أيار - حزيران May - June 2013
من هو النبي الذي أنبأ عنه موسى بتوراته؟
قال صديقي: "قرأت في التوراة في تثنية 18 كلمات وردت على فم النبي موسى يقول: ‘يقيم لك الرب إلهك نبيًا من وسطك من إخوتك مثلي له تسمعون’ (تثنية 15:18)، فمن هو النبي الذي تتحدث عنه نبوة موسى؟".
وتحاورنا في نقاشٍ هادئ قلت فيه: "دعني أختصر عليك الطريق من البداية فأقول إن النبوة المشار إليها لا تنطبق على غير المسيح، كما سترى من الملاحظات التالية:
أولاً: من القراءة الأولى لنص الآية يتبين بوضوحٍ لا لُبس فيه أن النبي المشار إليه سيُقام من وسط جماعة اليهود. فهم المخاطبون بالآية المذكورة وهم المعنيون بها بقوله لهم: "يقيم لك الرب إلهك نبيًا من وسطك". فهو نبي يقام لهم وليس لغيرهم، ولشدة انطباق هذا على المسيح قالها هو عن نفسه: "لم أُرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالَّة" (متى 24:15). والإنجيل يؤكد على هذا في مكانٍ آخر يقول فيه عن المسيح: "إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله" (يوحنا 11:1) و"خاصته" هم اليهود. فهو أولاً جاء من أجلهم تنفيذًا لوعد قديم تكرر لهم على أفواه أنبيائهم (أمثال موسى، وإشعياء، ودانيآل، وداود، وميخا، وغيرهم كثيرون). فالمسيح وُلد من عذراء يهودية، في وسط شعبها العبراني. فهو إن شئت يهودي المنشأ.
ثانيًا: أكَّد الوحي على هوية هذا النبي بقوله: "يقيم لك الرب إلهك نبيًا من وسطك من إخوتك". فالتعبير "من إخوتك" لا يحتمل التأويل، إذ يقول الوحي: "فإنك تجعل عليك ملكًا من إخوتك. لا يحل لك أن تجعل عليك رجلاً أجنبيًا ليس هو أخاك" (تثنية 15:17). فالملك المشار إليه في الأصحاح 17 وكذلك النبي - وهما موضوع بحثنا - لا بدّ أن يكون من إخوتهم، من دمهم ولحمهم، من وسط جماعتهم، منهم ولهم، يتحدث بلغتهم وليس غريبًا عنهم. وهذا ينطبق على المسيح وليس على غيره.
ثالثًا: تقول النبوة: "يقيم لك الرب إلهك نبيًا من وسطك... مثلي". فلنتأمل الآن في أوجه الشَّبه بين موسى والمسيح. ولنتذكر أن أوجه الشبه في المسيح تنحصر في دائرة ناسوته وليس في لاهوته. فالمسيح بجسده الذي وُلد به من العذراء أخذ وظيفة نبي، وهو قال عن نفسه: "ليس لنبي كرامة في وطنه" (متى 54:13-58).
1- كان موسى يهوديًا، وكذلك كان المسيح بمولده من عذراء يهودية.
2- تعرّض موسى في طفولته عند ولادته مع أطفال شعبه للموت، وكانوا يُقتلون بمؤامرة من فرعون ملك البلاد، وأُنقذ موسى بتدبير إلهي ونجا من الموت. وتعرّض المسيح في طفولته عند ولادته للقتل بمؤامرة من هيرودس ملك البلاد، وتعرّض معه أطفال بيت لحم للقتل وقُتلوا، أما المسيح فنجا بتدبيرٍ سماوي. (قارن ما بين الأصحاحين 1 و2 من سفر الخروج وإنجيل متى 2).
3- يقول الوحي عن موسى النبي أنه تهذّب بكل حكمة المصريين (أعمال 22:7). وعن المسيح، يقول الإنجيل: "مذّخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم" (كولوسي 3:2).
4- كانت المعجزات الخارقة علامة مميزة لازمت موسى النبي طيلة حياته في خدمة شعبه في كل سفر الخروج. وكذلك كان المسيح صانع المعجزات من شفاء مرضى وقيامة موتى وغيرها.
5- موسى النبي حرر شعبه من عبودية فرعون وانتزعهم من قبضته. وهكذا المسيح أيضًا. فبتقديمه جسده فدية على الصليب حرّر شعبه من نير الشيطان الأكثر أذى من نير فرعون، وأعطى الخلاص لكلّ من يلجأ إليه. فاسمه "يسوع" الذي يعني "مخلِّص" (متى 21:1).
6- جاء موسى بالشريعة الموسوية، وجاء المسيح بعده بألف وخمسمئة عام وبنى على شريعة موسى وعلّى البناء فوقها. فالأساس والبناء منسجمان معًا متماسكان متَّحِدان بلُحمةٍ واحدة متمثِّلة بالتحام التوراة مع الإنجيل في كتابٍ واحدٍ هو الكتاب المقدس. فشريعة موسى تشكِّل الأساس أو البنية التَّحتية لتعليم المسيح.
7- سمّي موسى بـ "كليم الله"، وسمّي المسيح "كلمة الله". فالتناغم والتماثل واضح حتى في الاسم. فموسى كان يكلّم الله وجهًا لوجه من دون وسيط من الملائكة كجبرائيل مثلاً. وكذلك المسيح "كلمة الله" الذي يكلم الناس مباشرة. وهل من وسيط بين الله وكلمته؟!
8- اختير موسى نبيًا لخدمة شعبه العبراني، فأغاظوه وتمردوا عليه. والمسيح جاء عنه في إنجيل يوحنا: "إلى خاصته (اليهود) جاء، وخاصته لم تقبله" (يوحنا 11:1). فتمرّدوا عليه ورفضوه".
