تموز July 2013
الأصحاح الثاني عشر من رسالة الرسول بولس إلى المؤمنين في روما هو أصحاح مليء بالنصائح العملية للحياة الروحية، لذلك أرجو قراءة هذا الأصحاح بتمعّن. وسنلاحظ أنه يتكلم عن مسؤوليات المؤمن الحقيقي.
أولاً: نحو الله
ثانيًا: نحو المؤمنين الآخرين
ثالثًا: نحو الناس عمومًا
ورابعًا: نحو الأعداء
أولا: مسؤولية المؤمن نحو الله
"فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية" (عدد 1). حين يقدم الإنسان ذبيحة لا يمكنه أن يستعيدها إذ أصبحت ملكًا لمن قُدِّمت له. ولنلاحظ قوله: "فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله". فقبل أن يطلب منا أن نقدم أجسادنا ذبيحة حية يذكّرنا بأعمال الله من نحونا. وكلمة "رأفة" في الأصل ترد في صيغة الجمع، أي "رأفات". فقد أخبرنا في الأصحاحات السابقة أننا صرنا "متبررين مجانًا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح" (24:3)، وأننا "إذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح" (1:5). وأن "الذين بررهم فهؤلاء مجدهم أيضًا" (30:8)، وأنه لا شيء يقدر أن يفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا (38:8-39). إزاء هذا كله وإزاء كل الأخبار المفرحة في الفصول السابقة يطلب منا أن نقدم أجسادنا "ذبيحة حية مقدسة".
ما هو المقصود من تقديم أجسادنا "ذبيحة حية مقدسة"؟
إنه يعني أن أعضاء الجسد، أي نشاطات الجسد تكون مقدسة، أي مخصصة ومكرسة للرب. فمثلاً، العين لا تنظر إلى الصور الخليعة متذكرين قول الرب يسوع أن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقط زنى بها في قلبه. والأذن تكون مقدسة للرب فلا تصغي إلى الكلام القبيح أو الأغاني الشهوانية بل تصغي إلى كلام الرب. والفم لا يكذب، ولا يشتم، ولا يحلف، ولا يشترك في كلام السفاهة والهزل التي لا تليق. بل يكون كلامنا مصلحًا بملح ليعطي نعمة للسامعين، وأن يمتلئ الفم بالشكر والحمد للرب النابع من القلب. كذلك اليد المقدمة كذبيحة حية مقدسة لا تضرب، ولا تسرق، بل تقوم بأعمال صالحة، والقدمان تسرعان إلى الذهاب إلى اجتماعات المؤمنين. ولا يسعنا المجال أن نتكلم عن كل ما يمكن للجسد المقدم لله ذبيحة حية مقدسة أن يعمله، وما يمكنه أن يتحاشاه. هذه النصيحة مهمة ونافعة لنا وتمجد ربنا المعبود. ثم تليها نصيحة أخرى، وهي "ولا تشاكلوا هذا الدهر" أي لا تتمثلوا بأهل العالم، غير المؤمنين، "بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم"، فيجب على المؤمن أن لا يسمح لتيار هذا العالم أن يؤثر عليه، بل أن يتصرف يوميًا بالذهن الجديد الذي ناله بالولادة الثانية. وبذلك يمكنه أن يختبر عمليًا "ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة".
ثانيًا: مسؤولية المؤمن نحو المؤمنين كأعضاء في الجسد الواحد
"فإني أقول بالنعمة المعطاة لي لكل من هو بينكم أن لا يرتئي فوق ما ينبغي أن يرتئي، بل يرتئي إلى التعقل كما قسم الله لكل واحد مقدارًا من الإيمان. فإنه كما في جسد واحد لنا أعضاء كثيرة، ولكن ليس جميع الأعضاء لها عمل واحد، هكذا نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح، وأعضاء بعضًا لبعض كل واحد للآخر. ولكن لنا مواهب مختلفة بحسب النعمة المعطاة لنا" (3:12-6). هذه الآيات تعلمنا:
أولاً، أن لا نرتئي، أي لا نتظاهر أو ندّعي غير الحقيقة فيما يتعلق بالروحيات، بل نكون متعقلين.
ثانيًا، أن الله هو الذي يمنح المواهب المختلفة حسب حكمته الإلهية سواء في التعليم، أو الوعظ، أو أي خدمة للرب. ومن النافع أن نراجع ما جاء بهذا الخصوص في كورنثوس الأولى 12، حيث يقول في عدد 25: "لكي لا يكون انشقاق في الجسد بل تهتم الأعضاء اهتمامًا واحدًا بعضها لبعض". وفي رومية 6:12-8 يقول: "ولكن لنا مواهب مختلفة بحسب النعمة المعطاة لنا. أنبوة فبالنسبة إلى الإيمان. أم خدمة ففي الخدمة. أم المعلم ففي التعليم. أم الواعظ ففي الوعظ. المعطي فبسخاء. المدبر فباجتهاد. الراحم فبسرور". ليتنا جميعًا نصغي إلى هذا، لمجد الرب ولبركة المؤمنين.
ثالثًا: مسؤولية المؤمن نحو الآخرين
أرجو أن تقرأ ما جاء في رومية 12:9-16. ما أعظم وما أثمن النصائح المعطاة لنا في هذا الجزء. إنها واضحة ولكننا نحتاج أن نطبقها في حياتنا العملية كل يوم، وذلك بقوة الروح القدس "المُعطى لنا" (رومية 5:5). لذلك نحتاج إلى الصلاة لكي نتصف بهذه الصفات بالمحبة التي "بلا رياء"، مقدمين بعضنا بعضًا في الكرامة، الأمر الذي ليس حسب طبيعتنا البشرية، بل يحتاج إلى صلب الجسد، أي الطبيعة القديمة. وأن لا نكون متكاسلين في الاجتهاد، بل حارين في الروح عابدين الرب. وأن نكون أسخياء في العطاء مشتركين في احتياجات القديسين. ومشاركين إخوتنا في أفراحهم وفي أحزانهم. وأن نتصف بالتواضع. ومع التأمل في هذه الآيات، من النافع أن نقرأ ما جاء عن المحبة في كورنثوس الأولى 4:13-7، وما جاء عن ثمر الروح في غلاطية 22:5-23. ليت الرب يساعدنا فنكون شهودًا أمناء له.
رابعًا: موقف المؤمن نحو الأعداء
كما هو وارد في الأعداد الأخيرة (17-21). تتميّز المسيحية الحقيقية عن الديانات الأخرى بأنها تعلّم المحبة حتى للأعداء. قال المسيح: "سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوّك. وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم" (متى 43:5-44). وأعطى المسيح مثالاً عمليًّا لمحبة الأعداء: "لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا" (رومية 8:5). وكانت أول عبارة قالها المسيح على الصليب هي: "يا أبتاه، اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لوقا 34:23). وتعلّم الرسل هذه الحقيقة ونادوا بها في تعاليمهم، لذلك نجد في رومية 12، الذي هو موضوع دراستنا، هذه النصائح الثمينة:
أولاً: "إن كان ممكنًا فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس" (عدد 18). نحن لا نستطيع أن نرغم جميع الناس على المسالمة، لكن يجب أن نحاول كل جهدنا.
ثانيًا: "لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء، بل أعطوا مكانًا للغضب لأنه مكتوب: أنا أجازي يقول الرب" (عدد 19). وعبارة "أعطوا مكانًا للغضب" تعني: لا تسمحوا للغضب أن يدفعكم للتصرف الخطأ مثل قوله: "اغضبوا ولا تخطئوا" (أفسس 26:4)، أي لا تتسرعوا للانتقام، "لأنه مكتوب: لي النقمة، أنا أجازي يقول الرب". وليس فقط أن لا نجازي بل نعمل الخير نحو الأعداء. "فإن جاع عدوك فأطعمه، وإن عطش فاسقه"، وهذا هو التنفيذ العملي لقول المسيح: "أحبوا أعداءكم... أحسنوا إلى مبغضيكم". "لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه". أي توقظ ضميره فيؤنبه بشدة، وهذا قد يقوده إلى التوبة، وبذلك يصدق فيك القول: "لا يغلبنّك الشر، بل اغلب الشر بالخير" (عدد 21).
وأخيرًا أيها الأحباء، لنتذكر قول المسيح لتلاميذه: "إن علمتم هذا فطوباكم إن عملتموه" (يوحنا 17:13).