كانون الأول December 2013
جاءت العذراء من مدينة الناصرة في شمال فلسطين ووصلت بيت لحم وهي في شهرها الأخير يرافقها يوسف رجلها. والغالب أنهما استعملا الدواب للركوب، فالمسافة بين الناصرة وبيت لحم تقارب ١٢٠ كيلومترًا. وعندما وصلا بيت لحم، وجدا أن الفنادق قد غصّت بالنزلاء، فلم يجدا مكانًا ينزلان فيه، لأن الكثيرين جاءوا تنفيذًا لأوامر الدولة في أن يذهب كلّ مواطنٍ إلى موطنه الأصلي من أجل الإحصاء. فتعطَّف محسنٌ كريم أو صاحب الفندق ونصحهما بأن ينزلا في خان ضمن مغارة مخصصة للأبقار والخراف إلى أن تمرّ أيام الازدحام. وبينما هما هناك تمت أيامها لتلد، فولدت طفلها وقمّطته وأضجعته في المذود، فأصبحت المغارة ذات الفراش من تبن مكان سكنٍ لقدّيسَيْنِ فاضلَين، مريم ويوسف، وكان المذود هو السرير الذي اضطجع فيه الطفل يسوع في يوم ميلاده.
في هذه اللحظات، وبينما كان الناس نيامًا، ظهر فوق روابي بيت لحم جوقة من الملائكة تنشد ترنيمة رائعة، هي من نظم السماء، على مسمعٍ من رعاةٍ للأغنام كانوا يحرسون حراساتِ الليل على أغنامهم في أطراف القرية، ودعوهم للابتهاج بفرحٍ عظيم لأن المخلص الموعود قد جاء (انظر الأصحاح الثاني من إنجيل لوقا).
وتوافق هذا مع مشهدٍ آخر مرّت أحداثه في بلاد المشرق حيث كان مجوس حكماء قد بدأوا مسيرتهم على هدي نجمٍ، أوحى إليهم مرآه أن ملكًا عظيمًا قد وُلِد فساروا على هدي النجم، حتى وصلوا إلى بيت لحم وعرفوا المكان، فدخلوا وخرّوا وسجدوا له وقدّموا له التكريم والولاء (انظر الأصحاح الثاني من إنجيل متى).
أحداث تثير العجب التقى فيها النقيضان حَوَتْ من المفارقات ما يذهل العقول:
ملك سماويّ عظيم احتفلت الملائكة والأفلاك بميلاده! بينما هو لم يجدْ مكانًا يولد فيه سوى مذودٍ لمواشي غنمٍ وأبقار. ونتساءل: كيف امتزجت العظمة مع التواضع، وكيف التقى المشهدان في لوحةٍ واحدة؟!
صورتان مختلفتان لوجهَي عملةٍ واحدة التقيا في شخص المسيح: في الوجه الأول صورة العظمة وجلال اللاهوت، بينما في الوجه الآخر صورة الناسوت المتواضع الخاضع لظروف الحال. فاللاهوت والناسوت التقيا في شخص المسيح حتى في يوم ميلاده! هذه الصورة المزدوجة من العظمة والتواضع، ومن القوة واللين، ومن الجلال والانسحاق، تكررت مشاهدها في حياة المسيح على الأرض في أكثر من مناسبة.
ومنها وقوف المسيح يومًا أمام قبر صديق له اسمه لعازر (إنجيل يوحنا 11). وفي لحظة صمت أمام القبر والناس من حوله في حزن، تحركت عواطف يسوع وبكى! ولما رآه الحاضرون يبكي قالوا: "انظروا كيف كان يحبه!" (يوحنا 36:11). في هذا المشهد ظهرت إنسانية المسيح، المسيح الإنسان.
