كانون الثاني - شباط Jan-Feb 2013
قدم الرب يسوع تعاليم سامية بطريقة أدهشت كل من سمعه، حتى أن امرأة قاطعته وهو يتكلم قائلة: "طوبي للبطن الذي حملك والثديين الذين رضعتهما. أما هو فقال: بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه". والأسلوب الذي استخدمه الرب يسوع في كثير من الأحيان هو التحدث بالأمثال حتى أن الكتاب يقول: "بدون مثل لم يكن يكلمهم، لكي يتم ما قيل بالنبي القائل: سأفتح بأمثالٍ فمي، وأنطق بمكتومات منذ تأسيس العالم".
وسأذكر على سبيل المثال لا على سبيل الحصر بعض الأمثال التي تحدث بها الرب يسوع: مثل الزارع، وحبة الخردل، والكنز المخفي في حقل، واللؤلؤة الكثيرة الثمن، والابن الضال، والصديق الذي وقع في أزمة عند منتصف الليل، وأمثلة أخرى كثيرة. وقبل أن أتحدث في مثل الصديق المأزوم أريد أن أضع أمام القراء الأعزاء حقيقة هامة وهي أن المثل لا يجب أن يطبّق بكل جوانبه، فقد يكون المقصود منه جانب أو أكثر يختلف من مثل إلى آخر.
في هذا المثل وضع الرب يسوع سامعيه مكان الصديق الذي وقع في الأزمة ووضع نفسه مكان الصديق الذي قصده صديقه المأزوم لإخراجه من أزمته. وحفاظًا على وقت القارئ أتحدث في هذا الموضوع في ثلاثة كلمات:
أولاً: أزمة شديدة؛ ثانيًا: تصرفات سديدة؛ ثالثًا: نهاية سعيدة
أولاً: أزمة شديدة
بعد عناء يوم في العمل عندما غربت الشمس رجع الرجل إلى بيته وهو يمني نفسه بنوم هادئ وأحلام سعيدة، وبعد أن غسل رجليه وتناول طعام العشاء أعلنت له زوجته أن ما تناولوه من الخبز هو آخر ما في البيت. فلم يعلّق على ما أعلنته له زوجته، وذهب إلى فراشه هو وأولاده، وغطّ في نوم عميق. وعند منتصف الليل استيقظ على صوت طَرَقات على الباب، فسأل: "من الطارق؟" فسمع صوت صديقه الحميم الذي يعزّه جدًا، فهب سريعًا من فراشه ليفتح له الباب إلاّ أنه تذكر أمرًا جعل قدميه تتثاقلان ولم تعودا تحملان جسده، فقد تذكر أمر نفاذ الخبز... يا إلهي! كيف أتصرّف في هذا الأمر؟ وماذا أفعل للخروج من هذه الورطة؟ فبدأ يفكر ويفكر حتى استقر على أمر استراحت له نفسه كثيرًا. وعلى ضوء ما توصل إليه أسرع نحو الباب وفتحه واستقبل صديقه استقبالاً حارًا وبوجه بشوش. وأريد بنعمة الرب أن أتأمل في هذه الأزمة من وجهتين: الأولى: شدتها؛ والثانية: من المسؤول عنها؟
1- شدتها
أزمة يعرف شدتها الشرقيون. فالغربيون سيعتذرون لأنه لم يخبرهم بموعد مجيئه، وأن ما أعدوه لعشائهم كان كافيًا لحاجة الأسرة فقط، ويعدونه أنهم في وجبة الإفطار سيعدّون طعامًا يكفي لهم وله، لكن الشرقيين لا بد أن يقوموا بواجب الضيافة ولو بإعداد وجبة سريعة لضيوفهم مهما كان عددهم، وفي أي وجبة مهما كانت! الخبز هو أهم ما يجب أن يقدَّم، وفي الحالة التي يدور حولها حديثي نرى شدة الأزمة في أن الضيف جاء من مكان بعيد، ربما سيرًا على الأقدام، ووصل في وقت متأخر جدًا، ولا شك أنه جائع وصاحب البيت يعرف ذلك جيدًا. وما زاد من شدتها أن المحلات أغلقت أبوابها ونام أصحابها ولا يقدر أن يوقظ أحدًا ليشتري منه خبزًا. حقًّا، إنها أزمة من وجهة نظري أشدّ الأزمات على الإطلاق.
