أيلول - تشرين الأول Sep - Oct 2012
نأمل أن تكون مآسي شرقنا قد خفت وربما تلاشت، والبعض اليوم يتحدث بأسى عن مشاهد مؤلمة رآها بأم عينيه، وسمعنا بعضها من خلال وسائل الإعلام، والبعض الآخر يتحدث بفرح ويروي قصة نجاةٍ معجزية وقعت له أو لعائلته أو لأفرادٍ من زملائه أو جيرانه.
كنا نتمنى أن لا يحدث ما حدث من مآسي وكان بالإمكان أن لا يحدث، ولكن كل شيء قد حدث الآن وصفحة التاريخ التي انطوت لا يمكن استرجاعها.
وفي جميع الأحوال يبقى أن نقول: إن الحروب ظالمة... وكثيرون يكتوون بنيرانها وهم ليسوا طرفًا في النزاع.
لم تمرَّ حربٌ في التاريخ إلا وسحقت تحت أقدامها أبرياء عُزَّل لا ذنب لهم. ويتساءل البعض: كيف يسكت الله أمام المظالم التي تُرتكب سواء في الحروب أو في غيرها من أحداث؟ هي تجربة صعبة ولا شك عندما يتعرض الإنسان لمعاناة ما وينتظر وكأن الله صامت لا يتدخل!
تعرض كاتب مزمور 83 لمثل هذه التجربة وهو يصف حالةً من الفوضى والنهب والسلب التي حلت بشعبه فدعا الله قائلاً: «اللهم لا تصمت ولا تسكت ولا تهدأ يا الله».
قرأت كتابًا قال فيه كاتبه: «تقدمت جيوش أشور يومًا وزحفت نحو الحبشة في قلب أفريقيا، ودكّت حصونها، واستمرت تزحف وتهلك وتدمر وكأن الله لبث ساكتًا لا يبدي حراكًا بينما الأحباش الضعفاء يُظلمون ويُنهبون ويُقتلون... وفجأةً حصل ما لم يكن بالحسبان، ضُرب جيش أشور بيد قوية، فتبعثر الجيش واندثر، وتراجع من بقي منه يجرّ أذيال الهزيمة».
فقد يسكت الله أحيانًا لفتراتٍ محسوبةٍ عنده!
جاء يوحنا المعمدان إلى الدنيا بمعجزة ربانية. والده زكريا كان شيخًا طاعنًا في السن، وكذلك كانت والدته، ولم ينجبا ولدًا، وقد فات على أليصابات زمن الحَبَل، وانقطع الأمل بأن يكون لهما ولد منذ سنين مضت...
وتدخّل الله، وحبلت أليصابات، ووُلد يوحنا، وكانت المهمة التي أوكلها الله ليوحنا أن يهيئ الطريق أمام المسيح الملك القادم. وقام يوحنا بالمهمة أحسن قيام، وظهر المسيح بين الجموع، ونادى وعلم وبشر، وصنع المعجزات الهائلات، وذُهلت الجموع بقدرته الربانية. عندها ابتدأ نجم يوحنا يتضاءل وصارت خدمته تتناقص شيئًا فشيئًا. وشهد يوحنا عن هذا بقوله: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص. الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع (هنا يقصد المسيح). ثم قال: «والذي من الأرض هو أرضي». يقصد نفسه...
فحتى الآن كان يوحنا يسير حسب ما خططه الله له بكل دقة. وجاء وقت حين لعبت هيروديا زوجة الملك لُعبتها وتحايلت على يوحنا وتسببت بسجنه!
ومرت الأيام وتبعتها الأسابيع وربما الشهور، كان خلالها يوحنا يأمل بأن المسيح الذي خدمه وشهد له شهادة حق - بقدراته المعجزية الظاهرة للعيان - قادر أن يقول كلمة فتسقط الأغلال الظالمة التي قيدته، وتُفتح أبواب السجن ليتحرر يوحنا من أسره. ولكن شيئًا من هذا لم يحصل!
فابتدأ الشك أو التساؤل يلعب دوره في ذهن يوحنا ويقول في نفسه: كيف يصمت المسيح وأنا معذب في هذا السجن؟
ثم أرسل يوحنا اثنين من تلاميذه ليقولا للمسيح: هل أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟
بمعنى، ألست أنت المسيح الآتي؟ كيف تصمت وأنا أقبع مظلومًا بين جدران هذا السجن البارد وأنت صاحب المعجزات؟ إلى متى الانتظار؟! هل من مسيح آخر غيرك ننتظره؟!
عزيزي القارئ، قد يصمت الله أحيانًا، ولكن كل شيء عنده وفق مخطط دقيق، وفي وقته يكون. ما أبعد أفكار الله عن أفكارنا وطرق الله عن طرقنا!
أحيانًا، يسكت الله ولكن سكوتًا مدروسًا، وسكوته يكون بسبب أخطائنا وتمادينا ليعطينا الفرصة لإعادة النظر في ما نحن عليه لعلنا نتوب ونتغير.