وبعد قليل تغيّر المشهد تمامًا! فبينما كان الحاضرون ما زالوا يتفرّسون في حنانه وتواضعه في المشهد الأول، رفع رأسه ونظر إلى باب القبر ونادى بصوتٍ عظيم مخاطبًا الميت: "لعازر هلمّ خارجًا" (يوحنا 43:11). وساد صمت للحظات، وخيّم الذهول على من حوله، وبعد ثوانٍ معدودات انكسر حاجز الصمتِ حين سُمِع حفيف حركةٍ بطيئةٍ قادمة من داخل بهو القبر.
والقبر حينها كان مغارة محفورة في الصخر. وإذا بشبحٍ أبيض بدا يلوح بين ثنايا عتمة المغارة، وما أن وصل الشبح إلى مدخل المغارة وبان في ضوء الشمس حتى عرفوا أنه هو لعازر الذي شاركوا في دفنه قبل أربعة أيام. فارتجّت القلوب هلعًا من هول المشهد، فقال يسوع: "حلّوه ودعوه يذهب" (يوحنا 44:11)، لأن الميّت حسب عادتهم يكون ملفوفًا بأكفان بيضاء حول جسده.
ففي المشهد الأول لاحظنا بوضوح ناسوت المسيح حين بكى أمام قبر صديقه، والبكاء يعني الانسحاق أمام أزمة مؤلمة، وهو صورة من صور الضعف أمام حدث جلل يكسر القلب. ولأن المسيح حمل طبيعتنا البشرية وصار إنسانًا مثلنا بولادته من عذراء، فقد شاركنا في كلّ ما للطبيعة البشرية من صفات ومشاعر وطباع ما عدا الخطية. ولذلك حزن وبكى وتألَّم لأنه إنسان له ما لنا من عواطف وأحاسيس إنسانية. ورأيناه في مناسبات أخرى جاع وعطش وتعب ونام. ففي تلك تجّلت طبيعة المسيح الناسوتية.
لكن عندما وقف أمام قبر لعازر وخاطب الميّت بسلطانٍ فأسمعه صوته واستجاب الميّت له، وحضر بين يديه، تجلّت طبيعة المسيح اللاهوتية. فالمسيح الباكي هو المسيح الإنسان. والمسيح الذي نادى الميت من قبره هو المسيح الإله. وفي الحالتين هو مسيح واحد.
المكان الذي تمّت فيه هذه المعجزة يقع على بعد كيلومترين أو ثلاثة إلى الشرق من أسوار مدينة القدس، وكان اسم القرية بيت عنيا، إنما أسماها سكانها فيما بعد بالعيزرية، نسبة للعازر الذي تمت به المعجزة، وما زالت تحتفظ بهذا الاسم إلى اليوم، ومغارة قبر لعازر ما زالت موجودة يزورها الحجيج، شاهدة للحدث عبر التاريخ.
هذا هو المسيح الذي ننادي به. عقيدتنا في المسيح عقيدة تبث البهجة في القلوب! والمميّز فيها أنها تحمل برهانها معها، فحجتها أوضح من نور الشمس، ومسيحها ما زال يصنع المعجزات حتى اليوم، والمسيحيون عبر كل العصور التي تكالبت عليهم آمنوا به ربًّا، وفاديًا، وملكًا على القلوب، وجاهروا به بين الشعوب فقال فيهم طيّب الذكر اليازجي:
قالوا هو ابن الله جهرًا والعدى
من حولهم مثل الذئاب الحوّمِ
والناس بين عواذلٍ وعواذرٍ
لهمو وبين محللٍ ومُحرّمِ
ما غرّكم يا قوم فيه أسيفُهُ
أم جاهُهُ أم مالُه في الأنعمِ
هو ساحرٌ يُطغي فقالوا لم نجد
من ساحرٍ يُحيي الرميمَ بطلسمِ
كانت رجال الله تحيي ميّتًا
بصلاتها ودُعائها المتقدّمِ
ونراه يُحْيي الميتين بأمره
فهو الإله ومن تشكَّك يندمِ
هذا مسيح الله فادينا الذي
صلبته طائفةُ اليهود كمجْرمِ
بطبيعةٍ بشريةٍ قد أُلِّمتْ
وطبيعة اللاهوتِ لم تتألمِ
ونقولها بصراحة إن المسيحيين الملتزمين حقًا بإيمانهم المسيحي، مهما كانت الطائفة التي ينتمون إليها، يمثِّلون بمسلكهم الحسن صدق ما يؤمنون به. أما العقيدة المزيّفة فلا تصنع حضارة ولا تهذِّب نفوسًا، بل تصنع من الآدميين وحوشًا بثياب بشر. ومن ثمارها تُعرَف الشجرة. وهل يُجتنى من الشوك عنبًا أو من الحسك تينًا؟!