2- من المسؤول عنها؟
ربما يلقي البعض المسؤولية على الضيف الزائر الذي لم يخبر صديقه بموعد مجيئه، ولكنني لست مع أصحاب هذا الرأي لأن الصديق الزائر أراد أن يقدم لصديقه مفاجأة لا شك أنها ستسرّه جدًّا. إذًا ستنحصر المسؤولية بين اثنين لا ثالث لهما: إما أن الزوجة لم تخبر زوجها، أو أنها أجلت أمر إعداد الخبز للغد، أو قد تكون الزوجة أخبرت زوجها. أما هو فتفلسف عليها قائلاً: "يا ستي، الكتاب بيقول: خبزنا كفافنا أعطنا اليوم، واليوم انتهى وبكره تفرج". ولما حدثت الأزمة بدأ الزوجان كل واحد يلقي التبعية على الآخر. فالزوج يلقي التبعية على زوجته، والزوجة على زوجها، وهذا دائمًا ما يحدث. وليس المهم أن نركز على من المسؤول عن هذه الأزمة، لكن يجب أن نركز على كيفية الخلاص منها وبسرعة. فالظرف لا يسمح بالتأخير.
ثانيًا: تصرفات سديدة
قلت في مقدمة كلامي أن صاحب البيت عندما تذكر أمر نفاذ الخبز بدأ يفكر ويفكر حتى وصل إلى الحل. والحل الوحيد لهذه الأزمة هو أن يذهب إلى صديقه ويطلب منه إقراضه ثلاثة أرغفة. على الفور، استأذن من صديقه الضيف قاصدًا صديقًا له بيته في نفس الحي الذي يقطنه... وبخطوات سريعة ذهب إلى صديقه، ولا شك أنه اختار الصديق الذي يثق به ثقة كاملة والذي تتوافر فيه أهم الأمور وهي تربطهما معًا بعلاقة قوية، هذه العلاقة ليست كعلاقة أصدقاء الابن الضال به، بل كصداقة يوناثان بداود - ربما وهو في الطريق كان يحدِّث نفسه قائلاً: إن الصديق الذي أنا ذاهب إليه هو أفضل الأصدقاء على الإطلاق! ويضيف قائلاً: "ادي الصداقة ولا بلاش"! لا يمكن أن يرد لي طلبًا، ولا يمكن أن أرجع بيدي فارغة، فهو يحبني كما أحبه، ونتبادل الأسرار معًا. فأسراره معي، وأسراري معه. ثم إن لهذا الصديق يدًا غنية. اختار هذا الصديق بالذات لأنه غني، ولا يمكن أن يسمع منه "منين يا حسرة؟! "العين بصيرة والإيد قصيرة".
لو كان هذا الصديق فقيرًا لما ذهب إليه؛ فبذهابه إليه أكد بما لا يدع مجالاً للشك أنه صاحب يد غنية، ويتوافر عنده كل ما هو في حاجة إليه، وكان يثق أن هذا الصديق عندما يسمع القول: "أقرضني ثلاثة أرغفة"، سيقول له: كيف تقول أقرضني؟ لا تقل ذلك، بل ادخل وخذ ما تشاء فان كل ما لي فهو لك! وأخيرًا وصل إلى بيت صديقه وقرع الباب ولما سأل من الطارق؟ أجابه بكل ثقة: أنا صديقك فلان. فسأله: ماذا تريد في هذا الوقت المتأخر من الليل؟ فقال له: أقرضني ثلاثة أرغفة لأن صديقًا لي جاءني من سفر وليس لي ما أقدمه له. وهنا سمع الصديق ما لم يكن يتوقعه أبدًا، قال له صديقه: "لا تزعجني! الباب مغلق. وأولادي معي في الفراش. لا أقدر أن أقوم وأعطيك!"
ويخيل إليّ أن هذا الصديق المأزوم قال في نفسه: لا تزعجني! أنا، يقال لي من صديقي الذي أعزّه هذا القول! هل طلبي يزعجه؟ الباب مغلق! هو الباب المغلق لا يُفتح؟ ألا يوجد مفتاح لهذا الباب يمكن أن يُستخدم في فتحه، أم أنه بعد غلقه تخلّص من المفتاح؟ أولادي معي في الفراش! أنا لا أريد أحدًا من أولاده... أنا أريده هو أن يقوم ويعطيني أرغفة الخبز. لا أقدر أن أقوم وأعطيك! لماذا لا يقدر أن يقوم؟ هل هو - لا سمح الله - مريض؟ يا لها من صدمات شديدة ومتتالية!
