أذار March 2014
يا صديقي، أبعث إليك بأحر تحياتي الخالصة متمنيًا لك كل سعادة وهناء. لقد سألتني يا صديقي في رسالتك الأخيرة لماذا أنا مؤمن، وعلى الأخصّ، لماذا أنا مؤمن بالمسيحية دون سائر الأديان الأخرى.
أود قبل كل شيء أن أقول: إنني أحترم جميع الأديان، وأحترم معتنقيها، وتقاليدها، وإن كنت لا أوافق على كثير من معتقداتها وممارساتها، ولكنني كمسيحي، وبعد دراسة وافية للأديان العالمية المعروفة أجد نفسي ملزمًا بما اقتنعت به من إيمان مسيحي، ليس بناء لما تقوله الطوائف المسيحية، ولا تعصبًا لفئة دون فئة، ولكن أعتمد على الكتاب المقدس الذي هو دستوري في حياتي مع المسيح، لهذا فإنني لن أندّد بأي دين من الأديان، ولا أهاجم طائفة ما حتى ولو كانت ملحدة، ولكني أعرض لتعاليم الكتاب المقدس بعد دراسة متأنية، وبحث طويل، ومقارنة جادة أقنعتني تمام الإقناع، فرأيت أن أشركك يا صديقي بما توصّلت إليه من مفاهيم أراها غائبة في الأديان الأخرى والتي كان لها أكبر تأثير على حياتي.
قد توافقني يا صديقي على ما أبديه في هذه الرسالة وقد تعارضني في ما أعرضه عليك، ولكنني أطلب إليك أن لا تسرع بالحكم عليّ ولا تلقي بهذه الرسالة عرض الحائط.
أولاً: المسيحية هي إيمان بشخص
يخطئ من يقول إن المسيحية هي ديانة لأنها في جوهرها لا تقوم على عقائد. إن محورها شخص يدعى "المسيح" الذي جاء إلى هذا العالم لغرض واحد أساسي هو خلاص الإنسان المتمرد من ربقة الخطيئة. إننا نسيء إلى المسيح عندما ننظر إلى إيماننا بأنه مجرد مجموعة من العقائد، لأن العقائد هي نتيجة حتمية لإيماننا بهذا الشخص. إن العقائد ليست أصلاً في بنيان الكنيسة والإيمان المسيحي بل هي شخص. إنه المحور الذي تدور حوله كل العقائد ولولاه لكانت المسحية فلسفة كفلسفة افلاطون، وأرسطو وسقراط، وغيرهم من الفلاسفة القدامى والمحدثين. ولولا وجود هذا الشخص، أي المسيح، في صلب المسيحية، فإن المسيحية تكون ديانة ميتة. ولكن المسيحية تستمدّ قوتها، وحيويتها، ونموّها من شخص هذا الكائن الحيّ إلى الأبد. لهذا نحن نفخر بالقيامة ونعتزّ بها لأن المسيح الذي صلب ومات من أجل الجنس البشري قام حيًّا من بين الأموات بعد أن دفع الثمين الباهظ من أجل فدائنا من دينونة رهيبة أصدر حكمها الله الآب على الجنس البشري. والواقع هو أن لا مسيحيّة من غير المسيح.
ولكن بناء على هذه الحقيقة التي هي جوهر خطة الله الأبدية التي لا تتغيّر، نجم عنها بعض الحقائق الأخرى التي هي نابعة مباشرة من طبيعة هذا الشخص وعلاقته الروحية بالآب السماوي وروح قدسه؛ لهذا أقول
ثانيًا: أن المسيح هو محبة
وهذه المحبة تختلف عن كل أصناف المحبة الأخرى، ولا تجدها إلا في المسيحية لأن مصدرها ومحورها هو المسيح؛ هذه المحبة التي تتعدى كل المقاييس البشرية مهما بلغ سموّها. وقد نادى بها المسيح عندما دعا أتباعه طالبًا منهم أن يحبّوا أعداءهم، ويباركوا لاعنيهم، ويصلّوا من أجل الذين يسيئون إليهم. هذا الضرب من المحبة هو معجزي في جوهره، فمن الذي يستطيع أن يحب، ويبارك ويصلي من أجل عدوّه؟ هذا مقياس عالٍ جدًا وضعه المسيح للمؤمنين به لكي يتبعوه. هذه المثالية يتعذّر على الإنسان تحقيقها، ولكن المسيح قدّم لنا الحلّ العجيب للعمل بها. وهنا نرجع إلى شخص المسيح بالذات. وأقول بكل جسارة وابتهاج وجرأة إن المؤمن الذي حلّ المسيح في قلبه، وامتلكته محبته وسلامه يستطيع أن ينجز هذا المستوى الروحي السامي من المحبة، لا بقوته الشخصية بل بقوة محبة المسيح المتفوّقة الساكنة فيه.
