تشرين الأول October 2013
ورد في سفر إشعياء 1:42 عن المسيح: "هوذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سُرّت به نفسي. وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم".
وورد أيضًا في إنجيل متى 18:12 "هوذا فتاي الذي اخترته، حبيبي الذي سُرّت به نفسي. أضع روحي عليه فيُخبر الأمم بالحق".
منذ الخليقة كانت أهم مهمة في تاريخ البشرية هي رتق العلاقة التي أصابها الخلل بين الإنسان والله. فمنذ البدء خلق الله الإنسان على صورته ومثاله، وهي خاصة لم يحظ بها حتى الملائكة. هذا الامتياز الرفيع لوثته الخطيئة وشوّهت هذا المثال الذي يخص الله وحده. ولكن الله الذي يغار على مثاله وصورته لا يرضى لأي مخلوق من مخلوقاته أن يلوّث هذه الصورة وإلى الأبد. هي ملكه، وملكه وحده.
لهذا، أصبحت العلاقة الإلهية – البشرية هي مهمة روحية، وأخلاقية، وتاريخية تستهدف مصالحة الخالق والمخلوق لفرط محبة هذا الخالق ورحمته وغيرته على صورته. ولكي تتم هذه المصالحة كان لا بد من وجود مصالح تتوافر فيه مميزات لا يمكن أن تتوافر في شخص آخر. وفوق ذلك كله، كان على هذا المصالح أن يبذل نفسه فدية عن كثيرين ويدفع ثمن عصيان الإنسان وتمرّده بسفك دمه من أجل خلاصه.
والسؤال المطروح أمامنا الآن هو: لماذا وقع الاختيار على المسيح ليكون رجاء الأمم؟ لماذا لم يختر الله موسى أو إيليا أو إشعياء أو أي نبي آخر من الأنبياء ليكون رجاء الأمم؟
الجواب واضح في كلمة الله: "لأن الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله". إذًا، كانت الحاجة لوسيط، لمصالح مبرَّرًا من كل خطيئة. يحمل دينونة البشرية طوعًا، ويأخذ على عاتقه إرضاء الله.
في هذا المقال سأشير إلى بعض الخصال الرائعة التي لم تتوفّر إلا في المسيح، عمانوئيل الذي يخلص شعبه من خطاياهم.
أولاً: اختيار إلهي
إن الله لا يخطئ في اختياره لأن المهمة جليلة وتاريخية وأبدية. وكما جاء في سفر إشعياء وفي إنجيل متى نرى أن الآب السماوي لم يجد من هو أفضل وأليق من ابنه الوحيد ليكون رجاء الأمم، لهذا يقول: "هوذا عبدي (أو فتاي) الذي اخترته". فهذا الذي صار رجاء الأمم هو في الدرجة الأولى مختار الله وليس مختار البشر. كان الاختيار إلهيًا منذ الأزل.
فهو مختار الله لكماله، ولقداسته، ولطاعته "إذ أطاع حتى الموت موت الصليب"، لخضوعه لمشيئة الآب وتنفيذها، لعدله، ومحبته، ورحمته، وبره الذي لا شائبة فيه. هذه خصال يتعذّر أن توجد في أي شخص منذ قبل الخليقة أي قبل تأسيس العالم.
ثانيًا: هو حبيب الله
يؤكد إنجيل متى على هذه الحقيقة عندما يقول لسان الوحي الإلهي: "حبيبي الذي سُرّت به نفسي". فالمسيح ليس هو مختار الله بل هو حبيب الله بكل ما تشتمل عليه هذه العبارة من معنى. إذ كيف يمكن أن لا يكون المسيح حبيب الله وهو الأقنوم الثاني والابن الوحيد الذي كان مع الآب منذ الأزل. وهل هناك أعزّ من الابن البار الذي جعل مجد أبيه المحور الذي جاء من أجله إلى الأرض. هو حبيب الله لأنه جسّد محبة الآب بمحبته لنا نحن الذين تمردنا على الله، الأمر الذي كلف الله التضحية بابنه. وإذ أطاع حتى الموت لخّص في تلك اللحظة التاريخية كل رحمة الآب ومحبة الابن، وعدل الدينونة. فأي نبي أو قديس أو كائن مخلوق يستطيع أن يحمل في ذاته هذه الخصائص.
ثالثًا: الذي سُرّت به نفسي
في مناسبات هامة من حياة المسيح، دوّى صوت من الأعالي يقول: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت". و"هذا هو ابني الحبيب. له اسمعوا". في يوم معمودية المسيح أعلن الآب من هو هذا المسيح. إنه ليس نبيًا فقط، ولا ملاكًا، بل هو ابن الله، المخلص الذي بشرت به الملائكة في ليلة مولده: "ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب". لقد صار المسيح هو هدية السماء إلى الأرض، ويا لها من هدية لم يعرف التاريخ لها مثيلاً. هدية لم تؤثر نفسه، ولم تأتِ لتُخدَم بل لتخدِم. ولكن البشرية أبت في ذلك الحين أن تقبل الهدية التي سر بها الله، وجرّته إلى تل الجلجثة ليموت مصلوبًا. ولكن حتى هذا اليوم ما زال صوت السماء يجلجل: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت".
