تشرين الثاني November 2012
"وَهُوَ (سجان مدينة فيلبي) إِذْ أَخَذَ وَصِيَّةً مِثْلَ هذِهِ، أَلْقَاهُمَا فِي السِّجْنِ الدَّاخِلِيِّ، وَضَبَطَ أَرْجُلَهُمَا فِي الْمِقْطَرَةِ. وَنَحْوَ نِصْفِ اللَّيْلِ كَانَ بُولُسُ وَسِيلاَ يُصَلِّيَانِ وَيُسَبِّحَانِ اللهَ، وَالْمَسْجُونُونَ يَسْمَعُونَهُمَا" (أعمال 24:16-25).
توجد في حياة السجان في ليلة واحدة ثلاثة مراحل مختلفة تمامًا: المرحلة الأولى هي في أول الليل، والمرحلة الثانية هي في منتصف الليل والمرحلة الثالثة هي ما بعد ذلك.
ففي أول الليل كان شيئًا، وفي منتصف الليل كان شيئًا آخر. أما فيما بعد فقد كان شيئًا مختلفًا تمامًا عن المرحلتين السابقتين. في أول الليل كان سجانًا قاسيًا عنيفًا يضرب بدون رحمة. تقول كلمة الرب عنه: "وَهُوَ إِذْ أَخَذَ وَصِيَّةً مِثْلَ هذِهِ، أَلْقَاهُمَا فِي السِّجْنِ الدَّاخِلِيِّ، وَضَبَطَ أَرْجُلَهُمَا فِي الْمِقْطَرَةِ". وَنَحْوَ نِصْفِ اللَّيْلِ كان في قمة الاندهاش لأنه كان يسمع من هذين المسجونين ما لم يسمعه من قبل، ويرى في تصرفاتهما أمورًا لم يرها من قبل! كان يرى في عيون المساجين الحقد والغل والرغبة في الانتقام، ولكنه رأى في عيون هذين المسجونين حبًا وتسامحًا واضحَين. وكم كانت أمنيته أن يقف على السر الذي جعل هذين المسجونين مختلفَين عن بقية المساجين. وفعلاً عمل الرب بقوته أمورًا كشفت له السر وأوضحته بأجلى بيان، ولم يعرف السر فقط ولكنه اختبره هو وأهل بيته. وكم كانت سعادته عظيمة بهذا التغيير المعجزي الذي جعله يشعر بسلام غامر يملأ قلبه وقلوب أهل بيته أيضًا لأول مرة في حياتهم.
وسأتحدث إلى حضراتكم عن هذا التغيير العجيب في ثلاثة أمور:
أولاً: قسوة قلبية؛ ثانيًا: أحداث فجائية؛ ثالثًا: نتيجة يقينية
أولاً: قسوة قلبية
كان هذا السجان وحشًا يلبس ثيابًا آدمية، اشترك في ضرب وتعذيب بولس وسيلا، وإذ أخذ وصية وضعهما في السجن الداخلي وضبط أرجلهما في المقطرة. والمقطرة عبارة عن كتلتين من الخشب بكل كتلة منهما ثلاثة أنصاف ثقوب أو أكثر - توضع رِجل المسجون في أحد هذه الثقوب وتسحب القدم الثانية لتوضع في ثقب بعيدًا عن الثقب الأول. وتثبّت كتلة الخشب الثانية على الكتلة الأولى بقفلين واحد من جانب والثاني من جانب آخر. ولو تخيّلنا حالة المسجون الذي توضع قدماه في المقطرة بالإضافة إلى سلسلتين في يديه، نجد أنه أمر غاية في الصعوبة تنتج عنه آلام شديدة جدًا! ولا يمكن أن يستخدم المقطرة إلا إنسان قاس قُدَّ قلبه من صخر. ومن المعروف عن الرومانيين أنهم مشهورون بالقسوة وفظاظة القلب.
انظروا ما فعله الرومانيون بالرب يسوع، له كل المجد! من وقت القبض عليه وحتى موته على الصليب، وأنتم ترون وحوشًا في أجساد بشرية، فقد جلدوه... وضفروا إكليلاً من شوك ووضعوه على رأسه، وأخذوا القصبة وضربوه على رأسه، وبصقوا عليه، وسمروا يديه وقدميه... ويجب علينا أن نعرف أن القسوة ليست في الرومانيين فقط بل في كل إنسان بعيدًا عن الرب. فإذا رجعنا إلى بولس نفسه عندما كان يحمل اسم شاول، كيف كان إنسانًا بلا قلب، قال عن نفسه: "أَنَا الَّذِي كُنْتُ قَبْلاً مُجَدِّفًا وَمُضْطَهِدًا وَمُفْتَرِيًا". وفي نص آخر يقول: "أَنِّي كُنْتُ أَضْطَهِدُ كَنِيسَةَ اللهِ بِإِفْرَاطٍ وَأُتْلِفُهَا"، "فَحَبَسْتُ فِي سُجُونٍ كَثِيرِينَ مِنَ الْقِدِّيسِينَ... وَلَمَّا كَانُوا يُقْتَلُونَ أَلْقَيْتُ قُرْعَةً بِذلِكَ". ونقرأ عنه في سفر الأعمال: " أَمَّا شَاوُلُ فَكَانَ لَمْ يَزَلْ يَنْفُثُ تَهَدُّدًا وَقَتْلاً عَلَى تَلاَمِيذِ الرَّبِّ، فَتَقَدَّمَ إِلَى رَئِيسِ الْكَهَنَةِ وَطَلَبَ مِنْهُ رَسَائِلَ إِلَى دِمَشْقَ، إِلَى الْجَمَاعَاتِ، حَتَّى إِذَا وَجَدَ أُنَاسًا مِنَ الطَّرِيقِ، رِجَالاً أَوْ نِسَاءً، يَسُوقُهُمْ مُوثَقِينَ إِلَى أُورُشَلِيمَ" ليُعاقَبُوا بالسجن أو القتل. وعندما رُجم استفانوس كان راضيًا بقتله، والدليل على رضاه أنه كان واقفًا عند ثياب الشهود الذين شهدوا زورًا على استفانوس.
ثانيا: أحداث فجائية
لقد حدثت أمور في منتهى الغرابة، فعند منتصف الليل سمع السجان ما لم يكن يسمعه من قبل. لقد تعوّد على سماع أقذر الألفاظ وأشرها... السباب، والشتائم، واللعنات، والكلمات النابية، ولكن ها هو يسمع كلمات تعبّر عن مدى الأفراح الشديدة التي ملأت قلبَي هذين المسجونين وفاضت لتصل إلى أفواههما في صورة ألحان مجلجلة تهزُّ كلماتها المشاعر والكيان. فكان يحدّث نفسه قائلاً: ما هذا الذي أسمعه؟ وكان يتساءل في نفسه: ترى، ما الذي جعل هذين الرجلين في هذه الحالة المختلفة عن بقية المساجين؟ لا شك أن في الأمر سرًّا لا بد أن أعرفه. ثم إن هناك حدثًا آخر قلب الأمور رأسًا على عقب ألا وهو الزلزلة القوية التي هزت أركان السجن، وفتحت أبوابه على مصاريعها، وفكّت قيود الجميع! وهنا بدأ يتحدّث السجان إلى نفسه متسائلاً: لماذا حدثت الزلزلة هذه الليلة بالذات التي فيها دخل هذان المسجونان السجن؟ لا شك أن هناك ارتباطًا بين هذا الحدث ووجودهما في السجن. وتوقّف عن التفكير إذ بدرت إلى ذهنه فكرة أن كل المسجونين هربوا. فاستلّ سيفه ليقتل نفسه - فلو كان هناك شخص غير الرسول بولس لقال: إن الله يمهل ولا يهمل. لقد انتقم الله لدمائنا التي نزفتها أجسادنا من الجراح التي سببها تعذيب هذا الرجل لنا، وبقتله نفسه تكون عدالة السماء قد اقتصّت منه وأراحتنا من وجهه الغضوب وقلبه الحقود. لكن هذه الأقوال ليست من شيم المؤمنين. إن قلب المؤمن لا يظهر إلا المحبة حتى للأعداء. ألم يقل الرب يسوع، تبارك اسمه، "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ؟". وبسبب قول المسيح هذا قال بولس للسجان: "لاَ تَفْعَلْ بِنَفْسِكَ شَيْئًا رَدِيًّا! لأَنَّ جَمِيعَنَا ههُنَا!". عندما تحدّث بولس بهذه الكلمات العجيبة لم يقوَ السجان على الانتظار فطلب ضوءًا واندفع إلى داخل وخرّ لبولس وسيلا وهو مرتعد "ثُمَّ أَخْرَجَهُمَا وَقَالَ: يَا سَيِّدَيَّ، مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ أَفْعَلَ لِكَيْ أَخْلُصَ؟".