إن هذه المحبة الفعالة القادرة أن تجسد عظمة محبة المسيح، وتعلنها صريحة لجميع الأجيال لأنها حيّة في المؤمن بفضل فيض حب المسيح في قلوبنا، تجعلنا أن نمجّد هذا الذي صار مثالنا في كل شيء. أليس هو الذي قال من فوق خشبة الصليب متوسلاً إلى الآب السماوي أن يغفر لصالبيه ما أنزلوه به من آلام، وجور، وإساءة؟ هذه المحبة لا وجود لها في غير المسيح الذي يهبها لكل من يؤمن به.
ثالثًا: القوة التي لا مثيل لها في تاريخ الجنس البشري
أنا لا أتحدّث هنا عن القنابل الذريّة والهيدروجينية، ولا عن المخترعات الحديثة الهدامة، إنما أشير إلى قوة المسيح المخلصة المعجزية.
يعتقد البعض أن في وسع الإنسان أن يحقق خلاص نفسه بقوته الذاتية وبأعماله الحسنة، ولكن هؤلاء ينسون أنهم يئنون تحت أغلال الخطيئة الموثقة، وأنهم يرزحون بالأغلال الثقيلة ولا يستطيعون أن ينقذوا أنفسهم بأيديهم. يحتاجون إلى تلك القوة التي تحررهم، وتحطم تلك القيود وتطلق سراحهم من سجون الموت الأبدي. فالجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله، والجميع أيضًا تحت دينونة الله؛ إن الإنسان عاجز مهما فعل عن تخليص نفسه، لهذا السبب، نظر المسيح صاحب القوة الحقيقية ومصدرها إلى وضع الخاطئ الضعيف وقال: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم". أنا أحرركم من أثقال الدينونة وأنا أهبكم الحياة الأبدية لأنه هو حمل أحزاننا وخطايانا. هذا ما صرّح به النبي يوحنا المعمدان عندما شاهد المسيح قادمًا إليه: هوذا حمل الله الرافع خطايا العالم. إن المسيح وحده هو الذي يهبنا القوة على المحبة الحقيقية ولديه القوة من أجل خلاصنا، ومنه تخرج القوة التي في وسعها أن تحطم قيودنا. هذا أيضًا وجدته في المسيحية ولم أجده في أي دين آخر.
رابعًا: ضمان الخلاص الأبدي
الباحث في الديانات لا يعثر على وعود صريحة ثابتة بضمان خلاص الإنسان. فالمسيح وحده وقف في وجه التاريخ وهتف: من يؤمن بي فله حياة أبدية. لا يوجد أي استثناء قط. لقد وعد المسيح بذلك، ووعده صادق وأمين، وهو دائمًا يفي بوعوده. إن يقين الخلاص الذي يهبه المسيح للمؤمنين به هو في لبّ المسيحية، وهو وحده القادر أن ينفّذ تعهده. لم يجرؤ أي نبي في التاريخ البشري أن يعلن هذه الحقيقة ويتحمل مسؤوليتها إلا المسيح. يقين الخلاص حقيقة نابعة من ذاته، لأنه لهذا جاء من أجل تأمين وضمان الخلاص الأبدي للإنسان الخاطئ التائب. إن المسيح لا يقف في منتصف الطريق، بل يتخذ موقفًا ثابتًا، ويقدّم للإنسان الرجاء الحقيقي الذي ينتظره كل مؤمن قد تطهر بدمه. لا يوجد "أرجو"، أو "ربما"، أو "لعلّ". إن المسيحية مشمولة بوعد المسيح، وهو يعلن للعالم أنه لن ينكث عهدًا قطعه على نفسه. ولا يقتصر هذا العهد على أمة دون أمة، ولا على بلد دون بلد، بل هو متوافر لكل من يؤمن به إيمانًا قلبيًا حيًا ويسلك في طرقه. إن العمل هو نتيجة وليس الوسيلة. هو الثمار وليس الشجرة وفوق الكل هو مضمون بفضل نعمة المسيح ومحبته. ويقين الخلاص هذا بهذه الصورة التأكيدية التي لا شك فيها لم أجدها إلا في شخص المسيح في المسيحية.
ولست أنسى، في نهاية هذا المقال أن اشير باقتضاب إلى أبوّة الله. إن العلاقة الإيمانية القائمة بين المؤمن الحقيقي والله هي علاقة أبوّة روحية. وقد ألمع الكتاب المقدس في قوله:
"وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه". نحن لسنا عبيدًا بعد بل أبناء روحيين له بالمسيح الفادي. وهذه سمة مفقودة في جميع الأديان ولا نراها إلا في المسيح، ليس لجدارة فينا، ولكنها بفضل عمل المسيح الفدائي على الصليب.
هذه هي المسيحية يا صديقي:
هي المسيح بالذات،
وكل شيء آخر يدور حوله.
أرجو أن أكون قد بلّغتك هذه الرسالة الثمينة التي لا نظير لها في أرض الأحياء.