كانون الأول December 2012
بالطبع إن الذي اخترق الزمان والمكان ليس هو رجل الفضاء، لكنه الابن الوحيد والكلمة الأزلي. الابن الذي تنازل إلينا من السماء، والكلمة الذي تجسّد في هيئة بشر. نعم، لقد اخترق الابن الوحيد الزمان والمكان بحسب خطة الله الأزلية المرسومة لفداء الجنس البشري. وأتى إلينا في ملء الزمان، أي في الوقت المعيّن من قبل الله.
ولهذا يبدأ سفر العبرانيين بالقول: "الله بعدما كلّم الآباء بالأنبياء قديمًا بأنواعٍ وطرقٍ كثيرة، كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه، الذي جعله وارثًا لكل شيء الذي به أيضًا عمل العالمين. الذي وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحاملٌ كل الأشياء بكلمة قدرته بعد ما صنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي، صائرًا أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسمًا أفضل منهم" (عبرانيين 1:1-4). نعم، فبعد أن كلّم الله الشعب قديمًا بواسطة الأنبياء بأساليب ووسائل عديدة، ها هو يكلّمنا في الأيام الأخيرة مباشرة بواسطة ابنه الأزلي، الذي اخترق الزمان والمكان لكي يحقق وعود الله القديمة، ولينفّذ مقاصده الأزلية نحو الجنس البشري. إن مجيء أو ولادة الابن لم يكن صدفة، بل كان بحسب خطة الله المرسومة منذ الأزل. وعند مجيء الابن أعلن الله بشكل كامل ونهائي خطّته الأزلية نحو الجنس البشري.
ولقد عبّر الرسول يوحنّا عن هذه الحقيقة الهامة أيضًا عندما تحدّث عن الكلمة الذي كان في البدء، "والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان. فيه كانت الحياة.." ثم أعلن عن اختراق الكلمة أو مجيئه لعالمنا "والكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا ورأينا مجده مجدًا كما لوحيد من الآب مملوءًا نعمة وحقّا". ثم عاد وأكّد أن الكلمة المتجسّد هو نفسه الابن الأزلي: "الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبّر". وفي نفس الوقت أعلن أن "الناموس (أي شريعة العهد القديم) بموسى أُعطي. أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا" (يوحنا 1:1-4أ؛ 17:14-18). وهو بذلك أكّد أن تجسد الكلمة الأزلي ومجيء الابن الوحيد هو إعلان الله الكامل والنهائي للجنس البشري.
أجل، لقد اخترق الابن الوحيد - الكلمة الأزلي - عالمنا في زمان معيّن وفي مكان محدد، وصار في الهيئة كإنسان. أي تنازل من الأمجاد السماوية واندمج معنا في الطبيعة البشرية، لكن من دون خطيئة. وعندما اخترق الابن عالمنا، حلّ الله في وسطنا، وصار في نفس الوقت ملكه ظاهرًا للعيان. ولهذا أخذ المسيح "يكرز ببشارة ملكوت الله. ويقول: قد كَمَلَ الزمان واقترب ملكوت الله. فتوبوا وآمنوا بالإنجيل" (مرقس14:1ب-15). أي قد أتى المسيح الملك المنتظر، وحلّ بالتالي الزمان الذي سيُعلن فيه ملكوت الله. ألم يقل المسيح مرّة للفريسيين: "ولكن إن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله" (متى 28:12)؟
نعود إلى مقدمة سفر العبرانيين حيث نلاحظ،
أولاً إعلان كاتب سفر العبرانيين أن "الله كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة"، أي الأيام الأخيرة التي وعد فيها الله الشعب في القديم بمجيء المسيح المخلّص الملك وتحقيق مقاصده الأزلية. ولهذا نقول: إن إعلان سفر العبرانيين هنا - أن مجيء الابن قد حصل في الأيام الأخيرة - هو تأكيد واضح أنه بمجيء الابن قد أتمّ الله كل وعوده، بشكل كامل ونهائي، وأعلن في نفس الوقت تحقيق مقاصده الأزلية نحو جنسنا البشري. ولعلّ ما بدأ به الكاتب بقوله: "الله بعد ما كلّم الآباء بالأنبياء قديمًا بأنواع وطرق كثيرة، كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه" هو تأكيد واضح لما أشرت إليه. لقد مهّد الله لمجيء الابن عن طريق تعامله مع الإنسان من خلال الأنبياء، بوسائل وأساليب متنوعة ومتعددة. لكن كان لا بدّ أن تأتي الأيام الأخيرة التي فيها يرسل الله ابنه الوحيد وكلمته الأزلي إلى عالمنا، ويعلن خطّته النهائية والكاملة لخلاص الإنسان. وكان الرسول بطرس قد تحدّث في رسالته عن الفداء الذي تمّ بدم المسيح "معروفًا سابقًا قبل تأسيس العالم ولكن قد أُظهر في الأزمنة الأخيرة من أجلكم" (1بطرس 20:1).
