كانون الأول December 2012
عهدناه وديعًا كالحمل، مترفقًا بالضالين البائسين، رقيقًا كالنسيم العليل، منعشًا بقايا الأمل العاثر في قلوب اليائسين، فكيف نقول أنه ثائر؟
عرفناه بسّام الثغر، طلق المحيّا، مشرقًا كالصباح، مشرقًا كالضحى، ينير سبيل اليقين أمام كل حائر، فكيف ندّعي أنه ثائر؟
بملامس أنامله الرقيقة فتح عينَي الأكمه، وطهّر الأبرص، وبكلمة منه أسكت العاصفة، وهدّأ البحر الهائج الثائر، فكيف نقول عنه أنه ثائر؟
لقد علّمنا في إنجيله المقدس أن نردّ بدل الإهانة إحسانًا، وبدل الإساءة تسامحًا وغفرانًا، وبدل القسوة عطفًا وحنانًا، فكيف يكون هذا ثائرًا؟
جاءنا مناديًا مبشرًا بالسلام، بل كان هو السلام متجسّدًا؛ فسمعت الأرض ليلة ميلاده أنشودة السلام يترنم بها جند السماء، ويرددها معهم رعاة الأغنام على هضاب بيت لحم، قائلين معًا: "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام...". وقال هو في موعظة الأجيال والدهور: "طوبى لصانعي السلام... طوبى للودعاء". واختتم حياته على الأرض بكفارته الفدائية ليقيم سلامًا بين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، بل بين السماء والأرض، فكيف نقول عن مثله أنه ثائر؟
سمعناه يقول عن ناموس موسى: "ما جئت لأنقض بل لأكمّل"، وأوصانا أن "نعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، أمن المعقول أن يكون هذا ثائرًا؟
نعم، كان المسيح كل هذا، ولكن على رغم ذلك فقد كان ثائرًا! وكانت ثورته حمراء لا بيضاء، لكنه لم يسفك فيها غير دمه الطهور الذي خضب الغبراء، فوق تلك الأكمة الخضراء، خارج أسوار أورشليم "مدينة السلام" التي أضحت مقبرة الأنبياء والشهداء، فصارت مدينة الدموع والدماء. وُلد كل من عداه ليحيا، ففُرض عليه الموت. أما هو فقد وُلد ليموت فيحقق السلام!
وفي يومنا الحاضر، أرى "رئيس السلام" ما زال ثائرًا. فهو ثائر على الدول الكبرى التي تدّعي الانتساب إليه، ويسجد ملوكها ورؤساؤها يوم ميلاده عند موطئ قدميه، ينشدون أناشيد السلام، وهي في الوقت نفسه تجود بربوات البلايين على معاول التخريب والتدمير، وتضن بالنذر اليسير على عوامل البناء والتعمير.
كان المسيح – ولم يزل – ثائرًا على الأقوياء حتى يستردّ منهم حقوق الضعفاء، رحيمًا بالضعفاء، حتى يصبحوا أقوياء، يقفون على قدم المساواة مع الأقوياء.
كان ثائرًا على الخطية، لكنه كان مترفقًا بالخطاة. كان متسامحًا مع المذنبين التائبين لكنه لم يكن متساهلاً في الحق.
فتيلة مدخّنة لم يطفئْ، وقصبة مرضوضة لم يكسر، لكنه كان أمام تيار الزمن قويًا كالصخر، فارتدّ عنه الموج وانحسر. تألّبت عليه زبانية الكفر والإلحاد فلم تنل منه شيئًا، تحالفت عليه الفلسفة المادية، وصوّب نحوه العصريون شرّ السهام ومرّها. فصمد لها جميعًا، وخرج من كل هذه المعارك مرفوع الرأس عزيز النفس ظافرًا أبيًّا.
كان ثائرًا على التاريخ، فقد أُريد به أن يدخله من بابه الخلفي إذ اضطُرَّت أمه العذراء أن تضعه في مذود، وأبى هو إلا أن يدخله من بابه الأمامي الذي لم يسبقه إليه أحد، إذ وُلد من عذراء بغير رجل، وأحال المذود إلى مهد، وأقام من القش عرشًا، وكان فوق ذلك العرش ملكًا سجد أمامه ملوك الشرق، وقدّموا له هداياهم. ثم وقف هو أمام التاريخ وجهًا لوجه فشطره شطرين سُمِّي أحدهما "قبل الميلاد"، والثاني "بعد الميلاد". فذابت أمامه مجموعة التقاويم من أيام فرعون إلى أغسطس قيصر كما يذوب الشمع أمام النار.
كان ثائرًا على المال وعباده، فأفهمهم أن سعادة الإنسان ليست مستمدة مما يحيط به من جاه وثراء، وإنما تنبع من رضا الله عليه، وتشتق من راحة الضمير، فمن الممكن أن يعيش الإنسان هانئًا مطمئنًا، وهو محفوف بالآلام والسقام، وأن يدخل إلى قلبه بهجة السماء وإن كان محاطًا بكل متاعب الأرض "لأن ملكوت الله في قلوب المؤمنين".
كان ثائرًا على الدنيا فقلبها رأسًا على عقب، حتى اعتدلت لأنها كانت مقلوبة عقبًا على رأس.
كان المسيح ولم يزل ثائرًا على الأقوياء يسترد منهم حقوق الضعفاء، رحيمًا بالضعفاء حتى يصبحوا أقوياء.
إن أراه اليوم ثائرًا على بني قومه، الذين وُلد في ارضهم، فتخلى عنهم بعد أن تجاهلوه، وإذ تعذّر ذلك عليهم حسدوه بمكر وحاكموه، وتحالفوا مع سادتهم الرومان، فحكموا عليه ظلمًا وعدوانًا وصلبوه، ولكي يستريحوا نهائيًا قبروه. لكنه ثار أيضًا على الموت، فدحرج الحجر عن القبر، وحطم الصخر الذي فيه قُبر، وقام منه قيام عزيز ظافر مقتدر.
إني أراه اليوم ثائرًا على عالم تضخّم عقله بالعلم والمخترعات، وضمر قلبه وانكمش وتحجّر، حتى ضاق ذرعًا بالبائسين. فمع أن العلم الحديث قد قرّب الناس بعضهم إلى بعض جغرافيًا، إلا أنه لم يقدر أن يقرّب بينهم روحيًا ومعنويًا. فالمسافة بين الناصرة وبيت لحم التي قطعتها مريم العذراء الطهور، على دابة منذ ألفَي عام، يعجز عن قطعها الإنسان اليوم في القرن الحادي والعشرين، مع كل ما عنده من طرق للمواصلات حديثة وسريعة.
واليوم في هذا الشتاء القارس، الذي يشقى فيه الفقير، ويتألم فيه المريض، ويعاني فيه اليتيم ألم البؤس والحرمان – يخيّل إليّ أننا إذا أردنا أن نلتقي برب العيد الثائر، فعلينا، لا أن نذهب إلى حفلات صاخبة تقام وتنسب ظلمًا إليه، بل أن نبحث عنه فنجده في مستشفى مع مريض يشفيه، وفي ملجأ مع يتيم يواسيه، ومع حزين يجفف دمعه ويعزيه.
وأنِتِ يا أجراس بيت لحم، هلمي صيحي من جديد وأعيدي، وكلما قابلتِ آذانًا منصرفة عن سمع ألحان نشيد الميلاد، ردديها، لعلها تشيع السلام في قلوبنا، وتذكرنا بالمسيح الحليم الثائر، فإما أن تردد الأرض من جديد نشيد جند السماء: "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام"... وإلا فعلى الأرض السلام.