وختامًا، القول الفصل في بيان من هو النبي الذي أنبأ عنه موسى نوضحه في ثلاثة شهود:
الشاهد الأول هو بطرس الرسول كبير تلاميذ المسيح. وقد وردت شهادته في أعمال الرسل 22:3، حين خاطب مستمعيه من اليهود مشيرًا إلى المسيح فقال: "فإن موسى قال للآباء إن نبيًا مثلي سيُقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم له تسمعون".
الشاهد الثاني هو الشَّهيد استفانوس في خطابه الطويل أمام جمهورٍ من اليهود قبل أن يرجموه مذكِّرًا إياهم بأن نبوة موسى قد انطبقت على المسيح (أعمال 37:7).
والشاهد الثالث هو فيلبس المبشر العظيم أحد تلاميذ المسيح. فهذا بعد أن آمن بالمسيح التقى بنثنائيل فبشّره بابتهاجٍ قائلاً: "وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس: يسوع الذي من الناصرة" (يوحنا 45:1).
عندما تنبأ موسى لشعبه بأن نبيًا آخر سيخرج من وسطهم، أعطى الوحي أهمية مميزة لشخصية النبي القادم في خصوصية غير عادية ودعاهم لطاعته. وبعد موسى جاء عشرات الأنبياء؛ بيد أن نبوة موسى لم تنطبق على أيّ منهم. ولكن عندما جاء المسيح، جاء بميزة رسالة جديدة غير عادية وانطبقت عليه كل الأوصاف التي نطق بها موسى في نبوته، ورسالته تلك وضعت الشعب الموسوي على مفترق طرق، لاتخاذ القرار الجاد في أن يقبلوا الحق أو يرفضوه، وهذا ما أكّد عليه يوحنا المعمدان (المدعو يحيى في الإسلام) حين أشار إلى المسيح بقوله: "الآن وُضعتْ الفأس على أصل الشجر، فكل شجرةٍ لا تصنع ثمرًا تقطع وتُلقى في النار" (متى 10:3).
فيوحنا المعمدان بهذا يؤكد أن قبول المسيح أو رفضه هو الحد الفاصل الذي يميّز ما بين الصواب والخطأ، وما بين الحياة والهلاك. فهو كان يعرف جيدًا من هو المسيح، ومن أين جاء المسيح. فتحدّث عن أزلية المسيح ببيان واضح حين قال عنه: "كان قبلي وصار قدامي" (يوحنا 15:1). وقال: "الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع، والذي من الأرض هو أرضي" (يوحنا 31:3).
فقد حدث أن جماعة متديّنة من اليهود جاءت إلى يوحنا المعمدان تستوضحه، فسألوه: من تكون أنت؟ هل أنت المسيح؟ هل أنت إيليا؟ هل أنت النبي الذي أنبأ عنه موسى؟
في تلك الفترة كان يوحنا المعمدان يعيش في بريةٍ قرب مجرى نهر الأردن في ضفته الشرقية مقابل مصب النهر في البحر الميت. وكان الناس يأتون إليه من كل حدبٍ وصوب يخطب فيهم ويعظهم ويدعوهم إلى التوبة. ومن استجاب لدعوته وندم على خطاياه يعمّده يوحنا في المياه المجاورة كعلامةٍ على توبته.
هذا النشاط المتواصل أحدث ثورًة روحيّة عمّت البلاد، مما دفع جماعة من اليهود أن يأتوا إليه ليسألوه: "من أنت؟ هل أنت المسيح الذي ننتظر قدومه؟"
قال: لا، لست أنا المسيح! أنا لا أستحق أن أحل سيور حذائه. ما أنا إلا صوت صارخ في البرية، أعدّوا طريق الرب اصنعوا سبله مستقيمة، ثم أشار إلى المسيح وقال: "ولكن في وسطكم قائم لستم تعرفونه" (يوحنا 26:1).
ثمّ واصلوا تساؤلهم فقالوا: هل أنت إيليا النبي (المدعو إلياس عند المسلمين)؟ فقال: لا! وأخيرًا قالوا: هل أنت النبي الذي أنبأ عنه موسى في توراته؟
هنا يسهل على البعض أن يقول إن النبي المقصود في سؤالهم الأخير ليس هو المسيح، لأنهم سبق وسألوه: هل أنت المسيح؟ فقال: "لا". إذن لا بدّ أن هذا السؤال يشير إلى نبي آخر غير المسيح! فللتوضيح نقول: أن تسأل الجموع يوحنا المعمدان عن شخصيات ثلاث محددة بالاسم لا يعني بالضرورة أن يكون هناك وجود مستقل لكلّ منهم.
فالمسيح جاء وانطبقت عليه كل النبوات التي ذخرت بها التوراة، ومع ذلك لم يدركوه ورفضوه. ويقول الله في توراته عنهم: "هلك شعبي لعدم المعرفة، الثَّور يعرف قانيه، والحمار معلف صاحبه، أما إسرائيل فلا يعرف، شعبي لا يفهم. تركوا الرب. ارتدّوا إلى الوراء" (إشعياء 3:1-4).
فمن يصفهم الرب بهذه الأوصاف من الجهل وقلة الإدراك، كيف لهم أن يميزوا أن النبي الذي تنبأ عنه موسى في توراته والمسيح هما شخص واحد!
فجهل جماعة اليهود في من ترى يكون النبي الذي تنبأ عنه موسى، أهو المسيح أم غيره، لا يغيّر من الحقيقة شيئًا، فالمسيح هو المسيح، والنبي الذي أنبأ عنه موسى هو نفسه المسيح. إذ من بين الوظائف التي قام بها المسيح كانت وظيفة نبي، وهو أشار إلى ذلك في متى 57:13 ويوحنا 43:4-44.