Voice of Preaching the Gospel

vopg

تموز July 2013

الدكتور القس إبراهيم سعيدمضت على يوحنا المعمدان فترة قاتمة مظلمة، قضاها في السجن، عقابًا له على شهادته للمسيح الحق. وفي هذه الفترة، مرت بنفس يوحنا موجة من الشك البريء، إذ رأى المجرمين حوله أمثال هيرودس وهيروديا وابنتها ينعمون بأطايب الحياة وأمجادها، بينما يقاسي هو شظف العيش والحرمان، منتظرًا سيف هيرودس ليفصل رأسه عن جسده في أية لحظة، فأرسل اثنين من تلاميذه يسألان المسيح قائلين: "أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟".
ومع أن يوحنا المعمدان أرسل هذين التلميذين ليقوّي إيمانهما في شخص المسيح، إلا أنه ليس من العيب على يوحنا، أن يدركه شيء من الشك. لأن الإنسان الذي لا يخامره شيء من الشك في عقيدته، إنما هو مجرد عن العقيدة الحقة، لأن لا شيء عنده يشك فيه. فالفقير المعدم لا يتعرض لهجمات اللصوص، لأنه لا يملك شيئًا – وكذلك من لا تمر به لحظات من الشك – كان هذا دليلاً على افتقاره التام إلى عقيدة تستحق أن يوجه إليها الشك.
وقد أحسن يوحنا المعمدان صنعًا إذ عبر عن شكه، لأن من خير الوسائل التي يغالب بها المرء شكوكه ويغلبها، أن يفرغ هذه الشكوك في عبارات واضحة، فيتبين له أن الجانب الأكبر من شكوكه يذهب هباء، إذا هو حاول التعبير عنها. لأن الشكوك كالنجوم التائهة في الفضاء، أو كالألغام العائمة على سطح الماء، فحصْرها في حيز معين يعتبر أول خطوة في سبيل التغلب عليها. والوسيلة الثانية التي غالب بها يوحنا المعمدان شكوكه، هي أنه رفعها إلى شخص المسيح ليعطيه عنها جوابًا شافيًا. هذا بمثابة تعريض وجه مرآة علاه الضباب، إلى الهواء والنور وتسليط أشعة الشمس عليه، فيتلاشى هذا الضباب ويتبخر.
كان جواب المسيح عن سؤال هذين التلميذين من طراز أسلوب الحكيم. فلم يجبهما بـ "نعم" أو "لا" بل أجابهما جوابًا عمليًا لا يرقى إليه الشك قائلاً: "اذهبا وأخبرا يوحنا بما رأيتما وسمعتما إن العمي يبصرون والعرج يمشون والبرص يطهرون والصم يسمعون والموتى يقومون والمساكين يبشرون وطوبى لمن لا يعثر فيّ".
وهأنذا أكتفي في هذه العجالة بعبارة واحدة: "والعرج يمشون" فأضعها أساسًا لرسالة "إنجيل المشوّهين والمحرومين".
منذ زمن غير بعيد ظهر في ألمانيا فيلسوف اسمه "نيتشه"، صاغ فلسفته على لسان حكيم اسمه زرادشت... تتلخص فلسفته في أن الضعفاء لا حق لهم أن يحيوا في هذا الوجود، لأن النجاح حليف الأقوياء... والغلبة من نصيب الأشداء، أما الضعفاء فلا نصيب لهم في هذا العالم. وهاجم المسيحية هجومًا عنيفًا لأنها تناصر الضعفاء.
ولقد فشلت فلسفة نيتشه، وفشل هو معها، وأدركه الجنون فمات في أحد مستشفيات الأمراض العقلية. وكذلك كانت فلسفة مكيافيللي من قبل. فالمسيح وحده اختص الضعفاء والمحرومين والمشوّهين بإنجيل نعمته الغافرة والظافرة والمطهرة... فخلع على الضعفاء قوة عجيبة، وألبس الفاسدين رداء الطهر والعفاف، ورفع المنبوذين إلى أعلى كراسي المجد والعفة فأطلق ألسنة الخرس بآيات الحكمة، وصنع خير القوات بأيدي الضعفاء، وأتاح للفقراء المعوزين بأن يُغنوا الكثيرين. نعم، لقد طهر البرص، وفتح عيون المكفوفين، وأعان العرج على المشي، وأنار الحياة والخلود لساكني ظلمات القبور.