رابعًا: معضود من الله
لم يأتِ المسيح إلى العالم ليكون منفصلاً عن الله، فهو في كل تعاليمه ومواقفه، وتحذيراته كان يؤكد على أنه يصنع مشيئة الآب، وأنه لا يتكلم من نفسه، كان دائمًا معضودًا من الآب السماوي، لا تروعه المؤامرات الفريسية، ولا مداهنات الكتبة، ولا خطط رؤساء الكهنة الجهنمية، لأنه كان معضودًا من الله. فقد تجسد المسيح لينفذ ليس خطة نفسه بل الله بأقانيمه الثلاثة. الفارق الوحيد هو أن المسيح طوعًا واختبارًا تعهد أن يحمل مسؤولية خلاص الإنسان.
هناك لحظة واحدة في إبان الأزمة الخلاصية، بدا وكأن الآب تخلى عن ابنه وذلك عندما صرخ المسيح على الصليب: "إلهي! إلهي لماذا تركتني؟" تلك اللحظة كانت الذروة في خلاص البشر. ولقد قبل المسيح أن يقاسي من هذه اللحظة بفعل محبة خارقة للطبيعة. إن الآب السماوي لم يستطع أن يتحمّل أن يرى كل ذنوب الإنسان عبر التاريخ تتراكم على ابنه القدوس. مات البريء من أجل الأثمة ولكن الله تقبّل هذه الكفارة لأن الذي كان بلا خطية صار خطية من أجلنا. نعم، كان المسيح معضودًا من الله وتحقق الوعد، وأُكمل الخلاص، ووقعت المصالحة. فمن هو الذي يمكنه أن يقوم بمثل هذا الإنجاز المستحيل؟
خامسًا: روح المحبة عليه
هذه الحقيقة لم تكن وليدة المصادفة بل هي جزء لا يتجزأ من الخطة الإلهية. إن المشاركة في خطة الخلاص وتجسد المسيح كانت بفعل مشيئة الأقانيم الثلاثة قبل أن يولد المسيح في بيت لحم. فعندما جاء الملاك وبشر مريم العذراء بأن المسيح الموعود به منذ أقدم العصور قد آن ميلاده، وعندما تساءلت مريم: كيف يمكن أن يكون هذا وأنا لم أعرف رجلاً؟ كان الجواب صريحًا مفعمًا بالقوة والغبطة، وهو أن مريم ستحمل بالمسيح ليس بمشيئة رجل بل لأن روح العلي سيظللها. فمنذ البدء أعلن الآب: "أضع روحي عليه" ليس فقط لتقديسه أو حمايته أو لانتصاره على أعدائه، بل لكي "يخرج الحق للأمم". إن روح الله منذ بداية التجسد أظهر ذاته، كما أعلن عن نفسه في حادث معموديته. نزل كحمامة شهدها الحاضرون. وطوبى لمن يضع الله روحه عليه لأنه يكون مقدسًا لله. وأكثر من ذلك فإن روح الله يعرف ما في ذات الله ويخبر بها. لذلك كان المسيح يعرف حقًا ما في ذات الله، أشواقه، محبته، رحمته، نعمته لأن روح العلي كان فيه.
سادسًا: يخبر الأمم بالحق
لم يستطع أحد من الناس أن يتهم المسيح بأنه كان ينطق بالكذب. بل إن المسيح تحدى أعداءه أن يبكتوه على خطيئة. والكذب هو خطيئة. ولكن المسيح قد جاء إلى العالم لا لكي يفدي ويخلص فقط، بل يخبر الأمم بالحق. ويجدر بنا أن نلاحظ لفظة "أمم". إن هذه اللفظة توحي بأن المسيح ليس مُلك أمة دون أمة. لقد جاء مخلصًا وفاديًا لكل من يؤمن به بغض النظر عن القومية، واللغة، والمكان، والثراء. لقد جاء ليخبر كل الأمم بالحق لأن جميع الأمم هي في أساسها مخلوقة على صورته ومثاله. فالرسالة التي حملها المسيح هي رسالة حق بل هي رسالة الحق الوحيدة، لهذا كان يردد دائمًا: "الحق الحق أقول لكم..." وفي موت المسيح على الصليب أخرج الحق للأمم وأخبر به.
لهذا، صار المسيح رجاء الأمم. ولا يحق لأي إنسان آخر أن يقول عن نفسه أنه رجاء الأمم لأن رجاء الأمم هو حي إلى الأبد، فهل أنت حيّ معه؟