كانون الأول December 2012
"وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ" (غلاطية 4:4-5).
شرح الرسول بولس في الرسالة إلى أهل غلاطية موقف المؤمنين في العهد القديم، أي قبل مجيء المسيح، فقال أنهم ورثة معنا. ولكنهم كانوا يشبهون الابن القاصر، أي لم يصل إلى السن الذي فيه يدرك امتيازاته فيتمتع بها كابن حقيقي "بَلْ هُوَ تَحْتَ أَوْصِيَاءَ وَوُكَلاَءَ إِلَى الْوَقْتِ الْمُؤَجَّلِ مِنْ أَبِيهِ" (2:4). ولكن لما جاء هذا الوقت المعين من أبيه أصبح له الحق في أن يعرف كل امتيازاته وبركاته.
والآن سنتأمل في الآيات المقتبسة أعلاه:
أولاً: "لما جاء ملء الزمان"
والمقصود هو الوقت أو الزمان المعين من الله، الذي أمكن أن يتم فيه إعلان هذه الأسرار والبركات الإلهية بأكملها، وهو يشير إلى الوقت الذي فيه جاء يسوع المسيح. فقد تميّز ذلك الوقت بثلاثة أشياء:
1- كانت القوة السياسية السائدة في العالم هي حكومة الرومان. ومما أنجزته هذه السلطة هو تسهيل السفر من دولة إلى أخرى بدون تقييدات. وهذا كان أمرًا غير مألوف سابقًا. فمثلاً في أيام الإمبراطورية الفارسية احتاج نحميا إلى رسائل من الملك حتى يسمح له بالعبور إلى أورشليم (نحميا 7:2). وفي أيامنا هذه يحتاج الإنسان إلى جواز سفر وفيزا، أما في أيام ولادة ربنا يسوع المسيح وأيام الرسل لم تكن هناك هذه التقييدات فأمكن نقل بشارة الخلاص من دولة إلى دولة، بل من قارة إلى قارة أخرى. وأهمية هذا هي أنه أمكن تتميم ما أمر به المسيح في أعمال 8:1 "وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ". انظر أيضًا متى 19:28 ومرقس 20:16.
2- كانت اللغة السائدة في كل الدول المتحضرة هي اللغة اليونانية. فبالإضافة إلى لغة كل دولة كانت اللغة اليونانية هي لغة العلم والثقافة. وكان العهد القديم من الكتاب المقدس قد تُرجم إليها في القرن الثاني قبل الميلاد، وهي الترجمة السبعينية. وهذا جعل انتشار بشارة الخلاص ممكنًا في دول كثيرة.
3- كان هناك يهود كثيرون قد تشتتوا في بلاد عديدة في أفريقيا وآسيا وأوربا. وكثيرون منهم آمنوا، ونادوا بالأخبار المفرحة التي أتى بها ربنا ومخلصنا يسوع المسيح. ولذلك قضت الحكمة الإلهية أن يولد ربنا ومخلصنا في ذلك الوقت – أي في ملء الزمان.
ثانيًا: "أرسل الله ابنه"
يا لها من عبارة تدعو إلى السجود، ومنها نتعلم أن يسوع المسيح هو ابن الله، وأنه كان كذلك قبل مجيئه إلى العالم. فالله لم يرسِل مخلوقًا أيا كان ثم جعله ابنًا له، بل أرسل "الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب" (يوحنا 18:1). أرسل الله ملائكة على مرّ العصور لأهداف معينة. ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه. "اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيمًا، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُق كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ، الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثًا لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضًا عَمِلَ الْعَالَمِينَ، الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ" (عبرانيين 1:1-3).
ثالثًا: "مولودًا من امرأة"
لما خدعت الحية القديمة – أي الشيطان – حواء وعصى آدم أمر الله، قال الله أن نسل المرأة سيسحق رأس الحية. فلما جاء ملء الزمان أرسل الله الملاك جبرائيل إلى المرأة المعينة من الله، وهي العذراء مريم، ليقول لها: "وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى" (انظر لوقا 26:1-33). مولود المرأة هذا هو نفسه الذي يقول عنه الكتاب "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ... وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا" (يوحنا 1:1-3، 14).