ثالثا: نتيجة يقينية
ما أن سمع بولس وسيلا سؤال السجان "مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ أَفْعَلَ لِكَيْ أَخْلُصَ" حتى فاض قلباهما بالفرح والسرور وأجاباه على الفور: "فَقَالاَ: آمِنْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ. وَكَلَّمَاهُ وَجَمِيعَ مَنْ فِي بَيْتِهِ بِكَلِمَةِ الرَّبِّ". لاحظوا ما حدث مع هذا السجان. تقول كلمة الله: "فَأَخَذَهُمَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مِنَ اللَّيْلِ وَغَسَّلَهُمَا مِنَ الْجِرَاحَاتِ، وَاعْتَمَدَ فِي الْحَالِ هُوَ وَالَّذِينَ لَهُ أَجْمَعُونَ. وَلَمَّا أَصْعَدَهُمَا إِلَى بَيْتِهِ قَدَّمَ لَهُمَا مَائِدَةً، وَتَهَلَّلَ مَعَ جَمِيعِ بَيْتِهِ إِذْ كَانَ قَدْ آمَنَ بِاللهِ".
يا للتغيير العجيب الذي أحدثته نعمة الرب! يقول الرسول بولس عن هذه النعمة أقوالاً كثيرة أذكر منها: "لأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَتْ نِعْمَةُ اللهِ الْمُخَلِّصَةُ، لِجَمِيعِ النَّاسِ، مُعَلِّمَةً إِيَّانَا أَنْ نُنْكِرَ الْفُجُورَ وَالشَّهَوَاتِ الْعَالَمِيَّةَ، وَنَعِيشَ بِالتَّعَقُّلِ وَالْبِرِّ وَالتَّقْوَى فِي الْعَالَمِ الْحَاضِرِ".
وقوله: "لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ".
وقوله لتلميذه تيموثاوس: "وَتَفَاضَلَتْ نِعْمَةُ رَبِّنَا جِدًّا مَعَ الإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُول: أَنَّ الْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا". هذه النعمة هي التي غيّرت السجان وأهل بيته تغييرًا جذريًا وكليًّا، وتستطيع أن تغيّر كل إنسان خاطئ مهما كانت آثامه.
سمعت من أحد خدام الرب أن أمير الوعاظ سپرجن قال في إحدى عظاته، بعد أن رفع الكتاب المقدس بيده: "إني أؤمن بكل ما جاء في هذا الكتاب العظيم إلا عبارة قصيرة وردت فيه لا يمكن أن أؤمن بها. قد تندهشون من هذا القول، لكن ستزول دهشتكم عندما تعرفون ما هذه العبارة التي أقصدها. إنها قول بولس عن نفسه أنه أول الخطاة. فإن ذلك ليس صحيحًا على الإطلاق لأن سپرجن هو أول الخطاة وليس بولس". وبعد الاجتماع تقدّمت إحدى السيدات وقالت له: "مستر سپرجن، إنني أؤيّد كل ما قلته في رسالة اليوم إلا قولك عن نفسك أنك أول الخطاة. الحقيقة هي أنني أنا أول الخطاة ولست أنت". ولو كنت أنا - كاتب هذا المقال - موجودًا آنذاك لقلت: ريِّحوا أنفسكم لأن الحقيقة هي لا بولس، ولا سپرجن، ولا هذه السيدة أول الخطاة، ولكن أنا هو أول الخطاة!
أخي القارئ، هل تغيرت حياتك بنعمة المسيح وبقوة دمه؟ إن كنت كذلك، فدعني أهنئك من كل قلبي وإن لا فإني أقول لك:
"آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك".
إن أعظم كلمات تُقال للإنسان هي "مغفورة لك خطاياك" كما قيل للمفلوج! وأعظم كلمات تُقال للأسرة هي: "اليوم قد حصل خلاص لهذا البيت" كما قيل عن بيت زكا!