آب Agust 2012
إذا كان الشيطان يسعى لتخدير ضمائر وأذهان الكثيرين، فذلك لكي يبعدهم عن عبادة الله الحي، فلا يبحثون عن الحق ولا يهتدون إلى طريق الخلاص.
في حلقة سابقة بحثنا في النقطة 1 - آلهة مصنّعة... أو "أصنام الشعوب" كما يدعوها الكتاب المقدس. فمن حيث أن عبادتها من قبل الكثيرين وتمسكهم بها يتعارض مع كل منطق سليم! فمن المنطق أن يتعبّد الإنسان لقوة أسمى منه في السلطان، أو الحكمة، أو العلم، أو القدرة، أما أن يتعبد لجمادٍ تافه من صنع يده فذلك قمة السخف!
لكن كلمة الله تخبرنا عن أمور أخرى تسيطر على قلوب الناس ورغائبهم حتى العبادة وهي:
2 ً-آلهة مقنّعة أو "أصنام القلوب": فإن كل ما يأخذ مكان الله في القلب يُعتبر في نظره صنمًا يجب طرحه والتخلي عنه.
يورد حزقيال النبي في سفره هذه الواقعة: "فَجَاءَ إِلَيَّ رِجَالٌ مِنْ شُيُوخِ إِسْرَائِيلَ وَجَلَسُوا أَمَامِي. فَصَارَتْ إِلَيَّ كَلِمَةُ الرَّبِّ قَائِلَةً: ابْنَ آدَمَ، هؤُلاَءِ الرِّجَالُ قَدْ أَصْعَدُوا أَصْنَامَهُمْ إِلَى قُلُوبِهِمْ" (حزقيال 1:14-3).
فتلك الأصنام مقنّعة، غير منظورة بل متخفّية، ولكنها كثيرًا ما تظهر في تصرّفات حاضنها ومسلك حياته، ومنها:
1- أصنام متخفّية في نوازع النفس كالسادية، والبغضاء، والحقد، والتشفّي، والاستعباد، والمذمّة وغيرها.
2- أصنام متخفّية في دوافع الذات كحب الذات، والكبرياء، والتعظّم، وحب الشهرة...
3- أصنام متخفّية في رغائب القلب ومشتهياته. يقول الرسول يوحنا: "لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ. إِنْ أَحَبَّ أَحَدٌ الْعَالَمَ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ الآبِ... وَالْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ فَيَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ" (1يوحنا 15:2-17).
فالشهوة الجنسية، ومحبة المال والمقتنيات، ولذائذ المآكل والمشرب، واللهو، والمجون، وشهوة سائر الأشياء، وحتى المبالغة في إشباع مستلزمات الجسد تبعد الإنسان عن محبة الله وتصبح معبودات يصعب التخلي عنها (فيلبي 19:3). ويقول الرسول بولس: "فَأَمِيتُوا أَعْضَاءَكُمُ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ: الزِّنَا، النَّجَاسَةَ، الْهَوَى، الشَّهْوَةَ الرَّدِيَّةَ، الطَّمَعَ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ الأَوْثَانِ، الأُمُورَ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا يَأْتِي غَضَبُ اللهِ عَلَى أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ" (كولوسي 5:3-6).
وقد تسترق بعض تلك الأصنام قلب المؤمن وتترسّخ فيه فتصبح عائقًا في تقدّمه الروحي. لذا فإن نعمة الله تتعامل مع أولئك الذي يطيعون صوته لكي يطرحوا هذه الأصنام عنهم "قسرًا أم طوعًا..."!
- لقد كان على نوح "البار" ألاّ يطيع شهوة الجسد. إذ يقول الكتاب أنه "غرس كرمًا وشرب من الخمر فسكر وتعرّى داخل خبائه" فجلب بذلك المرارة لنفسه واللعنة لأحد أبنائه.
- وكان على إبراهيم خليل الله أن يخفف من تعلّقه بابنه إسحق ابن الموعد، فجربه الله بذلك الاختبار الخطير بتقديم إسحاق محرقة..!
- وكان على بولس رسول الأمم أن يتخلى عن اعتبار معرفته وحكمته ويحسبها نفاية لكي يتقدم في خدمته الجليلة، ومن ثمّ أن يتخلّى عن ارتفاعه بفرط الإعلانات "بعد اختطافه إلى السماء" فيرضى بشوكة الجسد.
- وكان على بطرس الرسول أن يتخلّى عن اعتداده بنفسه والتباهي بإخلاصه، حتى فشل في ذاته، وأنكر المسيح، فتوبّخ وبكى بكاء مرًا.
- وكان على داود أن يسيطر على شهوته التي قادته إلى الزنا والقتل حتى سبب التكدير لكل بيته رغم أنه تاب تلك التوبة المرة وتعلّم ذلك الدرس العسير المكلف.
- فإذا كان هؤلاء العمالقة في الإيمان احتاجوا للتخلّي عما في قلوبهم ومشاعرهم ورغائب نفوسهم من شهوات سببت كسر شركتهم مع الله فمن نحن المزدرى وغير الموجود؟!
ولعلنا نستطيع أن نتأمل أيضًا في مجريات حياة البعض الآخر من الأشخاص الذين تعامل معهم بعصا التأديب:
- فلقد كان على نبوخذنصر الملك العظيم — الذي عرف الله عن طريق دانيآل والفتية الثلاثة — ألاّ يتفاخر بنفسه أمام الله حين قال: "أَلَيْسَتْ هذِهِ بَابِلَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي بَنَيْتُهَا لِبَيْتِ الْمُلْكِ بِقُوَّةِ اقْتِدَارِي، وَلِجَلاَلِ مَجْدِي؟" (دانيآل 30:49). حتى طُرد من بين الناس وقضى سبع سنوات عاريًا مع حيوانات البرية فعلم أخيرًا واعترف أن العلي سلطان في مملكة الناس والسالك بالكبرياء يقدر الله أن يذلّه.
وكان على لوط ألاّ يضع رجاءه على غنى سدوم حتى خرج مدفوعًا من قبل الملاكين ولم يأخذ معه شيئًا، وقد خسر بناته المتزوجات، وزوجته، وفقد عفاف ابنتيه الباقيتين له.
فكم يجب علينا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور أن ننظر إلى سيرة حياة كل من هؤلاء وأن نتعلم منها فنطرح أصنام قلوبنا...
قال الرسول يوحنا في خاتمة رسالته الأولى: "أيها الأولاد احفظوا أنفسكم من الأصنام". فهو لم يقصد سوى أولاده "المؤمنين" ولم يحذر من الأصنام المنظورة" بل من الأصنام الخفية التي مرّ ذكرها، فهي أقوى أثرًا في النفوس، وكثيرًا ما يصعب على البعض تمييزها لأنها مقنّعة متخفّية في دواخل القلوب وتسيطر بشدة على مخارجها كما تقول الكلمة الإلهية "فوق كل تحفّظ احفظ قلبك لأن منه مخارج الحياة" (أمثال 23:3).
فلنحفظ قلوبنا لكي تصفو عبادتنا لله الحي القدير الذي عيناه أطهر من أن تنظرا الشر، لأن حياة التمحور حول الذات والانفصال عن الله — منذ آدم وحتى اليوم — هي سبب مآسي العالم!