أيلول - تشرين الأول Sep - Oct 2012
كل منّا يرغب أن يعيش في وئام وسلام مع جميع الناس المحيطين به، لا سيما من أهل وأشقاء وأصدقاء وزملاء. لكن المشاكل عادة ما تحدث، حتى بين أفراد الأسرة الواحدة، وبين الأصدقاء وبين الزملاء، ويصعب الحفاظ على الوئام والمحبة بشكل مستمر.
وهناك بالطبع أسباب عديدة للخلافات التي تحدث في الأسرة الواحدة، أو بين الأصدقاء والزملاء، يصعب حصرها. ولعلّ أحد هذه الأسباب هي محاولة البعض فرض سيطرته أو رأيه على الآخرين، وعدم إعطائهم المجال لكي يفكّروا بحريّة، ويختاروا الطريق الذي يريدونه.
وفي هذا المجال كثيرًا ما يساء فهم تصريح الرب يسوع المسيح القائل: "لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا. فَإِنِّي جِئْتُ لأُفَرِّقَ الإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ، وَالابْنَةَ ضِدَّ أُمِّهَا، وَالْكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا. وَأَعْدَاءُ الإِنْسَانِ أَهْلُ بَيْتِهِ" (متّى34:10-36).
فماذا قصد المسيح بهذا التصريح الهام؟ وهل هو فعلاً لم يأت ليصنع السلام كما هو متعارف عليه؟ وكيف به يُلقي سيفًا أي صراعاً بدل السلام؟ وهل هو حقًا يفرّق الابن ضد أبيه، والبنت ضد أمّها، والكنّة ضدّ حماتها؟ ولماذا صرّح: أن أعداء الإنسان هم أهل بيته؟
أجل، هل من المعقول أن يكون المخلّص المسيح قد أتى لينزع السلام بين أفراد الأسرة الواحدة، وليحلّ السيف بينهم؟ إنه بالفعل تصريح خطير. لكن علينا قبل أن نصل إلى بعض الاستنتاجات الخاطئة، أن نعرف ماذا قصد المسيح بهذا التصريح؟
لقد تنبأ النبي إشعياء وقبل مئات السنين عن المسيح المخلّص الآتي، أنه سيكون رئيس السلام، أي ملك السلام. وهتفت الملائكة عند ولادة المسيح: "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرّة" (لوقا 14:2). لا بل إن المسيح نفسه صرّح قائلاً: "طوبى لصانعي السلام. لأنهم أبناء الله يُدعون" (متّى 9:5). وتحدّث إلى تلاميذه قائلاً: "سلامًا أترك لكم. سلامي أعطيكم" (يوحنا 27:14). فهل من المعقول أن المسيح الذي هو ملك السلام، والذي رنمّت الملائكة عند ولادته بالسلام، والذي طوَّب صانعي السلام، ودعاهم بأبناء الله، والذي قال لتلاميذه: سلامًا أترك لكم، سلامي أعطيكم، هل من المعقول أن يصرّح أنه لم يأت ليلقي سلامًا بل سيفًا، وأنه جاء ليفرّق الإنسان ضد أهل بيته. وأن أعداء الإنسان هم أهل بيته؟
للإجابة عن هذه التساؤلات الهامة، ولحل هذا الإشكال والتناقض الذي بدا في تصريحات المسيح، علينا أن نوضح أن المسيح قد كشف في تصريحه الذي نتداوله الآن، عما سيحدث عندما يؤمن أي شخص بالمخلّص المسيح. وكيف أن أفراد العائلة الآخرين سيقفون ضدّه ويحاربونه بشدة.
وفي هذه الحالة يكون دخول المخلّص المسيح إلى البيت، قد سبّب انقسامًا ونزاعًا بين أفراده. وهكذا يحل السيف بدل السلام، والنزاع والخلاف بدل التفاهم والوئام، وهو بالضبط ما قصده المخلّص المسيح في تصريحه هذا. وهذا لا يتناقض أبدًا مع تصريحاته الأخرى التي تؤكد على أهمية صنع السلام.
أليس هذا ما يحصل في عالمنا العربي عندما يؤمن أي فرد في العائلة بالمخلّص المسيح؟ فالأب يقوم ضد ابنه، وكذلك الأم ضد ابنتها إذا آمنا بالمسيح. وهكذا يسود النزاع العائلة الواحدة. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، إذ يضطهد الصديق صديقه والزميل زميله، وكذلك المجتمع يضطهد كل من يؤمن بالمسيح.
هل تعلم قارئي أن الإيمان بالمخلّص المسيح قد يسبب خلافات عميقة في الأسرة الواحدة؟ وبين الأصدقاء والزملاء؟ إذ قد يُعتبر هذا الإيمان خروجًا عن التقاليد الموروثة، وتمردًا على المعتقدات الدينية، لا بل تحديًا للمجتمع؟ ويسبّب بالتالي مشاكل عديدة لا تُحصى. لكن أليس أمرًا غريبًا أن يتدخل الناس في شؤون بعضهم البعض؟ ولماذا لا تُترك الحريّة للفرد لكي يقرر عن نفسه؟ وماذا سيضير الآخرين لو آمن أحدهم بأمر يختلف عن إيمان الناس من حوله؟ ولماذا لا يلجأ الناس عادة إلى وسائل الاقناع من حوار هادئ ومنطق مقنع؟
إن الحجة تقابل بالبرهان والدليل، وليس بالعنف أو الاضطهاد. وهل يظن البعض أنهم بالعنف يستطيعون إقناع الشخص أو إعادته إلى الطريق الذي كان سائرًا فيه؟ بينما الذي يحدث عادة هو أن العنف والاضطهاد يزيدان من قناعة الشخص بالطريق الجديد الذي سلكه، وليس العكس.
من المسلّم به أن عملية الإيمان بالمخلّص المسيح هي من عمل روح الله القدوس. فالروح القدس هو الذي يقنع المرء أنه خاطئ، وأنه بحاجة إلى خلاص المسيح، وهو الذي يغيّر قلبه من الداخل، ويجعله بالتالي إنسانًا جديدًا. فكيف بهذا الإنسان بعد أن اختبر خلاص الله المجيد يعود عنه؟ وهذا الأمر لا يدرك سرّه الناس المحيطين به، ظانين أن الموضوع مجرد نزوة أو خدعة وقع بها هذا الشخص. ولهذا يحاولون ثنيه عنه بأية وسيلة كانت، تصل إلى حد التهديد بالقتل. لكنهم يتفاجؤون عندما يصر هذا الإنسان على موقفه، إذ هو عرف اختبارًا عجيبًا بدّل حياته رأسًا على عقب.
وهذا الاختبار بالذات وحلول الروح القدس في داخله يعطيانه القوة لكي يواجه الاضطهاد لا بل الموت بفرح وشجاعة. إذن إن المخلّص المسيح كان يشير أن مجيئه سيفرّق بين أفراد العائلة الواحدة - عندما يؤمن به أحد أفرادها - هذا هو السيف الذي قصده. ولكن في نفس الوقت إن المسيح هو ملك السلام، الذي دعا إلى السلام وحثّ عليه، وهو معطي السلام الحقيقي لكل من يؤمن به. لا بل طلب من المؤمنين به أن يسعوا من أجل السلام.