* * * * *
ليس العرج شر العاهات، لكنه من شرها، فهو يشوّه الجسم، ويعطل صاحبه عن الحركة القوية المنتجة.
ومن الملاحظ أن بعض الناس يصابون بداء العرج وهم أجنة في بطون أمهاتهم فيستقبلون الحياة بهذه العاهة – هكذا كان الرجل المقعد الذي كان يجلس على باب الهيكل الذي يقال له الجميل، فوصفه لوقا الطبيب البشير وكاتب سفر الأعمال بالقول: "وكان رجل أعرج من بطن أمه يُحمل".
في هذا يرمز العرج إلى الخطية التي ولدنا بها. ولم يكن لنا في ارتكابها أي اختيار. فكما أن الطفل الفقير يرث فقر أبيه متحملاً ديونه التي لم يؤخذ رأيه فيها وقت الاستدانة بها، كذلك مرضى العقول والأعصاب والأجسام يورثون أولادهم هذه الأمراض والأوصاب.
لأمثال هؤلاء العرج الذين ورثوا عاهاتهم عن والديهم، يتدخل المسيح في حياتهم، فيغدق عليهم حياة جديدة، كما قال بولس الرسول في الأصحاح الخامس عشر من رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس: "صار آدم الإنسان الأول نفسًا حية. وآدم الأخير روحًا محييًا... الإنسان الأول من الأرض ترابي، الإنسان الثاني الرب من السماء".
فلا حق للإنسان أن يشكو سوء طالعه لأنه ورث من آدم خطايا وضعفات، ولا فضل لإنسان مؤمن يرث من المسيح فيض نعمة الحياة الجديدة الغالبة الظافرة.
آخرون يصابون بعاهة العرج نتيجة سقوطهم وإصابتهم في إحدى الحوادث، وما أكثرها في هذا الوجود. وقد يكون هذا السقوط نتيجة اعوجاج في السير في طريق معبد، أو وليد السير في مسالك مشبوهة وغير مطروقة – ولكل من هذه آثارها التي لا تنسى – فإذا كان أحد الناس يجرؤ على إنكار الخطية الأصلية التي ورثناها عن آدم الأول، فما من أحد ينكر الخطية الفعلية، إلا إذا كان مستهترًا في لج الآثام والفجور.
لهؤلاء الذين تصيبهم هذه العاهة نتيجة سقوطهم يأتي المسيح ويمسك بأيديهم فيكسر مرارة هذه العاهة، ويبدل ضعفها قوة، ويخلق من قبحها جمالاً، ويحيل تشويهها إلى روعة وجلال. فيتم قول إشعياء: "فيقفز الأعرج كالأيائل".
لا بل يجعل الأعرج سباقًا إلى المجد، منتصرًا على الأقوياء ليسلب منهم غنائم، كما قال إشعياء أيضًا: "والعرج نهبوا نهبًا".
وكثيرون يصابون بهذه العاهة نتيجة السير الطويل الممل، فتحفى القدم وتتورّم من وعثاء السفر، أو بسبب وجود حصى صغيرة ورمال بين القدم والحذاء.
هؤلاء هم الذين يدركهم التعب لهجوم الشيخوخة المبكرة عليهم، أو لوجود بقايا خطايا صغيرة تنغص عليهم حياتهم في مسيرهم، فينضب معين سعادتهم وهنائهم.
وعلاج هذه الحال، ليس من المحال. فما على المرء إلا أن يخلو إلى مكان هادئ مع ربه، ويفحص نفسه بإرشاد روح الله، وينزع كل الخطايا – صغيرة كانت أم كبيرة – لتكون حياته صافية نقية، بعيدة عن المنغصات، التي تهدد سعادة الإنسان وهناءه.
وكثيرون تصيبهم هذه العاهة نتيجة صراعهم المرير في أقدس جهاد في هذا العالم – أعني به مجاهدة النفس، كما حدث ليعقوب أبي الأسباط في صراعه مع الملاك الذي جاهد معه حتى مطلع الفجر، ثم غلب وانتصر – لكنه خرج من هذا الجهاد يخمع لأن حُقّ فخذه قد كُسر.
وآخرون يصابون بهذا التشويه على أثر شوكة في الجسد. فتسمح المشيئة الإلهية ببقائها في حياتهم، كما سمحت ببقاء الشوكة في حياة بولس الرسول لتفيض عليه نعمة الله، إجابة لوعده الثمين: "تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تُكمل".
ومهما يكن من أمر هذا التشويه الذي يصاب به الناس – فإنه يعيقهم في السير وقد يجعلهم في مؤخرة القافلة السائرة في بيداء هذا الوجود.
غير أن المسيح علمنا أن الفائزين في السباق ليسوا هم المتقدمين – فقد يصبح الأولون آخرين، والآخرون أولين – فكم من إنسان كان في مقدمة الطلاب في أثناء سني الدراسة، إلا أنه صار من المتأخرين في معترك الحياة، وكثيرون كانوا في مؤخرة الصفوف في أثناء الدراسة فأصبحوا من صفوة المتقدمين في سباق الحياة. فليست الغلبة لقفزات الأرنب، بل لسير المثابرة الذي تسلكه السلحفاة – بكل تؤدة وثبات ورزانة – وكل من سار على الدرب وصل.

* * * * *
فإلى من رسبوا في بعض امتحانات الحياة، وإلى من فشلوا في البلوغ إلى بعض أمانيهم، وإلى من يظنون أنهم أصبحوا في مؤخرة القافلة، وإلى أصحاب الأشواك التي تحز في أجسادهم، إلى هؤلاء وإلى أمثالهم أسوق الحديث، بل إليهم أزف إنجيل المشوهين والمحرومين قائلاً: "إن الغلبة النهائية لهم إذا هم تمسكوا بثقة الرجاء في شخص الرب يسوع المسيح إلى النهاية، وأن من يغلب حقًا هو الذي يغلب أخيرًا، كما أن من يضحك حقًا هو الذي يضحك أخيرًا".
إليهم، وإلى نفسي في مقدمتهم أسوق الحديث، راغبًا إليهم أن يقبلوا نير المسيح، فيحمل المسيح عنهم أوجاعهم وآلامهم ويكمل ما نقص فيهم، لأن العبء الأكبر من النير يقع على كتفيه.
بل إياهم أذكّر بما فعل داود بالحطام الباقي من ابن يوناثان الذي يقال له مفيبوشث المقعد، فقد أجلسه داود على المائدة أمامه، فسترت المائدة كل عيوب مفيبوشث ولم يظهر منه إلا كل ما هو جميل وصالح.
وكذلك يجلسنا المسيح على مائدة محبته فيستر ضعفاتنا، بل تتكمل قوته في هذه الضعفات، فيخلق من بطرس الجبان الرعديد خير رسول وخير بطل شجاع صنديد، ويخلق من السامرية الساقطة، سيدة تحترم نفسها ويحترمها المجتمع، لأنها حملت رسالة الخلاص إلى شعب بأسره، ويخلع على أغسطينوس النجس، خير رداء للبر والطهر والعفاف.

المجموعة: تموز July 2013

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

331 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
11577026