آب Agust 2012
تدور أحداث سفر التكوين في ثلاث مناطق جغرافية هامة تشكل خلفية ثقافية وحضارية لكل أحداثه وأحداث بقية العهد القديم.
فالفصول 1-12 حدثت عمومًا في منطقة بلاد الرافدين،
والفصول 12-38 حدثت في بلاد كنعان،
بينما أحداث الفصول 39 -50 وقعت في أرض مصر.
بطل الفصول الـ11 من 39 -50 هو يوسف بن يعقوب، أحد رؤوس أسباط بني إسرائيل الاثني عشر. فمع نزول يوسف إلى أرض مصر تأخذ خطة الله منحى جديدًا يستمر تأثيره وتفاعلاته على بقية تاريخ بني إسرائيل. لقد سبق الله وأنبأ إبراهيم يوم قطع معه عهدًا في تكوين 15 بمصير نسله في المستقبل البعيد وبأنه سوف يُستعبد في أرض غريبة لمدة 400 سنة وأنه سيرد سبيهم إلى أرض كنعان من جديد. هذا هو دور الله في التاريخ حيث يخطط ويحرك التاريخ نحو غايته المرسومة قبل تأسيس العالم. ولكن السؤال المطروح: ما هو دور الفرد في التاريخ، وتحديدًا في خطة الله المرسومة؟ إنه دور كبير ومهم، وخير مثال على ذلك هو شخصية يوسف بن يعقوب وكيفية تجاوبه مع خطة الله.
خلفية يوسف
ينحدر يوسف من عائلة محافظة عاشت في مجتمع عشائري أبوي ورعوي. والده يعقوب ابن إسحاق ابن إبراهيم، ووالدته راحيل بنت لابان خال أبيه. رغم أن والده يعقوب أصبح وريثًا لكل مواعيد وعهود الله مع إبراهيم وإسحاق إلا أنه لم يكن أبًا مثاليًا من الناحية الاجتماعية أو التربوية، بل كان متخبطًا في دوامة من المشاكل العائلية نتيجة تورطه الخاطئ في تعدد الزوجات، إضافة إلى مشاكله مع محيطه في بلاد كنعان إذ تورط بنوه في جريمة شرف فظيعة وقتلا كل ذكر في عشيرة شكيم (تكوين 25:34). من ناحية تعدد الزوجات كان لدى يعقوب أربع نساء: زوجتان أختان هما راحيل وليئة، إضافة إلى جاريتيهما بلهة وزلفة. أما والدته راحيل، فلم تكن تلك المرأة المثالية، بل كانت تعيش حالة غيرة وصراع مع أختها ليئة بسبب عدم إنجابها. من ناحية أخرى، مارس يعقوب محاباة وتمييزًا بين أبنائه الـ12 فأحب يوسف أكثر من البقية (تكوين 3:37). ولزيادة الطين بلة، صنع ليوسف قميصًا ملونًا مما جعل إخوته يشعرون بالتمييز فيكرهون أخاهم يوسف. كانت خلفية يوسف العائلية والاجتماعية خالية من أي أسباب ومحفّزات للنجاح الزمني أو الروحي. كل ما حوله يبعث على الفشل، والاحباط، وعدم الرغبة في محاولة الانطلاق نحو أي هدف.
معاني النجاح
النجاح كلمة مؤثرة لها تأثير عميق في جاذبيتها وسعي الناس لبلوغها، فالناس يركضون بأقصى طاقتهم للحصول على النجاح والشهرة والمال بشتى الوسائل الشرعية وغير الشرعية. يا ترى، ما هو معنى كلمة "النجاح"؟ وما رأي الكتاب المقدس في ذلك؟ باختصار شديد، النجاح هو بلوغ الهدف. أولى خطوات النجاح هو امتلاك طموح، أو رؤية لهدف محدد يرغب الشخص في الوصول إليه، ثم السعي نحو ذلك الهدف بكل اجتهاد وتصميم وتذليل كل العقبات في سبيل ذلك الهدف. تدخل في صناعة النجاح عوامل متنوعة منها مستوى الذكاء، والقدرات الجسدية، والبيئة، والظروف العائلية، والفرص المتاحة، وغيرها. طبعًا، معظم أشكال النجاح المعروفة هي زمنية: هناك نجاح علمي ثقافي، ونجاح رياضي، ونجاح فني وتجاري. يشجع الكتاب المقدس على النجاح الزمني، ويدعو المؤمن إلى العمل بأمانة واجتهاد في كل مجالات الحياة. لكن كل نجاحات العالم الزمنية بدون علاقة صحيحة مع الله هي فشل تام في نظر الكتاب المقدس (متى 26:16)، "لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه. أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه". النجاح الحقيقي في نظر الله هو وضع الله أولاً في حياتنا، وإطاعته، وإتمام مشيئته، وامتداد ملكوته. بمفهوم العهد الجديد: النجاح هو النضج في معرفة الرب ومشابهة صورة يسوع في حياتنا يومًا فيومًا، وبالتالي بلوغ الهدف من وجودنا على الأرض وهو تمجيد الرب الخالق.