انسجام تام بين طبيعتيه
كيف تنسجم طبيعتان في المسيح إحداهما لاهوتية روحية والأخرى ناسوتية جسديّة؟! فاللاهوت روحٌ لا يُرى، والناسوت مادة تُرى وتُلْمس وتتفاعل من خلال ما نسميه بالحواس الخمس، فكيف ينسجم هذا مع ذاك؟!
فللتوضيح نقول: لو سلَّطت نارًا قوية على قضيب من الحديد حتى يصل إلى درجة الاحمرار الشديد، فالمشهد أمامك من عنصرين: حديد مُحمَرٌّ ونار، والاثنان منسجمان بهيئة واحدة، ولكن كلٌّ منهما محافظٌ على طبيعته، لم يتخلَّ عنها، فالحديد بقي حديدًا لم يفقد خاصيّته ولم يصبح نارًا، وبقيت النار نارًا لم تفقد خاصيّتها ولم تصبح حديدًا!
فلو شبّهنا الحديد بالناسوت، والنار باللاهوت، فكل منهما أيضًا في المسيح حافظ على طبيعته التي له، والاثنان معًا ظهرا في شخصه بمشهدٍ واحد. صحيحٌ أن اللاهوت لا يُلمس ولا يُعاين بالحواس الخمس، لكن سماتَهُ كانت واضحة في المسيح، في سلوكه وفي أعماله وأقواله ومعجزاته وفي طهارته المطلقة التي لا يماثله بها أحد.
فالمسيح عاش على الأرض بطبيعتيه اللاهوتية والناسوتية في توافقٍ وانسجامٍ تامّ، وهذا لغزٌ يفوق قدرة الإنسان في استيعابه.
هنا نذكِّر القارئ الكريم أنه يكمن في طبيعتنا البشرية جوهران يختلفان في طبيعتيهما، أحدهما روحي والآخر مادي، فالإنسان من روحٍ وجسد، والاثنان يتعايشان معًا في انسجام عجيب. روحٌ خالدة غير منظورة لها طبيعتها وميزتها، وتُساكِن جسدًا ترابيًا منظورًا وملموسًا له طبيعته وميزته، روحٌ غير مرئية في جسدٍ ترابيّ مرئي.
الجسد المادي فينا يخضع لكلّ العوامل الطبيعية ويتفاعل معها بحواسه الخمس من أكل، وشربٍ، ونوم، وقيام، وعمل، وألم، وفرح، وحزن. أما روحه الخفيّة في داخله فطبيعتها تختلف. فالروح فينا تسكن الجسد وتقوم بعملها المناط بها بانسجام تام معه، رغم أنّ كلاً منهما له طبيعته وعمله الوظيفي الخاص به. فلم يُلغِ أحدهما الآخر، ولم يُصْهرا أو يختلطا ليُشكّلا هيكلاً ثالثًا، بل بقيا قائمين أحدهما إلى جانب الآخر في انسجام تام، وظلَّ كلٌّ منهما خاضعًا بكل دقَّةٍ لشرائع دائرته ضمن اختصاصه، وبقي الإنسان بطبيعتيه الروحية غير المنظورة، والجسدية المنظورة، إنسانًا واحدًا منسجمًا مع ذاته.