًا لا يتجزّأ من حياتك؟

أريد لمثل هذا السؤال أن يتحوّل من سؤال عام عارضٍ إلى سؤال واقع شخصي، أي فيه مجابهة مع النفس، مجردة من المراوغة والخداع. أنت في هذه المجابهة الشخصية تتخذ موقفًا صادقًا مع نفسك تحدد فيه انتصاراتك وإخفاقاتك.

ولكن هذه المجابهة هي أكثر من علاقة شخصية أو موقف شخصي. إن كنت مؤمنًا اختبر نعمة الله في حياته فإن تعهدك هو أبعد مدى من التعهّد الشخصي. إنك تتعهد أمام الله أولاً وأمام نفسك ثانيًا، تمامًا كتعهداتك التي قمت بها عندما أقدمتَ أو أقدمتِ على الزواج. تذكّر أن هذه التعهدات كانت تعهدات اختيارية. فأنت لم تتزوّج قسرًا، وأنتِ لم تتزوّجي رغمًا عنكِ. كانت خطوة اختيارية تحمل في طياتها هذه التعهدات. وأنت الآن كمؤمن، إذ تأخذ تعهدًا على نفسك فأنت تقف أولاً أمام الله، ثم أمام نفسك. وعندما تنكث تعهدك فأنت تنقض عهدك مع الله ومع نفسك أيضًا.

كانت مثل هذه التعهدات تُدعى في العهد القديم نذورًا. وكانت هذه النذور تشمل جميع مناحي الحياة، بل أكثر من ذلك، كان الله يتعامل بصرامة مع الذين لم يُوفوا بنذورهم؛ وتلك النذور كانت نذورًا اختيارية باستثناء ما ورد في الشريعة. ولكن ما أن ينطق بها الناذر حتى تصبح أمرًا مُلزمًا لا يجوز التهرّب منه، بل إنه يقع تحت طائلة العقاب.

وفي هذا الصدد أودّ أن أُنبر على ثلاثة أنواع من التعهّد، وكلها لها مساس عميق بعلاقتنا مع الله:

1- تعهّد التوبة

هذا هو النوع الأول وهو الأهم، إذ ليس هناك أروع وأفضل من التعهد ببدء حياة جديدة مع الرب، فأنت في مطلع ولادة عام جديد يحمل تاريخًا جديدًا، ويمكنك في هذه الحالة أن تولد معه فتكون هذه هي الخطوة الأولى في رحلتك الروحية، وهي رحلة طويلة الأمد تبدأ بالتعهد ولا تنتهي لأنها توغل في عالم الأبدية وتظل هناك شجرة وارفة الظلال تستمد رونقها وقوتها وروعتها من عمل النعمة الإلهي وما يعقبه في الأبدية من مجدٍ، وسعادة، وحضور دائم أمام الرب. إن هذا التعهد يتطلب رغبة صادقة بالانضمام إلى عائلة المسيح نتيجة للتسليم الكامل للإرادة الإلهية، والإذعان المطلق لقيادة الروح القدس في كل منحى من مناحي حياتك. هذه البداية المدهشة هي فعل إرادي مدعومة بقوة الروح القدس الذي يمدك بالقوة لكي تتابع مسيرتك في علاقتك مع الله. إنك لا تستطيع أن تثابر على رحلتك المجيدة من غير أن تمتلئ بتلك القوة التي تعضدك ولا سيما في أثناء المحن والتجارب والضيقات. أنت تصبح سائحًا في أرض العدو الذي يتربص بك عند كل منعطف، ووادٍ ودرب معتم. في مثل هذه اللحظات التي تبعث على القنوط، والخوف، والإحساس العميق بالغربة تذكّر تعهّدك، وتذكّر أيضًا أنك لست وحدك تجوس في وادي ظلّ الموت بل إنّ الرب معك، تمامًا كما ردد قديمًا صاحب المزامير: "أَيْضًا إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرًّا، لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي". إن الله يفي بجميع وعوده، وعليك أنت أيضًا أن تفي بتعهدك.

2- تجديد العهود

 