وإذا عدنا إلى قصة يوسف نلاحظ أنه على الرغم من كل ظروفه العائلية والاجتماعية المحبطة والمفشِّلة التي نشأ فيها، فقد قرر ألاّ تكون لها الكلمة الأخيرة في تقرير مصيره، بل تحدّاها ونجح نجاحًا عظيمًا وتمم مشيئة الله في حياته بشكل رائع.
أسرار حياة يوسف
يكشف تكوين 37 عن ملامح نشأة يوسف كفتى مراهق ذي الـ 17 ربيعًا التي عاشها في جو مشحون بالتوتر والحسد والخصام. في هذا الوسط ابتدأ الله بإعلان نفسه له بحلمين غامضين قصهما يوسف على والديه وإخوته فنال توبيخًا من أبيه وحسدًا وبغضًا من إخوته. لكن أباه لاحظ حدوث أمر غير عادي فأخفاه في سره. بعد هذا الإعلان الإلهي الغامض ربما شعر يوسف بأن الله يخاطبه بأمر هام ويريد أن يجعل منه شخصًا ذات شأن. لكنه لم يفهم كيفية تحقيق ذلك، وربما ظن أن ذلك سيحدث قريبًا، ولكن الأمور سارت باتجاه مختلف تمامًا. فطاعته لأبيه، وذهابه للاطمئنان على سلامة إخوته، وأخطاؤه الصبيانية البريئة جلبت له متاعب وآلام غير متوقعة لصبي مراهق. سارت الأمور من سيّئ إلى أسوأ، فباعه إخوته عبدًا إلى مصر بدلا من قتله. وفي مصر بيع مرّة أخرى عبدًا إلى قائد شرطة فرعون. وعندما اتخذ موقفًا أخلاقيًا، وتصرّف بشهامة تجاه امرأة سيده، تمّ زجّه في السجن. وهكذا أمضى يوسف ما يقارب 13 سنة عبدًا ضائعًا وسجينًا منسيًا مجهول المصير. لكن اللافت للانتباه هو كيفية تجاوب يوسف مع كل مرحلة من مراحل محنته.
السر الأول لنجاحه هو وجود الله معه في كل حين وكل مكان
في بيت أبيه، ثم في مصر في بيت فوطيفار، ومن ثم في السجن حيث كان الله دائمًا يحميه ويعطيه نعمة في عيون من يتعامل معهم. ويكرر الكتاب أن حضور الله كان سر نجاحه (تكوين 2:39). "وكان الرب مع يوسف فكان رجلاً ناجحًا". (تكوين 3:39؛ وتكوين 23:39). إذًا سر البركة والنجاح الأساسي هو حضور الله في حياته.
السر الثاني يكمن في شخصية يوسف الروحية والأخلاقية
ففي كل المواقف والظروف القاسية التي سمح الله بوضعه فيها كان تجاوبه واضحًا: الثقة بعدالة الله وصلاحه وعدم التذمر أو الاستسلام للمرارة والحزن والشك في وجود الله معه. لقد أحسن يوسف التجاوب مع تعاملات الله ومشيئته بأفضل طريقة وهي التسليم وانتظار الرب - وهذا أمر ليس سهلاً - وخاصة بالنسبة لشاب مدلّل عند أبيه اختُطف من وسط أهله وبيع عبدًا ذليلاً في أرض غريبة لا يعرف لغتها.
الأمر الآخر هو أن موقف يوسف تجاه الخطيئة كان حاسمًا، وواضحًا وهو دائمًا إرضاء الله فقط وعدم المساومة، ورفض الخطيئة واعتبارها بالدرجة الأولى موجّهة إلى الله شخصيًا (تكوين 9:39). وأيضًا يظهر نضج شخصية يوسف الروحية في قدرته على الصفح عن إخوته.
السر الثالث وراء نجاح يوسف هو أمانته واجتهاده وإتقانه لكل عمل يوكل إليه (تكوين 5:39، 22)
فمن بيت فوطيفار إلى السجن وأخيرًا كوزير في بلاط فرعون (تكوين 41:41). لقد نجح يوسف تمامًا في التجاوب مع خطة الله وبرنامجه الفدائي في ذلك الزمن. وبالتقييم النهائي كان يوسف رجلاً ناجحًا بكل معنى الكلمة، روحيًا وزمنيًا.