نيسان April 2014
يتعذّر على أي لاهوتي، أو باحث، أو معلم للعهد الجديد أن يلمّ إلمامًا كافيًا بموضوع صلب المسيح. فالشمولية، والاتساعية التي يتميّز بهما هذا الموضوع تفوق الإدراك البشري لأن عملية الصلب هي خطة إلهية منذ الأزل.
في وسعنا أن نفهم بعض مناحيها بمقدار ما يفصح عنه الكتاب المقدس، ولكن ما وراء ذلك، فهو أمر لا يعرفه سوى الله. ويمكنني هنا أن أطرح سؤالاً واحدًا على سبيل المثل: لماذا "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية". إن الوعاظ، والمبشرين، والقيادات الدينية قادرة على الاسترسال في إعطاء جواب أو توفير سبب من الأسباب لأجل هذه المحبة الإلهية للجنس البشري. ولكن في الحقيقة إن كل هذه الأجوبة لا تفي بالمطلوب، لأنها في نهاية المطاف هي تأملات بشرية.
ولكن المهم هو أن الله أحبنا، ولنترك الـ "لماذا" لله لأنه وحده المطلع على الحقيقة والأسباب التي دعته لفدائنا حتى بذل ابنه الوحيد من أجلنا.
لأجل هذا فإنني في هذا البحث سأكون انتقائيًا في اختياري للجوانب التي أسعى لإلقاء بعض الأضواء عليها، وإن كانت هي أيضًا ذات طابع بشري محدود، ولكنها مستوحاة من تعليم الكتاب، وما نقرأه في طيات الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد.
ولست أدّعي في حال من الأحوال أنني مؤهل أن أعني بشمولية هذا الموضوع، فأنا كغيري أقف عند تخوم المعرفة الإلهية ولا أستطيع أن أتجاوزها.
وأود أن أستهل هذا البحث في الموقف الذي كان عليه المسيح في بستان جثسيماني:
أولاً: صلاة المسيح
يقول إنجيل لوقا 44:22 "وإذ كان في جهاد كان يصلي بأشدّ لجاجة، وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض".
إن كلمة "جهاد" الواردة في النص العربي هي فريدة في كل العهد الجديد في نصّها الأصلي، ولم تتكرر قط. وهذا إن دلّ على شيء إنما يدلّ على وعي المسيح العميق لطبيعة التضحية التي كان عليه أن يبذلها، بل أكثر من ذلك، تشير إلى إدراكه الأليم لما كان سيحدث على الصليب عندما يشيح الله بوجهه عن ابنه، فيصرخ الفادي: "إلهي إلهي لماذا تركتني؟" فآلام الجثسيماني، كانت تختلف في نوعيتها، وطبيعتها عن آلام اللصَّين، بل هي مزيج من آلام جسدية وروحية في آن واحد.
وهذا الجهاد والإلحاح في الصلاة جعل عرقه يتصبب على الأرض ممتزجًا بالدم.
يومئ جون ماك آرثر في تفسيره لآية 44 من إنجيل لوقا 22، "إن مثل هذا الوضع الجسماني يفترض وجود حالة مرضية خطيرة تُعرف بنزف في الأوعية الدموية الدقيقة وهو تدفّق الدم في تعرّق الإنسان، ويسبّب أحيانًا الألم الشديد والتوتّر الجسدي، والمسيح أكّد أن حزنه قد أوصله إلى حافة الموت (متى 28:26؛ مرقس 24:14؛ عبرانيين 43:12)".
ومن هنا ندرك أن عطش المسيح على الصليب قد ابتدأ في الجثسيماني، إذ أنه تدفّق من جسده في أثناء هذا الجهاد.
وندرك أيضًا أهمية هذا الموقف عندما نقرأ أن المسيح "انفصل عنهم (أي التلاميذ) نحو رمية حجر وجثا على ركبتيه وصلّى...". كان في عادة اليهود أن يصلّوا وقوفًا وهم رافعو الرؤوس والعيون نحو السماء. ولكننا نرى هنا أن المسيح جثا على ركبتيه، أو خرّ على الأرض إعرابًا عن أن المهمة الملقاة على كاهله كانت مهمة تاريخية لها علاقة مباشرة بما بين السماء والأرض، ما بين الدينونة والفداء، ما بين غضب الله على أبناء المعصية والمصالحة. فالقضية لم تكن قضية بشرية بل قضية تحدث مرة واحدة في التاريخ، ولن تتكرر. ولهذا أهمية بالغة لأنه لن يكون صلب آخر لفداء الخطاة، فقد أتمّ المسيح العمل على الصليب، ونفّذ الخطة الإلهية التي لولاها لكُتب على الإنسان العذاب الإلهي. لهذا جثا المسيح على ركبتيه. ولو أخفق المسيح في تحقيق هذه المسؤولية لكان تاريخ الفداء يدعو إلى الرثاء.
