كانون الأول December 2012
عزيزي القارئ، أينما كنت، وفي أي أرض تقيم، ومن أي نبعٍ تستقي، وأي هواءٍ تستنشق، وإلى أي عقيدةٍ تنتمي.
وتدور عجلة الزمن، وتعود الأيام من جديد لتحيي ذكرى أعظم وأعجب حدثٍ عرفته البشرية "ميلاد المسيح"!
ونتساءل، ويتساءل معنا الملايين: أيُّ ميلادٍ بهي حدث في التاريخ كميلاده؟!
وأي عظيم نال مجدًا في ميلاده كما نال المسيح؟! ولأيٍّ من عظماء التاريخ من أنبياءَ، وأولياءَ، ورجالِ حكمٍ وسياسة، مَنْ تعاظم وتسامى في المجد والجلال في ميلاده كما هو؟!
فالعظماء لا يولدون عظماء، بل العظمة تلحق بمستحقيها بعد خبرةٍ طويلة ومعاناةٍ جادة تستغرق السنين. أما هو فقد وُلد عظيمًا.
هبط المسيح إلى أرضنا من سماء البهاءِ والجلال فاحتفلت الملائكة بميلاده. وحدث الميلاد شقّ التاريخ إلى نصفين: ما قبل الميلاد، وما بعد الميلاد! فنحن لم نعظّمه من أنفسنا، بل العظمةُ لازمته من لحظةِ ميلاده واستمرت خلال فترة وجوده بيننا في الأرض إلى أن توارى عن أنظارنا وعاد إلى مجده ومقر سكنه في السماء في يوم صعوده حيًا على مشهدٍ من تلاميذه.
ونخال اليوم أن الدنيا كلَّها تحتفل معنا بهذه الذكرى التي فاق وصفها العقول، وحيَّر أرباب الفكرِ، وأذهل العلماءَ. والعجيب العجيب أن من سبق المسيح من أنبياء كانوا قد أنبأوا بتفاصيل ميلاده، ونمط حياته وهدف رسالته. وها هي كتاباتهم متوافرة بكل لغات العالم وتشكّل وثائق وحيٍ ربانية شاهدة للتاريخ، تُعرِّف الدنيا كلها بهوية مولود بيت لحم وتعرّف مسبقًا لماذا جاء، وما هو هدف رسالته.
ويبقى ميلاده يحيّر عقول الملايين ممن فاتتهم حقيقةُ من ترى يكون هذا المولود؟ ولماذا جاء بهذه الصورة المذهلة للعقول؟ ولماذا هو بالذات يتميّز بكل هذا العجب؟ وما سرُّ رسالته التي جاء من أجلها؟ وكيف يولد السماوي على أرضٍ من ترابٍ لوّثتها الخطية وأفسدها إثم الإنسان؟ ولماذا يولد من كان له وجودٌ قبل ميلاده؟ أليس هو كلمة الله؟ أوَليست الأزلية من صفات الله؟! وهل كان الله في أزليته بدون كلمة - لا ينطق ولا يتكلّم؟!
يجيب الإنجيل عن هذا بقوله: "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ". البدءُ هو الأزل. فكلمة الله إذًا أزلية من أزلية الله.
أسئلة وتساؤلات تتردد في أذهان الكثيرين وتحيّر العقول! وما بين الحيرة والحقيقة شعرة… فمن تخطّاها يكون قد حلَّ اللغز وعرف حقيقة هوية هذا المولود ومن ترى يكون هو.
قارئي الكريم، لا بد أن تعرف أن لحظة ميلاده لم تكن نقطة البدءِ لوجود المسيح، لأن وجوده كان سابقًا لميلاده، ولذلك عند ميلاده رافقته أسراب الملائكة بأجنحتها وصدحت حناجرها غير البشرية بترنيمة الميلاد الأولى: "المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة".