ثانيًا قول الكاتب في سفر العبرانيين عن هذا الابن الأزلي أن الله "جعله وارثًا لكل شيء". لقد كانت الوراثة تقتصر في القديم على شعب معيّن، أما الآن فقد أصبحت من نصيب ابن الله الوحيد، الكلمة الأزلي المتجسّد، ومن نصيب كل من يؤمن به، فهو صار الوارث الحقيقي لكل شيء. وهذا يذكّرنا بمثل الكرم والكرّامين الذي قصّه الرب يسوع المسيح، إذ قال الكرّامون فيما بينهم لمّا رأوا الابن: هذا هو الوارث. هلمّوا نقتله ونأخذ ميراثه (راجع متى 38:21). إن الابن إذًا هو الوارث، وأصبح بالتالي اليوم كل من يؤمن بالمسيح وارثًا معه. "فإن كنّا أولادًا فإننا ورثة أيضًا ورثة الله ووارثون مع المسيح" (رومية 17:8). وهذا ما عاد الرسول بولس وأكّده في رسالته إلى غلاطية إذ كتب قائلاً: "فإن كنتم للمسيح فأنتم إذًا نسل إبراهيم وحسب الموعد ورثة" (غلاطية 29:3).
ثالثًا إعلان كاتب سفر العبرانيين أن الله قد عمل أي خلق العالمين بواسطة هذا الابن المتجسّد. وهو نفسه الاعلان الذي أكّدته مقدمة الإنجيل بحسب بشارة يوحنا، عندما كتب الرسول يوحنا: "كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان. فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس. والنور يضيء في الظلمة والظلمة لم تدركه" (يوحنا 4:1-5). ثم عاد الرسول بولس وأكّد هذه الحقيقة في الرسالة إلى كولوسي عندما كتب قائلاً: "فإنه فيه خُلق الكل ما في السموات وما على الأرض ما يُرى وما لا يُرى سواءٌ كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خُلق" (كولوسي 16:1).
رابعًا تأكيد كاتب سفر العبرانيين على لاهوت الابن الذي تجسّد، أي لاهوت المسيح: "الذي وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحاملٌ كل الأشياء بكلمة قدرته..". لا يوجد وصف أبلغ وأعمق من هذا الوصف لتأكيد لاهوت الابن الذي تجسّد. فهو بهاء مجد الله ورسم جوهره، وحاملٌ كل الأشياء بكلمة قدرته. أي أن هذا الابن هو الإعلان الكامل لله، وهو أيضًا التجسّد الكامل لله. هذه الحقيقة سبق للرسول يوحنا أن أكّدها في مقدّمة بشارته عندما كتب قائلاً: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله". ثم كتب قائلاً: "الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبّر". ولقد عبّر الرسول بولس عن هذه الحقيقة أيضًا عندما كتب قائلاً: "الذي هو صورة الله غير المنظور بكر خليقة" (كولوسي 15:1). إن الابن المتجسّد هو إذن صورة الله غير المنظور.
خامسًا وأخيرًا، إعلان كاتب سفر العبرانيين أن هذا الابن الذي تجسّد هو الذي أكمل عمل الفداء للجنس البشري، بعد ما صنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا بموته الكفاري على الصليب، وقيامته الظافرة من بين الأموات، ثم صعوده حيّا إلى السماء، جلس كابن الإنسان في يمين العظمة في الأعالي، أي في مركز القوة والمُلك والسلطان. وبذلك حقق الابن غرض الله من تجسده وإرساله إلى عالمنا.
أجل، إننا نحتفل في هذه الأيام ليس بميلاد المخلّص الرب يسوع المسيح فحسب، بل باختراق الابن الوحيد، والكلمة الأزلي لعالمنا. فهل هناك مناسبة أسعد من هذه المناسبة؟ وهل هناك احتفال أبهج من هذا الاحتفال؟ فهل تراك تؤمن قارئي بهذا المخلّص الفريد الذي تنازل من السماء من أجل خلاصك وتحريرك من عبودية الخطيّة، ولكي تصبح من أولاد الله الذين يرثون معه، أي مع الابن المسيح الغالب المنتصر على كل شيء؟ وعندها تحتفل بميلاده في قلبك أيضًا.