تموز July 2013
سفر أيوب هو أقدم أسفار العهد القديم، وهو من الأسفار التي كتبت في الأصل شعرًا، وهو لا يزيد عن عشرين صفحة من القطع المتوسط لكنه يتضمن كنوزًا من الحكمة والمعرفة، ويدور السفر حول مشكلة آلام وتجارب القديسين، ويكشف لنا بعض ما يدور في السماء بين الله والشيطان.
قال عنه "فيكتور هوجو" Victor Hugo الكاتب الفرنسي ومؤلف رواية البؤساء: "إن سفر أيوب هو أفضل كتاب يكشف سر آلام المؤمنين".
وقال عنه الفيلسوف توماس كارليل: "إن سفر أيوب هو أقدم كتاب يتحدث عن مصير الإنسان بعد الموت، ومعاملات الله معه وهو على الأرض".
تقع حوادث السفر في أرض عوص، وهي تقع على الحدود ما بين فلسطين والعربية، وقد سُميت الأرض التي عاش عليها أيوب باسم "حوران" وهي تقع شرقي بحر الجليل. وكانت أرضًا غنية بمحاصيلها الزراعية.
وفي هذه الرسالة سيدور حديثي في ثلاثة أقسام:
أولاً: أيوب في شخصيته
ثانيًا: أيوب وصداقاته
ثالثًا: أيوب والفصل الأخير في حياته
أولاً : أيوب في شخصيته
1- شهد الرب لأيوب أن "ليس مثله في الأرض، رجل كامل ومستقيم يتقي الله ويحيد عن الشر" (أيوب 8:1). وهذا يرينا أن الأمناء أقلية لا يكاد يشعر أحد بوجودها.
2- كان أيوب أعظم كل بني المشرق في الغنى والممتلكات الحيوانية (أيوب 3:1).
3- كان واسع الثقافة، فقد عرف بناة الأهرام في مصر، خوفو وخفرع ومنقرع وذكرهم بكلماته: "لأني قد كنت الآن مضطجعًا ساكنًا. حينئذ كنت نمت مستريحًا مع ملوك ومشيري الأرض، الذين بنوا أهرامًا لأنفسهم" (أيوب 13:3-14).
وعرف كذلك حقيقة علمية لم تُكتشف إلا في العصور الحديثة، وهي حقيقة أن الأرض معلقة في الفضاء على لا شيء، فقال: "يمد الشمال على الخلاء ويعلّق الأرض على لا شيء" (أيوب 7:26).
4- عرف أيوب أنه لن يعود إلى الأرض بعد موته فقال: "إِذَا مَضَتْ سِنُونَ قَلِيلَةٌ أَسْلُكُ فِي طَرِيق لاَ أَعُودُ مِنْهَا" (أيوب 22:16). وعرف أنه سيقوم في القيامة ويرى الله. "أما أنا فقد علمت أن وليّي (فاديّ) حيّ والآخر على الأرض يقوم. وبعد أن يفنى جلدي هذا وبدون جسدي (الترابي) أرى الله" (أيوب 25:19).
5- كان أيوب موضوع تحدي الله للشيطان، فحين جاء بنو الله (الملائكة القديسون) ليمثلوا أمام الرب، جاء الشيطان في وسطهم باعتباره من أبناء الله بالخلق، "فقال الرب للشيطان: هل جعلت قلبك على عبدي أيوب لأنه ليس مثله في الأرض". (أيوب 8:1)
وقد قال الشيطان للرب: "هل مجانًا يتقي أيوب الله؟ أليس أنك سيّجت حوله، وحول بيته، وحول كل ما له من كل ناحية. باركت أعمال يديه... ولكن أبسط يدك الآن ومس كل ما له فإنه في وجهك يجدّف عليك" (أيوب 9:1). وكأنه يقول للرب: إن ديانة أيوب ديانة تجارية مبنية على المنفعة الشخصية.