وهنا نتساءل: مَنْ في الدنيا حظيَ بمثل هذا الاحتفال الملائكي في يوم ميلاده؟! ومَنْ نظمت له السماء لا البشر أشعارًا في يوم مولده؟
بالميلاد لامس المسيح عالم دنيانا، إذ قال الإنجيل: "والكلمة صار جسدًا"، فحلَّ حينها المسيح بيننا ضيفًا علينا. ولأنَّ الضيف يزور ويرحل، لذلك فهو بعد أن استكمل هدفَ الزيارة عاد من حيث جاء، وارتقى إلى السماء أمام عيون تلاميذه وهم ينظرون.
ثم لأن المسيح سُرَّ بما أنجزه في زيارته الأولى قبل ألفي عام، وعد بتكرار الزيارة إذ قدّم وعدًا لكل محبيه أنه سيعود ثانية إلى أرضنا في آخر الأيام، وعن قريب سيشهد العالم هذا الحدث العجيب. وعندما يحصل، نقول هنيئًا لمن استعد للقائه بتوبةٍ صادقة وقلب نقيٍ يرضى هو به.
عند التأمُّل الهادىء على انفرادٍ في خلوةٍ من الوقت بشخصية المسيح وما يحيط بها من ألغاز مذهلة، يتساءل الإنسان: ما سر كل هذا؟!
فهنا ميلاد معجزي من عذراء نقية طاهرة شهدت لها كتب الأنبياء، وهناك معجزات شفاءٍ متنوعة ومتعددة لم يحصل أن اجتمعت كلها معًا في شخصِ نبيٍ واحد. وهناك خطبٌ وعظاتٌ وتعاليم نطق هو بها وسجلها إنجيل الوحي لم يتكلم بمثلها إنسان، وكل كلمة بها تحمل معاني النقاء والحب والتسامح؛ فلا مثيل لها في خطب ومواعظِ كل الأنبياء. فعلى سبيل المثال، دعا المسيح أتباعه بكلمات صريحة إلى محبة الأعداء، وعلّمهم أن يصلّوا ويدعو لأجل من يسيء إليهم، ونهاهم عن رد الأذى بالأذى والشتيمة بالشتيمة، وقال: "باركوا ولا تلعنوا... من سخّرك ميلاً فامش معه اثنين... من ضربك على خدك الأيمن حوّل له الآخر أيضًا". ومع كل ذلك انتشرت ديانته إلى جميع زوايا الأرض وهو لم يحمل سلاحًا ولا نادى بحرب، ولم يهدد أمةً أو يشجع على قتالٍ… ما السر في كل هذا؟!
ثم أخيرًا، انتهت حياته على الأرض بصلبٍ كان يمكن له أن يفلت منه فلم يرد، فصُلب فعلاً ودُفن. وبعد الصلب والدفن حدث ما لم يكن في الحسبان، قام المسيح من بين الأموات، فذهلت عقول حتى أقرب الناس إليه. وبعد 40 يوما صعد المسيح إلى السماء أمام الأحد عشر شاهدًا من تلاميذه في مشهدٍ منظور ملموس ومحسوس في رابعة النهار. لكنه قبل صعوده بلحظات هيأهم إلى ذلك وأكد وعده لهم بأنه سيأتي ثانيةً بهيئته المنظورة في نهاية الأزمان… ونتساءل: ما سر كل هذه المشاهد التي تحيط بالمسيح في كل نواحي حياته؟!
صورٌ وأفكارٌ تمر في أذهان الناس، ويتساءلون وبعضهم يتساءل بصمتٍ ولا يفصح عما يدور في نفسه خوفًا أو خجلاً أو كلاهما معًا. لكني اليوم أريد أن أقول شيئًا ومكافأتي عند الله: إن مصيرك الأبدي وسعادتك الأبدية تتوقف على إمكانية كشفك لهذا السر الذي يحيط بالمسيح.. فإن عرفت سر هذه الألغاز التي تحيط بالمسيح امتلكت مفتاح السعادة في هذه الدنيا وفي الحياة الأبدية. بمعنى، إن عرفت حقيقة هوية المسيح من هو، ولماذا جاء إلى العالم بتلك الصورة، وسرت معه في رفقته ضمنت الحياة الأبدية.