يقول الإنجيل: «لا يتباطأ الرب عن وعده كما يحسب قومٌ التباطؤ، لكنه يتأنى علينا وهو لا يشاء أن يهلك أناس بل أن يقبل الجميع إلى التوبة».
وأحيانًا يسكت الله لتدريبنا على تحمّل الصعاب شهادة لمن حولنا. فالاختبارات التي نجتازها في شدائدنا يكون لها المفعول الأكبر في حياتنا وفي حياة الآخرين من حولنا. وشدة المعاناة - إن كنا مخلصين - يقابلها ثقل مجد! يقول الإنجيل في هذا: «أنَّ آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا».
قام المسيح يومًا بمعجزة إطعام أكثر من خمسة آلاف نفس تم إشباعها من خمسة أرغفة وسمكتين، ثم ألزم تلاميذه أن يسبقوه بالسفينة إلى الشاطئ الآخر من البحيرة.. وسارت السفينة في وسط البحر، وكانت الريح مضادة، والأمواج عالية، وحل الظلام، وهم في صراع مع البحر خائفون ومضطربون... ومر الهزيع الأول من الليل، وتبعه الثاني والثالث، ودخل عليهم الهزيع الرابع وهم في عذاب... عندها جاءهم المسيح ماشيًا على وجه المياه، فلما أبصروه عن بعد في عتمة الليل ظنوه شبحًا فصرخوا من الهلع، لكنه اقترب منهم وقال: «تشجعوا، أنا هو، لا تخافوا!» ولما دخل السفينة سكتت الريح وكأن شيئًا لم يكن!
ويتساءل البعض: لماذا انتظر عليهم وهم في عذاب حتى الهزيع الرابع من الليل؟ فنقول: لو جاءهم قبل اشتداد الأزمة أو قبل المعاناة التي اجتازوا بها لكان الأمر عاديًا ولن يكون له مكان في ذاكرتهم، لكن تعال وانظر البهجة في قلوبهم ولمعان الفرح في عيونهم بعد أن استقرّ بهم الحال. اختبار كهذا مروا به عزز ثقتهم بمسيحهم ولم ينسوه طيلة حياتهم، وإنجيل الوحي سجل الحدث لتعليم الأجيال المتعاقبة. فمهما اشتدت الريح وتعاظمت الأمواج تبقى عينه علينا يرعانا ويهتم بنا. ويقول: «ادعني في وقت الضيق أنقذك فتمجدني».
ونعود للسؤال: هل يسكت الله ونحن نعاني من شدة أو ضيقة؟
غاب المسيح عن محيط أورشليم مع تلاميذه لبعض الوقت وذهب إلى شمال فلسطين. وكان له صديق يحبه اسمه «لعازر» يسكن مع أختيه مرثا ومريم في قرية بيت عنيا في ضواحي أورشليم. وفي غياب المسيح مرض لعازر، والمسيح يعلم بذلك دون أن يخبره أحد إذ لا تخفى عليه خافية. ومات لعازر ودفن في غياب المسيح.. وكم تمنت مرثا ومريم أن يكون المسيح حولهم ليشفي لعازر قبل وفاته. وبقي المسيح في صمته، وفي لحظة مفاجئة قال لتلاميذه: «لعازر حبيبنا قد مات». فقام التلاميذ وحزموا أمتعتهم، وعادوا إلى أورشليم، وجاءوا إلى بيت عنيا. ووقف المسيح أمام قبر لعازر وبكى! وتراكض الناس إلى المكان وقالوا: انظروا كم كان يحبه! وكان الميت له أربعة أيام في قبره وقد أنتن... واتجه المسيح إلى باب القبر على بعد أمتار ونادى الميت وقال: «لعازر. هلم خارجًا!». وبعد لحظات خرج الميت من المغارة التي دفن فيها تحيط بجسده الأكفان حسب عادة اليهود في تكفين موتاهم. فذهلت الجموع وهم يشاهدون المعجزة تتحقق أمام عيونهم، وبسببها آمن الكثيرون بالمسيح، والإنجيل شهد بذلك.
فالمسيح صمت كل الفترة التي مرض بها لعازر حتى مات... وبعدها تحرك، وحضر، وقام بالمعجزة لأن توقيته يختلف عن توقيتنا.
وأقول لكل من يعاني من أزمةٍ أو ضيقةٍ ما تشغل باله، أو من قلق، أو خوف، أو خسارة مالٍ أو ممتلكات ألمّت به... إلى هؤلاء أقدم هذه القصيدة التي تدعو للأمل:
إذا غابت الشمس خلف الغيوم
وأضحى النهار كليلٍ طويل
وإن غطّت السحب نور النجوم
وقلت في ضيقك: أين السبيل؟
وإن كنت تقضي طوال السنين
تجوب بنفسك عرض القفار
وتسعى وتسعى بقلبٍ حزين
لأنك تبغي سريع الثمار
تعال وقف تحت نجم السما
ففي الشرق ذا بدا مرشدا
وسر في الطريق على هَدْيِهِ
هناك يسوع هناك الهدى
فيملأ قلبك نور المسيح
ويهدأ روعك إذ تستريح
ففي جنبه قد تركنا الجراح
ومن قلبه فاض حبٌ صريح