أحبائي، إن شخص الرب يسوع هو الصديق الذي قال عنه الكتاب: "محبٌّ ألزق من الأخ" تربطنا به علاقة قوية. فهو أبونا ونحن أولاده، وهو أخونا البكر الذي لم يستحِ أن يدعونا إخوة، ونحن أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه، وهذه أقوى العلاقات على الإطلاق! عندما تطلب منه لا تقول: أقرضني، بل تقول: أعطني. وعندما تطلب منه لن يقول لك أبدًا: لا تزعجني، فهو بالرغم من طلباتنا الكثيرة إلا أنه يقول: إلى الآن لم تطلبوا شيئًا. اطلبو لكي تأخذوا فيكون فرحكم كاملاً. ولن يقول لك أبدًا أن الباب مغلق ذلك لأن أبوابه مفتوحة ليلاً ونهارًا، ولن تسمع منه أنه في الفراش، ذلك لأنه لا ينعس، ولا ينام، ولن يقول: لا أقدر أن أقوم وأعطيك ذلك لأنه يستطيع كل شيء ولا يعسر عليه أمر.
وما يعجبني في هذا الصديق المأزوم أنه لم ييأس بل ظل قارعًا بإصرار حتى قام صديقه وأعطاه ما طلب.
ثالثًا: نهاية سعيدة
وتظهر هذه النهاية السعيدة في قول الرب يسوع: "إن كان لا يقوم و يعطيه لكونه صديقه، فإنه من أجل لجاجته يقوم ويعطيه قدر ما يحتاج". لا شك أن هذا الصديق لجّ في طلبه إلى أن قام صديقه وأعطاه ما طلب. وكم كان سعيدًا سعادة لا توصف بحصوله على الخبز الذي حل أزمته وستره مع صديقه الضيف.
ترى، ماذا يقصد الرب يسوع باللجاجة؟ هل يقصد تكرار الطلب؟ كلا، لأنه سبق وقال بفمه الطاهر: "وحينما تصلون لا تكرروا الكلام باطلاً كالأمم، فإنهم يظنون أنه بكثرة كلامهم يُستجاب لهم. فلا تتشبهوا بهم". لقد وضّح الرب يسوع اللجاجة في الآية التي تلت هذا المثل مباشرة والتي قال فيها: "اسألوا تعطَوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يُفتح لكم"، ويظهر معنى اللجاجة في هذا التدرّج اسألوا - اطلبوا – اقرعوا، أي إسأل بفمك، واطلب بقلبك، واقرع بكل ثقة وبكل جوارحك! وفي هذا التدرج يظهر مدى الإصرار والإلحاح وهذا ما تعنيه كلمة اللجاجة.
أحيانا نطلب من الرب يسوع أمرًا، ولكنه يتأنّى علينا في الاستجابة، وذلك ليس لتفشيلنا ولكن، ليستمع إلى أصواتنا مرة ثانية وثالثة، فهو يرى في أصواتنا لطفًا وفي وجوهنا جمالاً. قال الرب، له كل المجد، لعروس النشيد: "أريني وجهك، أسمعيني صوتك، لأن صوتك لطيف ووجهك جميل"، وقد يكون لأسباب أخرى، إما لأن الميعاد لم يحن بعد أو ليشوّقنا لعطاياه أكثر وأكثر أو ليدرّبنا على الصبر، أو لأن ما نطلبه قد يصيبنا بضرر ونحن لا نعرف. وقد يكون لكل هذه الأسباب مجتمعة معًا أو غيرها.
إن صديقنا العظيم شخص ربنا يسوع المسيح يعطي بسخاء ولا يعيّر، ويعطي أكثر جدًّا مما نطلب أو نفتكر، فلا تطلب إلا منه. لم يقبل دانيآل أن يطلب من غير الرب مع أنه كان يعلم أن طلبه من إلهه سيعرّضه لخطر الموت. إن الرب يسوع تبارك اسمه هو الذي يملأ كل الاحتياجات ويسد كل الإعواز فهو الذي قال: "كل ما طلبتم من الآب باسمي تنالونه".