هذا أمر يحتاج إليه كل مؤمن مهما كان اختباره مع الرب، ومهما تكاثرت سنوات الخدمة في حياته، لأن ظروف الحياة، ونوائب الدهر، وهجمات إبليس لا تتوقّف عن العمل، ولا تكفّ عن محاولاتها الرهيبة لإثباط عزيمة المؤمن. تذكّر تجربة المسيح في البرية واستراتيجية الشيطان التي عمد إليها لإغواء المسيح. لم يكن قد مضى على المسيح زمن طويل بعد أن رجّعت أرجاء الوجود أصداء ذلك الصوت السماوي، صوت الآب مصرّحًا: "هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ". وهل كان هناك تشجيع أعظم من هذا ليملأ قلب المسيح بالغبطة، واليقين والغلبة؟ كانت لحظة انتصار لا مثيل لها في التاريخ؛ فكم مرة انفتحت فيها أبواب السماء لتعلن هذا التكريم؟ ومع ذلك لم يتورّع إبليس عن دسائسه ومؤامرته. فإن كان المسيح قد وجد نفسه في مثل هذا الموقف، فكم بالأحرى نحن الضعفاء المعرّضون للتجارب وحتى للسقوط أحيانًا في مهاوي اليأس، والجزع، والانقباض وحتى الشك؟ إننا في حاجة دائمة لتجديد عهودنا مع الرب على أن نطلب منه  قوة لتتميمها اعترافًا منا بنقصنا وعجزنا. هذه حقيقة على كل مؤمن أن يدركها لأن الإنسان مهما بلغ من النضج الروحي لا بدّ أن يجد نفسه أحيانًا يتعرّض للانفعالات البشرية التي توهن من قواه الروحية والجسدية. فتجديد العهود - التي يعتمد فيها المؤمن على  معونة الروح القدس - هي ضرورة حتميّة في حياته لكي تزدهر أوراق حياته بالنضرة، وتثمر أغصانه بثمار الروح القدس التي عصفت بها رياح الشتاء القاسية حتى ظن أن حياته الروحية قد أصابها الذبول. إن التعهد الجديد في هذه الحالة، هو يقظة من السبات، بل سريان دبيب الحياة وانطلاقة مفعمة بالرجاء والإيمان، بل سعيٌ جديٌّ نحو الهدف المتألق بالنور أمام أعيننا. إننا موعودون بالمدِّ الروحي للمواظبة على بلوغ الغرض.

3- التعهّد المشروط

وهذا النوع من التعهّد يرفضه الله سلفًا لأن صاحبه يضع شروطًا على الله، وكأنه يتمنّن على الله، بل كأنه هو السيد والله هو المسود. إن كل تعهّد مشروط هو إهانة لله ينمّ عن الشعور بالخواء والتعجرف والكبرياء الأجوف. وأكثر من ذلك، إن التعهد المشروط يحمل في ذاته عدم الرغبة في الإيفاء بهذا التعهّد. إن المنطق الإلهي يستوجب التسليم المطلق للإرادة الإلهية، مجردًا من كل شرط، أو كلمة "إذا". الله وحده هو القادر أن يفرض شروطه، ويتنكّر لكل مساومة. كلمته هي الفيصل النهائي، ووعوده لا يمكن أن تنقض. من الغباء أن يظن الإنسان أن الله تنطبق عليه حدود الزمان والمكان وكل ما فيها من الأساليب البشرية التي لا يرضى عنها. وهنا نقطة الخطأ، فالمتعهد الشارط يريد من الله أن يتقوقع ضمن الحيّز البشري، ويتصرّف كما تتصرف مخلوقاته، وبذلك يخضع للقوانين البشرية الناقصة والقاصرة. يمكن أن أقول لله: إذا أغنيتني فأنا أتعهّد أن أدفع نصف أموالي وأوزعها على الفقراء والمحتاجين. فيجيب الرب من خلال كلمته المقدسة: إن الأرملة التي ألقت فلسَيها في خزينة الهيكل أعطت كل ما عندها ولم تشترط عليّ شيئًا. مثل هذا العطاء أنا أبارك وأقبل.

يمكن للمرء أن يتذرّع بأعذار واهية حول شروطه، ولكنني لا أجد في العهد الجديد من اشترط على الله وتقبّل الله شروطه. خيرٌ للإنسان - مؤمنًا كان أو غير مؤمن - عندما يتقدم بتعهداته إلى الرب، أن يأتي إليه بروح الاعتراف والتوبة والخضوع والتسليم الكامل، ويتخلّى عن مطامحه الذاتية، ويفرّغ نفسه من مطامعه. التعهدات المشروطة هي مستنكرة لدى الله.

أما التمني من غير عزمٍ حقيقي على التسليم الكلّي لإرادة الله وقوته هو كمن يبني بيته على الرمل عند شاطئ البحر. هي أمنيات تداعب النفس، وتدغدغ الخيال وقد تُشْعِر الإنسان بالاكتفاء المؤقت، ولكنها في الحقيقة، تتسم بطبيعتها، بالانهيار. وتنتهي هذه الأمنيات بانتهاء ليلة عيد رأس السنة. إنها وهم وسراب أو "كالعصافة التي تذرّيها الريح" كما يقول الكتاب. وما لم تتحوّل هذه التمنيات إلى تعهدات صادقة، يعتمد فيها صاحبها على قوة روح الله وأمانته في إعانته على إنجازها، فإنها تظل رهينة خياله. إن الله يشيح بوجهه عن مثل هذه التمنيات المزيّفة التي تفتقد إلى الرغبة الحقيقية والعزيمة الصادقة للعمل على تحقيقها.

يا قارئي العزيز، إن كنت تبغي أن تبدأ سنة جديدة مع الرب تختلف في شكلها ومضمونها عن بقية السنوات السابقة، وإن كنت تتوق أن تتمتع بغنى نعمته، وفيض سلامه، وعظمة محبته، فلتكن تعهداتك أمينة، نابعة من القلب، نقية من كل شائبة، خالية من كل شرط، تتكل فيها على قوة الروح القدس، وعلى مواعيد الله، وقائمة على كامل ثقتك به.

لتكن لك بداية جديدة في علاقة متعمّقة تتأصّل جذورها في محبة الله والإيمان بحسناته.

وكل عام وأنت بألف خير.

 

المجموعة: كانون الأول December 2011

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

105 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10555499