وقد سلم الرب كل ما يملكه أيوب ليد الشيطان، وفي يوم واحد أقام الشيطان حربًا على أيوب، ففقد كل ممتلكاته الحيوانية، وكل خدمه، وكل أولاده وبناته... وهذا يرينا أن الشيطان شرس في هجومه على القديسين. وفي غمرة هذه المصائب المتتالية ظل أيوب مؤمنًا بالرب، "وقال: عريانًا خرجت من بطن أمي وعريانًا أعود إلى هناك. الرب أعطى والرب أخذ فليكن اسم الرب مباركًا. في كل هذا لم يخطئ أيوب ولم ينسب لله جهالة". (أيوب 21:1-22)
ثانيا: أيوب وصداقاته
الصداقة أنواع، هناك صداقة للتسلية، أي للخلاص من الملل، وصداقة استغلالية، بمعنى أنه طالما كان أصدقاؤك يستفيدون منك ماليًا، أو شخصيًا فأنت حبيبهم وصديقهم، فإذا توقفت الفوائد التي يستفيدونها منك، تركوك.
وهناك صداقة مخلصة حقيقية، وأصدقاء أيوب كانوا مخلصين، "فلما سمع أصحاب أيوب الثلاثة بكل الشر الذي أتى عليه جاءوا كل واحد من مكانه، أليفاز التيماني، وبلدد الشوحي، وصوفر النعماتي وتواعدوا أن يأتوا ليرثوا له ويعزوه" (أيوب 11:2).
لقد ضحى هؤلاء الأصحاب بوقتهم، وتركوا بيوتهم وجاءوا لتعزية أيوب. وقد امتاز هؤلاء الأصدقاء بمعرفتهم بأسلوب التعزية الحقيقية، فقد بكوا عندما رأوا أيوب بقروحه، وقعدوا معه على الأرض سبعة أيام وسبع ليالِ، ولم يكلمه أحد بكلمة لأنهم رأوا أن كآبته كانت عظيمة جدًا... والصمت في مثل حالة أيوب أفضل كثيرًا من الكلام. بعد هذا بدأ الأصحاب الثلاثة في حوار مع أيوب، وقد أذهلهم فظاعة ما حدث له، وبدأ كل واحد يعطي حكمه لماذا أصاب الرب أيوب بهذه البلايا الفظيعة.
كان أول من تكلم هو أليفاز التيماني، وقد بنى حكمه بخصوص ما حدث لأيوب على اختباره الشخصي إذ قال: "كما قد رأيت أن الحارثين إثمًا والزارعين شقاوة يحصدونها" (أيوب 8:4). وكأنه بهذا الحكم يتهم أيوب بارتكاب الآثام في الخفاء والآن قد جاء يوم العقاب (أيوب 4 و5). وقد رد أيوب مفندًا هذا الحكم (أيوب 6 و7).
ودخل بلدد الشوحي الحوار مع أيوب، وبنى حكمه بخصوص تجارب أيوب على حوادث التاريخ إذ قال لأيوب: "اسأل القرون الأولى وتأكد مباحث آبائهم" (أيوب 8:8). وخرج بنتيجة أن أيوب قد فعل الخطية في السر، ونسي الله وهو الآن يُعاقَب على خطاياه.
وقد فنّد أيوب حكم بلدد الشوحي وقال: "كامل أنا. لا أبالي بنفسي، رذلت حياتي". (أيوب 21:9)
وجاء دور صوفر النعماتي، وبنى حكمه بخصوص المصائب التي حدثت لأيوب على قانون الزرع والحصاد إذ قال: "يا ليت الله يتكلم ويفتح شفتيه معك، ويعلن لك خفيات الحكمة! إنها مضاعفة الفهم، فتعلم أن الله يُغرمك بأقل من إثمك" (أيوب 5:11)، أي أنك تحصد ما قد زرعت.
وقد فنّد أيوب حكمه في (أيوب 12 و13 و14)، وعاد أليفاز التيماني يتكلم (أيوب 15)، ورد عليه أيوب (أيوب 16 و17).
وعاد بلدد الشوحي يتكلم (أيوب 18) وردّ عليه أيوب (أيوب 19).
وعاد صوفر النعماتي يتكلم (أيوب 20)، ورد عليه أيوب (أيوب 21).
وعاد أليفاز التيماني يتكلم (أيوب 22) ورد عليه أيوب (أيوب 23 و24).
وعاد بلدد الشوحي يتكلم (أيوب 25) ورد عليه أيوب (أيوب 26-31).
وأخيرًا كف هؤلاء الرجال الثلاثة عن مجاوبة أيوب.
