Voice of Preaching the Gospel

vopg

أيار - حزيران May - June 2013

الدكتور صموئيل عبد الشهيدمنذ فترة قصيرة استلمت رسالة من فتاة لم تبلغ السابعة عشرة من عمرها بعد، أثارت فيّ خواطر غارت في نفسي منذ أن كنت في شرخ الصبا. وظلت كامنة هناك طوال هذه السنين في صمتٍ وكأنها لا تودّ أن تطفو إلى عالم الوجود. غير أن هذه الرسالة فتّقت الأكفان التي تلففت بها، وحملتني إلى تلك الحقبة البعيدة من حياتي لتعيد أمام ذاكرتي شريط فترة من العمر كان لها أكبر تأثير على حياتي والتي أجرت تغييرًا جذريًا في نظرتي إلى الحياة والوجود.

ولكنني لست هنا في معرض سرد قصة حياتي وإنما سأشرك قرائي بما نصت عليه تلك الرسالة لأن فيها التعبير الرائع  والمخلص عما يمكن أن أكتبه لو قمت بتدوين ذكرياتي، وإن اختلفت في بعض مظاهرها، ولكنها حملت في طياتها روح الرؤيا التي ما برحت تخالجني حتى ولو عن غير وعيٍ مني. لقد استهلت تلك الفتاة الرسالة بقولها:
أنا أكتب إليك هذه الرسالة بمناسبة "عيد الأم"، فقد قرأت ما يدونه قلمك بين الحين والآخر عن دور الأم الذي تلعبه في حياة أولادها.