ثانيًا: ناسوت المسيح
ندهش كثيرًا عندما نقرأ أن ملاكًا جاء ليخدمه ويقوّيه، وهو المسيح ابن الله في لاهوته. الواقع أن هذه اللحظة كانت صراعًا روحيًا وجسديًا. فمن ناحية روحية، هو المتحمّل عقاب الآب، بصفته الحمل الرافع خطايا العالم، صعب عليه أن يرى أن الله قد تركه حسب الخطة الأبدية ولو للحظة واحدة. ومن ناحية جسدية، يقول إبراهيم سعيد في تفسيره لهذه الآية: "إن المسيح لم يكن خائفًا من الصليب، لكن جسده الطبيعي الطاهر (أي ناسوته) الذي لم يعرف خطيئة اقشعرّ من الموت الذي هو قصاص الخطيئة كما يقشعر الجسد الطبيعي من الظلام الدامس، وأي ظلام أشدّ من ظلام الخطيئة؟". وكما ورد في 2كورنثوس 21:5 "لأنه جعل الذي لم يعرف خطيئة، خطيئة من أجلنا، لنصير نحن برّ الله فيه".
ثالثًا: الكأس المرعبة
إن لفظة الكأس هذه كما ترد في العهد القديم تحمل مضمونًا يرتبط بالألم وبغضب الله (مزمور 6:11؛ إشعياء 17:51؛ حزقيال 33:23 إلخ)" فغضب الله في التعامل مع الخطيئة كانت له الأهمية القصوى. ولكن كانت إرادة الله هي إرادة فدائية، وأخذ المسيح على نفسه طوعًا أن يبذل نفسه ليرفع عن الإنسان المتمرّد غضب الله، ودينونته. يقول موريس شارح إنجيل يوحنا: "إن صرخة المسيح في ذلك الجهاد (الروحي) الذي تحوّل فيه العرق إلى دم كان أشدّ ألمًا للابن من الصلب نفسه. فكثيرون صُلبوا نظير المسيح، وهناك من نُشروا أو أُلقوا إلى جبّ الأسود أو التهمتهم النيران، ولكن هؤلاء المؤمنين لم يتخلّ الله عنهم، لأن مهمتهم لم تكن مهمة الفداء وخلاص الجنس البشري بل كانت شهادة عن عمل الفداء في حياتهم. أما المسيح فهو الفادي الذي دفع الثمن، وتحمّل دينونة الله. لهذا السبب، هذه الكأس التي كانت كأس دينونة الله المفعمة بعلقم الخطيئة، كانت من نصيب المسيح وحده، ولو أخفق المسيح في مهمته نتيجة لضعف بشري أو لأي سبب آخر، فإن ذلك وصمة عار على الله جلّ جلاله إذ تكون خطته قد فشلت. وحاشا لله أن يفشل.
يقول أر. ف. ج. تاسكر: إن سلطات هذا الدهر قد ظنّت أنها أحرزت النصر (في صلب المسيح) وأن ملكوت الله قد انتهى أمره، ولكنهم لم يعرفوا أن صلب المسيح، ومن ثم قيامته كانتا العربون الأكبر على انتصار ملكوت الله.
رابعًا: لافتة "يسوع الناصري ملك اليهود"
من الملاحظ أن هذه اللافتة التي أمر بيلاطس البنطي بتعليقها على صليب المسيح قد كُتبت بلغات ثلاث هي العبرانية واليونانية واللاتينية. هذه اللافتة غير المقصودة من الحاكم الروماني، والتي لم ترضِ القيادات الدينية والسياسية اليهودية، هي إشارة خفية إلى ملكوت المسيح وانتشاره في أرجاء الدنيا، ثم الغلبة النهائية في مجيئه الثاني. وقد أثبت التاريخ أن ملكوت المسيح لم يقتصر على أمة دون أمة، وعلى لغة دون لغة، بل هو فداء مبذول لكافة الجنس البشري وأنه في يوم من الأيام سيكون هذا العالم بكل ما فيه من قوى، وسلطات، وجيوش، خاضعًا للملك الوحيد الذي من حقه أن يملك لأنه هو وحده الذي دفع ثمن خلاص الجنس البشري.
وفضلاً عن ذلك، في الصليب ابتدأت الشركة المسيحية القائمة على علاقات طبيعية. فنحن، المؤمنون بالمسيح جسد واحد، وهو رأس هذا الجسد، ومن شأن هذا الجسد أن يتميّز بالمحبة، والتعاطف المتبادل والنظرة المشتركة لخير الإنسانية. والواقع أن المزية العظمى لجميع المؤمنين بالمسيح أنهم جميعًا يتمتعون بقوة الجاذبية التي تجمعهم معًا لإدراكهم أنهم كلهم إخوة وأخوات مات المسيح من أجلهم.
خامسًا: ثوب المسيح
يؤكد الكتاب المقدس أن ثوب المسيح لم يقسّم إلى قطع لأنه كان منسوجًا وليس مخاطًا؛ مما يذكرنا بما ورد في سفر الخروج 31:28-32 أن أفود رئيس الكهنة كان يجب أن يكون منسوجًا، ولا يجب تمزيقه إربًا أو إلى قطع، وقد أوضح الكتاب المقدس في قصة الصلب، كما في التعليقات في الرسالة إلى العبرانيين أن المسيح هو رئيس الكهنة وهو اللابس الأفود، لهذا هو رمز للنبوءات التي تحققت. ولكن هذا الأفود قد توقف عن الاستخدام لأن أفود المسيح وحده هو الأفود الحقيقي الذي هو بر المسيح. لقد دخل المسيح إلى قدس الأقداس ومزّق الحجاب، واكتملت فيه خطة الخلاص. ولم تعد هناك حاجة إلى الذبائح لأنه كان الذبيحة العظمى والملك المنتظر.