وفجأة يظهر في المشهد "أليهو بن برخئيل البوزي"، ويبدو "أليهو" غاضبًا بشدة على أيوب لأنه "حسب نفسه أبرّ من الله (أيوب 2:32). وعلى أصحابه الثلاثة حمي غضبه "لأنهم لم يجدوا جوابًا واستذنبوا أيوب" (أيوب 3:32). ويستغرق حديث أليهو إلى أيوب وأصحابه الأصحاحات (32 إلى 37).
لم يستطع أصحاب أيوب أن يصدروا حكمًا صحيحًا عن سبب مصائب أيوب، لأنهم لم يدخلوا مقادس الله، ولم يعرفوا ما دار بين الرب والشيطان بخصوص أيوب.
ثالثًا: أيوب وآخر فصل في حياته
تكلم الرب إلى أيوب من العاصفة، ولم يذكر له سبب تجاربه وآلامه، ولكنه أظهر له عظمة حكمته وقدرته في خليقته، وتحدّث إليه عن البحر، والصبح، ومكان سكنى النور والظلمة، وخزائن الثلج التي أبقاها ليوم القتال والحرب، وعمل الصواعق في إنتاج النتروجين الذي ينبت العشب، وانتقل به إلى عالم النجوم والأفلاك. حدثه عن عقد الثريا وربط الجبار، والنعش وبناته، كما سأله عن الحيوانات المفترسة، وعن بهيموث ولوياثان.
واستمر في أسئلته لأيوب عن الأشبال، والغربان، وولادة وعول الصخر، وحمار الوحش، والثور الوحشي، والنعامة، والفرس والنسر.
ولما انفتحت عينا أيوب ورأى عظمة قدرة وحكمة الله، قال: "ها أنا حقير فماذا أجاوبك؟ وضعت يدي على فمي" (أيوب 3:40).
ثم إذ تجسمت أمام عينيه حكمة الله الظاهرة في مخلوقاته، قال للرب: "بسمع الأذن قد سمعت عنك والآن رأتك عيني. لذلك أرفض (برّي الذاتي) وأندم في التراب والرماد" (أيوب 5:42-6).
وينتهي الفصل الأخير من حياة أيوب بالكلمات: "وزاد الرب على كل ما كان لأيوب ضعفًا... وبارك الرب آخرة أيوب أكثر من أولاه" (أيوب 10:42-12).
ويلفت نظرنا أن الرب زاد على كل ما كان لأيوب ضعفًا ما عدا الأولاد والبنات "وكان له أربعة عشر ألفًا من الغنم، وستة آلاف من الإبل، وألف فدان من البقر، وألف أتان" (أيوب 12:42).
أما الأولاد والبنات فلم يعطه ضعفًا على الأرض "وكان له سبعة بنين وثلاث بنات" (أيوب 13:42)، والسبب أن هناك حياة بعد الموت، فأولاده الذين ماتوا تحت أنقاض البيت الذي سقط عليهم، كانوا أحياء عند الله، ولذا فلم تكن هناك حاجة أن يضاعف الله عدد أولاد وبنات أيوب على الأرض، فمن ماتوا كانوا موجودين ومن هم أحياء على الأرض كانوا موجودين.
وأعطى الرب أيوب ثلاث بنات، وسمى الأولى يميمة أي يمامة وهي تشير إلى مملكة الحيوان، واسم الثانية قصيعة أي ريحانة وهي تشير إلى مملكة النبات، واسم الثالثة قرن هفوك أي مكحلة، وهي تشير إلى مملكة المعادن... فكل الممالك الآن صارت لأيوب. "ولم توجد نساء جميلات كبنات أيوب في كل الأرض" (أيوب 15:42). وهذا يعلن أن الله يكافئ القديسين الصابرين، فيعزي كل النائحين، ويعطيهم "جمالاً عوضًا عن الرماد، ودهن فرح عوضًا عن النوح، ورداء تسبيح عوضًا عن الروح اليائسة، فيُدعَون أشجار البر، غرس الرب للتمجيد" (إشعياء 3:61).
فيا من تدخل في تجارب متنوّعة اعلم أن تجاربك هدفها أن تكون تامًا وكاملاً وغير ناقص في شيء، وقل مع حبقوق النبي:
"فمع أنه لا يزهر التين، ولا يكون حمل في الكروم. يكذب عمل الزيتونة، والحقول لا تصنع طعامًا. ينقطع الغنم من الحظيرة، ولا بقر في المذاود، فإني أبتهج بالرب وأفرح بإله خلاصي" (حبقوق 17:3-18).