والآن يأتي سؤال مهم:
لماذا تجسد المسيح؟
إننا نجد جوابًا عن هذا السؤال في الأصحاح الثاني من الرسالة إلى العبرانيين:
1- "لِكَيْ يَذُوقَ بِنِعْمَةِ اللهِ الْمَوْتَ لأَجْلِ كُلِّ وَاحِدٍ" (عدد 9). فلو لم يتجسد المسيح لما كان ممكنًا أن يموت لأجلنا.
2- لكي يصير واحدًا منا ولا يستحي أن يدعونا إخوة "لأَنَّ الْمُقَدِّسَ وَالْمُقَدَّسِينَ جَمِيعَهُمْ مِنْ وَاحِدٍ، فَلِهذَا السَّبَبِ لاَ يَسْتَحِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِخْوَةً، قَائِلاً: أُخَبِّرُ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي، وَفِي وَسَطِ الْكَنِيسَةِ أُسَبِّحُكَ" (عدد 11-12).
3- "لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ" (عدد 14).
4- "وَيُعْتِقَ أُولئِكَ الَّذِينَ خَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعًا كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ" (عدد 15). ويا لها من عبودية قاسية، عبودية الخوف من الموت. ولكن على أساس عمل المسيح يمكن للمؤمن أن يقول: "والموت هو ربح".
5- "لِكَيْ يَكُونَ رَحِيمًا، وَرَئِيسَ كَهَنَةٍ أَمِينًا فِي مَا للهِ حَتَّى يُكَفِّرَ خَطَايَا الشَّعْبِ" (عدد 17).
6- "لأَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّبًا يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ" (عدد 18). أي بتجسده جاز في كل ما يجوز فيه الإنسان من تعب، وجوع، وعطش، وظلم، واضطهاد، واتهامات باطلة، وآلام قاسية.
رابعًا: "مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ"
جاء المسيح تحت الناموس، أي في أمة بني إسرائيل كما وعد الله إبراهيم أنه في نسله تتبارك جميع قبائل الأرض، وحدد الله أن النسل الذي يأتي منه المسيح ليس من كل أنسال إبراهيم، بل من ابنه إسحاق. ثم حدّد نسل إسحاق في ابنه يعقوب الذي هو إسرائيل وبذلك وُلد يسوع المسيح تحت الناموس (راجع رومية 7:9-13). ويشير الرسول بولس إلى مجيء المسيح تحت الناموس في رومية 8:15 "وَأَقُولُ: إِنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ قَدْ صَارَ خَادِمَ الْخِتَانِ، مِنْ أَجْلِ صِدْقِ اللهِ، حَتَّى يُثَبِّتَ مَوَاعِيدَ الآبَاءِ". لذلك هو جاء "مولودًا تحت الناموس". "وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُل، بَلْ مِنَ اللهِ" (يوحنا 12:1-13). وموته كان كافيًا لفداء الذين تحت الناموس، كما لفداء الأمم – أي لكل من يؤمن به. كما أن كل من يؤمن به ينال التبني، إذ يصبح من أبناء الله الذين وُلدوا الولادة الجديدة، الولادة من فوق، أي من الله. حقًا نقول مع الرسول بولس: "يَا لَعُمْقِ غِنَى اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ الْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ الاسْتِقْصَاءِ! لأَنْ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ؟ أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيرًا؟ أَوْ مَنْ سَبَقَ فَأَعْطَاهُ فَيُكَافَأَ؟. لأَنَّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ الأَشْيَاءِ. لَهُ الْمَجْدُ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ" (رومية 33:11-36).
أيها القراء الأعزاء، ليت كل واحد منا في هذه الأيام التي يحتفل فيها الكثيرون بعيد الميلاد المجيد يردد في قلبه ما قاله الرسول بولس في 1تيموثاوس 15:1 "صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُول: أَنَّ الْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا".