تشرين الأول October 2013
اثنتا عشْرةَ سنة مرّتْ عليَّ وأنا أعاني من عبء المرض. حتى أنِّي فقدتُ كلَّ ما معي من المال. لم أعدْ أجرؤ على طلبه من زوجي ولا حتى من ابني اللذين يعملان ويكدَّان في سبيل تحصيله طيلةَ النهار. نعم، يتعبان ويجاهدان لكي يؤمِّنا لي وللعائلة احتياجات العيش. وها أنا أصرف أكثره عند الأطباء للمعالجة. ويا ليتني وجدتُ الشفاء.
هكذا عبَّرت "رجاءُ" عن حالتها الميؤوس منها وتساقطت عبراتُها من جديد على الخدَّين فما كان من زوجها إلاَّ أن ربَّت على كتفها محاولاً تهدئةَ روعِها. أما هي فالتفتتْ إليه وقالت: اسمع يا زوجي العزيز، سأحاول هذه المرة فقط، وأعدُكَ أنَّني لن أطلبَ منك شيئًا بعد اليوم. لقد سمعتُ الجاراتِ يتكلَّمن عن طبيب جديد. قلنَ إنَّه ماهر جدًا. فدَعْني أذهبْ إليه علَّني أجدُ العلاج المناسب لحالتي التي تبدو أنَّها مستعصية. وهنا أشفقَ عليها يعقوب ومدَّ يده إلى جيبه مناولاً إيَّاها ما تبقى معه من مال وكان عبارة عن دينارين، وقال لها: لا تفقدي الأملَ يا رجاء يا عزيزتي، خذي هذين الدينارين عساهما يكونان بادرةَ خير في شراء دواءٍ ناجع. أخذتْهما رجاء للحال وشكرتْه قائلة: هذه هي المحاولةُ الأخيرة لعلَّ الله ينظرُ إليَّ برحمته.
وما هي إلاَّ دقائق حتى خرجتْ رجاء من بيتها قاصدةً الطبيبَ مرةً أخرى. راحت تمشي بخطى وئيدة، تجرُّ نفسها جرًّا، لِما أصابَ جسدها من نحول وهُزال. بدت محلولةَ القوى وهي تعبُر ساحة القرية العامة. ولمَّا وصلت إلى المكان والتقت مع طبيب القرية الجديد، حيَّته بابتسامة مصطنعة وشرحت له حالها. نعم، أخبرته عن دمها النازف نهارًا وليلاً فرثى لها وحزن عليها. وبعد أن فكَّر مليًّا وضع في يدها دواءً قال عنه بأنَّه نافع وأنَّها لا بدَّ أن تجد فيه الشفاء. تمسَّكت بزجاجة الدواء وكأنها الأملُ الذي فقدته. وهرعتْ إلى بيتها لتجرِّبه. وما أن جرعت الكمية اللازمة منه بحسب إرشادات الطبيب حتى جلست رجاءُ تنتظر وكلُّها توقُّع بأن تُحَلَّ مشكلتها. وطال انتظارها. لكن النتيجة أتت بغير ما توقعتْ فصُدمت وأحسَّت بالفشل الذريع يسري في أعماقِها. فالدمُ ما زال يسيل والخوف الآن هو من جفافِ العروق. والحالة صارت تقترب شيئًا فشيئًا من الموت المحتوم. لقد ضاع جلُّ مناها، وفقدت رجاءُ رجاءَها، وذهب المال هدرًا، وكذا كلُّ المحاولات سُدىً. وهنا ما كان منها إلاَّ أن قبعتْ في سريرها وبدتْ تتمتمُ لوحدها وتقول من قلب موجوع: اشفني يا رب، ترأف أرجوك وارفق بحالي. ونامت وهي تبلِّل السرير بدموعها على الرغم من مواساة زوجها لها.
وفي الصباح التالي نظرتْ من نافذة غرفتها إلى الزُّقاق فرأت عجبًا. شاهدت جارات الحي يعبُرْنَ الطريق بسرعةٍ متَّجهاتٍ إلى الجزء الشرقي من القرية. كنَّ منهمكاتٍ في الحديث وكما يبدو أنَّ هناك موضوعًا هاما يشغلهن. قالت في نفسها: ترى ما عسى أن يكون؟ وللحال دبَّت فيها العافية فجأة، وقررت أن تذهب وراءهن على الرغم من حالتها المُزرية. وبينما هي في الطريق خلفهن صارت تسمع صوتًا من بعيد. فقالت في سرِّها لا بدَّ أنَّ هناك شخصًا هامًا يجتاز من قريتنا. فأسرعتْ في المشي نحو الجمع المكتظ وللحال التفتت إحدى الجارات إليها وقالت لها: أسرعي يا رجاء فالأمل هنا. أجل إنَّه وحده الشافي.
وهنا وصلْن جميعًا إلى حيث كان الجمع المزدحم، والكل يريد أن يتقدَّم من الشخص الواقف في الوسط. أمَّا أتباعه فكانوا يحاولون إبعادَ الجمهور المتدافع عنه، لكن من دون جدوى. سمعتْ أحدَهم يقول بأنَّه يسوع المسيح الناصري، الشخص الذي يُجري المعجزات، فيشفي المرضى والسُّقماء ويقيم الموتى من الفناء. عندئذ علا وجهها البشر وقالت في نفسها: هذا هو الطبيب الذي سأجدُ عنده الشفاء! وحاولت الاقتراب، لكنَّ الجمهورَ ظلَّ يدفعها إلى بعيد. وهنا ما كان من رجاء إلاَّ أن دفعت بيدها الجمع واندَّست بين الصفوف المحتشدة وصارت تجاهد بكل ما بقي لديها من قوة لتصلَ إليه لكنْ عبثًا فعلتْ. وهنا خطرت ببالها فكرة بعد أن عجزت عن الوصول إليه والتحدث معه. فمدَّت يدها بسرعة البرق إلى هُدب ثوبه من ورائه ولمَسَته. وفي الحال وفي طُرفة العين وقفَ ينبوع دمها وأحسَّت في جسمها بأنها شُفيت. فرح داخلُها واغتبطت أحشاؤُها، وارتسمت على محياها بسمةٌ مشرقة هي الأمل الجديد.
أما يسوع المسيح العالِم بكل شيء سأل قائلاً: مَن الذي لمسني؟ وإذ كان الجمع ينكرون قال بطرس والذين معه: يا معلم، الجموع يضيِّقون عليك ويزحمونك وتقول من الذي لمسني؟ فقال يسوع: قد لمسني واحد لأنِّي علمتُ أنَّ قوةً قد خرجت مني. عندها خافت رجاء لافتضاح أمرها، وأتتْ إليه وهي ترتجفُ، وخرَّت عند قدميه للحال، وأخبرته قدام جميع الشعب لأيِّ سببٍ لمسته وكيف برِئت في الحال. عندئذ التفت إليها يسوع وفاهَ بكلمات المحبة والنعمة وقال: ثقي يا ابنة إيمانك قد شفاك. اذهبي بسلام.
ركضت رجاءُ من عُظم فرحها وصارت تهلِّل وتقول: لقد شُفيت! أجل بَرئْت. لقد طمأنها السيد – له المجد – وعزَّاها، وطيَّبَ خاطرها، وبعث فيها رجاءً حقيقيًا وأملاً أكيدًا بأنَّه هو الشافي الوحيد. نعم، أتت رجاءُ بداِئها إليه، فرجعتْ بدوائها. آمنت أنَّها حتى ولو لمست هُدب ثوبه لا بدَّ أنها ستنال الشفاء التام. لهذا مدح إيمانها ورفع من شأنها وعزَّى قلبها. وحين وصلت إلى البيت لاقاها زوجها مستفسرًا عن مكان وجودها، فهرعت إليه وصارت تبكي على صدره وهي تقول: لقد شفاني! أجل، شفاني يسوع المسيح المعلم العظيم. إنَّه حقًا عجيب يا يعقوب، إذ بلمسة واحدة حدثت المعجزة. فغمغم: آه، يا حبيبتي، كم أنت غالية عليّ! الشكر لله على شفائه، الشكر لله.
*******
شفى الربُّ يسوع المسيح قبل ألفي عامٍ ونيِّف. لكن، هل تثق يا قارئي بأنَّه ما زال يشفي اليوم أيضًا في القرن الحادي والعشرين؟ مكتوبٌ عنه في الكلمة المقدسة بأن يسوع المسيح هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد. (عبرانيين 7:13). إنه وحده الحي والقادر الذي لم ولن يتغير. شفى في الماضي، ويشفي في الحاضر، وسيشفي في المستقبل. وما علينا إلا أن نثق بأنه يمنح الشفاء كما فعلت نازفة الدم. أجل، ما زال يشفي الجسم السقيم ويجعله صحيحًا سليمًا. وإلاَّ فكيف نقول بأنه ما زال يصنع المعجزات؟! هو الذي يتعامل مع كثيرين اليوم، فيظهر لهم في رؤى وأحلام ولمسات شفاء؟ هو الذي يقدر أن يغيِّر القلب البشري، فيجدِّده وينقيه ويجعله أداة بين يديه، فهل من الغرابة إذن، غريب إذن، أن يشفي الجسد الضعيف؟ يقول بولس الرسول بلسان الروح القدس: "لأن ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثي لضعفاتنا، بل مجرَّب في كل شيء مثلنا بلا خطية. فلنتقدم بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة ونجد نعمة عونًا في حينه" (عبرانيين 15:4–16). فيا ليتنا لا نفقدُ الأمل حتى ولو وصلنا إلى نهاية المطاف، بل نثق بالقادر أن يصنع أكثر ممَّا نطلب أو نفتكر. وهكذا يبزغُ فجر جديد في حياتنا تمامًا كما أشرقت خيوط الشمس في حياة نازفة الدم بعدَ ليلٍ طويل وحالك وأليم، استعادت من بعدِه رجاءُ رجاءَها.