*   *   *   *   *
لقد فقدت والدتي وأنا في السابعة من عمري بعد إصابتها بمرض عضال عانت منه الأمرّين، فامتدّت إليها يد المنون واختطفتها منا على الرغم من صلواتنا وابتهالاتنا إلى الله أن يبرئها من هذا الداء الوبيل. ومع أنني لم استوعب آنئذ كل النتائج المرتبة على موتها من جراء الفراغ الذي خلّفته في نفسي، فإنني شعرت بوحدة رهيبة تملأ حياتي، والخوف يتملكني ولا سيما في ظلمات ليالي وحشتي. ولا يمكنني أن أحصي عدد المرات التي كنت أستفيق فيها من نومي مرعوبة وأتلفّت حولي فأجد الظلام المتكاثف يكتنفني، فيعتريني الفزع وأصرخ: "ماما... ماما!" وأنخرط في البكاء فيهرع إليّ والدي الذي استيقظ على صدى بكائي، ويضمني إلى صدره ليهدئ من روعي. كان يدرك ما أعانيه من شعور بالفراغ وإن كنت آنئذ لا أعرف أن أعبّر عن مشاعري، ولكن كانت صرخاتي، وبكائي، وأنيني أبلغ تجسيد لتلك الآلام التي كنت أحسّ بها.
يبدو أن شيئًا في أعماقي لم أدرِ آنئذ كنهه كان يستيقظ فيّ بين الفينة والفينة، ويطلّ عليّ من أغوار الماضي بصورة ضبابية وكأنه يريد أن يذكرني بأمرٍ ما، أو هكذا خُيّل إليّ. حاولت أكثر من مرة أن ألتقط بعض ما بدا لي أنها مشاهد متوارية في دهاليز ذاتي تسعى للبروز إلى عالمي المكفّن بالألم، ولكنها سرعان ما كانت تغيب في عالم الضباب وتتلاشى الرؤيا بغموض يبعث على الأسى مما كان يفاقم من عذابي وحيرتي.
وانقضت سنتان على ذلك من غير أن تخف وطأة آلامي، وازداد اعتكافي في عزلتي منطوية على أفكاري الحائرة. حاولت كثيرًا أن أخرس تلك الصرخات الداوية في نفسي وأتقنّع باللامبالاة. ولكم حاولت أن أتحرر من هذه المشاعر القاتمة، وأهرب من آلامي، غير إني أخفقت كل الإخفاق، وازدادت وحشتي عمقًا مما كان له تأثير كبير على دراستي وعلاقاتي بزملائي وزميلاتي. وإذ كنت غارقة في أحزاني وكآبتي، ولصغر سني غفلت عما كان يكابده أبي من آلام لفراق أمي. ولم أكن أدرك أنه كان يعاني هو الآخر من نفس ما أقاسيه من وحدة وفراغ. ومع كل ذلك لمست اهتمامه البالغ بي وما بذله من جهد لكي يملأ الفراغ الناجم في قلبي عن موت أمي.
وذات ليلة استولى عليّ فيها شعور رهيب من اليأس، وخُيّل إليّ أن الحياة التي أعاني منها هي الفجوة التي لا بد أن أتهاوى فيها إلى الأبد. في تلك الليلة شعرت وكأن هناك قبضات غليظة تعتصر قلبي وتمزقني. وجهدت كثيرًا أن أكبت صرخاتي لئلا يستيقظ والدي عليها ويرى ما أنا عليه من بؤس. وأخيرًا، استبدّ بي الإرهاق فغلب عليّ النوم. ولم ألبث، في إبّان نومي أن شاهدت حلمًا أو رؤيا، لست أدري تمامًا، ولكن خُيّل إليّ أنني أرى سحابة تقترب مني، ثم انفرجت فجأة وبدت لي أمي كأجمل ما يمكن أن أتصوّره من جمال. رأيتها تتأمل بي بوجه باسم، تلتمع في عينيها ألقة لم أشهدها سابقًا في أثناء حياتها. كان كل ما فيها ينمّ عن سعادة وبهجة مما أثار دهشتي. كان هذه هي المرة الأولى التي أحلم فيها بأمي، مع أنني كنت قد ابتهلت إلى الله كثيرًا أن أراها ولو في منامي. ولكن في تلك اللحظة أخذتني الدهشة وشعرت كأن الكلمات تتجمّد على شفتي، هممت أن أهتف: ماما... ماما! ولكن قبل أن أنطق بكلمة سمعت صوتها الحنون يرفُّ في أذنيّ كأروع معزوفة تشنّفت بها أذناي. سألتني بنبرة تنبض بالعطف والمحبة:
- لماذا أنت تبكين يا بنيّتي؟ لماذا أنتِ حزينة؟
آه، لهذا الصوت الذي تُقْتُ للاستماع إليه! لقد مضى عليّ أكثر من سنتين حُرمت فيهما من نغمات هذا الصوت الحبيب. سالت الدموع من عينيّ، وغمغمت:
- ماما، لقد اشتقت إليك؛ طالت عليّ غيبتك. لم أسمع صوتك منذ زمن بعيد.
أحسست بها تقترب مني وتربّت على شعري بحنان وهي تغمغم:
- يعزّ عليّ أن أراك حزينة جدًا يا "ميّ"، وأنا أعلم ما يخالج قلبك من أسى. هذا أمرٌ طبيعي يا بنيّتي، ولكن هي مشيئة الله أن أذهب إليه وأنت ما برحت في سن الزهور...
- ولكن يا ماما، أنا بحاجة إليك، و...
- وكذلك أبوك يا ميّ، هل نسيت أباك؟
فجأة، في الحلم، انكشفت غمامة عن عينيّ، ولأول مرة تحوّلت أفكاري عن ذاتي إلى أبي المعذّب الذي كان يكتم آلامه من أجلي. خيّم عليّ الصمت، وسمعت صوت أمي من جديد:
- إصغِ إليّ يا ميّ، هل تذكرين الأوقات السعيدة التي كنا فيها نجتمع معًا قبل أن نستسلم للنوم، ونصلي إلى الله لكي يحرسنا ويباركنا ويعطينا نومًا هنيئًا؟
- نعم يا ماما، أذكر ذلك.
- هل ما زلت تصلين إلى الله ليملأ قلبك بالعزاء والسلام كما كنت تفعلين؟
تذكرت آنئذ أنني لم أصلّ إلى الله منذ وفاة أمي، لأنني كنت في أعماقي ناقمة عليه. مرة أخرى تبددت سحابة قاتمة من أمامي، ومرت في خيالي تلك الأوقات التي كنا فيها معًا نصلي بإيمان الطفولة نسكب قلوبنا أمام الله... وأجبت:
- لا يا ماما، لقد توقّفت عن الصلاة، بل نسيتها وأغفلتها.
ارتعشت في عينيها نظرة حزينة وقالت:
- اسمعي يا ميّ، لقد زرعت في قلبك بذورًا صالحة هي من عند الله، فلا تقضي عليها. الله يحبك يا ميّ وهو يصغي لصلواتك.
ثم أمسكت بيدي وقالت لي:
- هل تريدين أن تري المكان الذي أقيم فيه إلى الأبد؟ تعالي معي...
ورأيتها تأخذني معها إلى مكان لم أرَ له مثيلاً، مليء بالأنوار والموسيقى والبهجة، يسود فيه السلام، والطمأنينة؛ لم أرَ فيه وجهًا حزينًا أو عيونًا باكية. شاهدت المكان آهل بالأطفال، والكبار من رجال ونساء، وتراءى لي أنني ألمح الملائكة يملأون السماء... فهتفت:
- إنني أحب هذا المكان، دعيني أمكث معك هنا.
ابتسمت أمي وهمست:
- في يوم ما سنجتمع جميعًا، أنا وأنتِ وأبوك في هذا المكان. ولكن تذكري البذور الحية التي زرعتها في نفسك، وانتظري يوم اللقاء..
أفقت من نومي وما زالت آثار ذلك الحلم تملأ خيالي، وأكثر من ذلك أحسست أن تلك البذور المقدسة التي دفنتها في ظلمة كآبتي أخذت تنمو في نفسي لتفعم حياتي بالرجاء. شعرت بها تخضرّ من جديد وتتبرعم لتصبح عرائش أتفيّأ في ظلالها. أقول لك الحق إن تلك البذور ما انفكت تلازمني حتى الآن في سن المراهقة فأراها رمزًا لكل ما هو طاهر ونقي فأزداد تمسكًا بها. أنا أدرك الآن أنها تنمو بفضل قوة مسيحي الذي أرسل – ولو لسنين قليلة – من يزرعها في تربة حياتي. مباركة أنتِ يا أمي.
المخلصة، مي
تأملت في هذه الرسالة بصمت الخاشع في محرابٍ مقدسٍ فرددت هامسًا: نعم، مباركة أنتِ يا أمي.

 

المجموعة: أيار - حزيران May - June 2013

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

144 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10546465