نيسان April 2014
أينما ذهب كانت الجموع تلتفّ حوله، ليس لأنه كان يشفي مرضاهم فقط، ولا لأنه كان يكلمهم بكلام الحياة فحسب، بل لأنه كان يُظهر لهم حبًا لم يروه من الكهنة والشيوخ والمعلمين الذين كانوا يذهبون إلى المجمع والهيكل للاستماع إليهم.
يسوع كان مختلفًا... كان يحبهم، كانوا يرون في كل ما يعمل ويعلّم محبة عظيمة ظاهرة واضحة. رأوا فيه الحب... الحب متجسّدًا... الحبّ إنسانًا... الحب يتحرّك وسطهم فالتفّوا حوله وتبعوه حيثما ذهب بأعداد كبيرة.
بعد حديث طويل شيق على الجبل في الجليل، نزل ودخل كفرناحوم وهم حوله. شاهدوه وهو يشفي عبد قائد المئة واستمعوا لكلماته وهو يقول بإعجاب عن قائد المئة:
- الحق أقول لكم: لم أجد ولا في إسرائيل إيمانًا بمقدار هذا!
في اليوم التالي ذهب إلى مدينة نايين. وهنا يبدأ المشهد الثاني الذي أريد أن نتوقف عنده.
كان الوقت آخر النهار وأول المساء بعد انتهاء ساعات العمل. يسوع يسير في موكب كبير وسط تلاميذه ومريديه وتابعيه. الحديث بين الجميع كان عن شفاء العبد المريض. كانت البشاشة والفرحة تملآن الوجوه، وبين الحين والآخر تعلو الأصوات والضحكات. اقتربوا من باب المدينة وقابلوا موكبًا آخر، موكبًا حزينًا... موكب موت. جنازة ميت محمول على أكتاف رجال. تنحّى الموكب السعيد حول يسوع عن الطريق ببطء ليتيح المرور لموكب الموت. خلف النعش، كانت أم الميت تسير ممسكة به. امرأة ثكلى دفنت من وقت ليس ببعيد رجلها... زوجها... سندها... كيانها وهويتها. وها هي الآن تشيّع رجلها الثاني، ابنها... ضناها... عوضها... فرحتها ورافع رأسها.
لم يعد لها من تنتسب إليه... لم يبقَ لها من تتباهى به. المرأة اليهودية في ذلك الوقت كانت تقيَّم برجلها وأبنائها الذكور. هي الآن بلا قيمة، لا قيمة لها. وكما كان الاعتقاد السائد حينئذ أن الموت يحلّ على الإنسان عقابًا على ذنب اقترفه... ذنبها لا بد عظيم ومضاعف حتى ينزل إلى ساحتها الموت مرتين في زمن قصير. هذا ما كانت تفكر فيه وما يفكر فيه من حولها من أهل وأقارب وجيران جاءوا يشيّعون معها ابنها. كانت تجرّ رجليها بجهد وهي تسير منكسة الرأس، محنية الظهر، تحت ثقل المصيبة، وضخامة الذنب، لم تكن تقدر أو تحتمل أن ترفع رأسها، تركته يسقط على صدرها ويهتز مع حركة قدميها.
رآها يسوع... العادة في مثل هذا الموقف أن تتحوّل الأنظار عن الشخص الحزين حتى لا نجرح مشاعره ونزيد من مرارة لوعته. لكن يسوع... يسوع رآها... نظر إليها وأدرك ما يجول في خاطرها وما يختلج به قلبها... رآها بخلاف ما رآها به الآخرون... رأى ما لم يروه، وسمع ما لم تنطق به، وفهم ما لم يفهمه غيره... رآها وهي تستعيد أحداث يومها المشؤوم... رآها وهي تتابع تفاصيل ما حدث منذ الصباح: تذكّرت الرجال سمر الوجوه الذين جاءوا إلى بيتها والتفّوا حول ابنها ليقوموا بالإجراءات اللازمة لإعداد جثمانه للدفن. نظراتهم جامدة باردة لا تعبير فيها ولا إحساس. أيديهم كبيرة سوداء وأصابعهم طويلة قبيحة تحرّك الجسد وتقلّبه بعنف وسرعة. لفّوه عدة مرات بالكتان وفي كل مرة كانوا يقلّبونه بلا هوادة أو رحمة. تركوا وجهه مكشوفًا ووضعوا تحت رأسه منديلاً كبيرًا. نقلوه وأرقدوه على ظهره بالفراش. اقتربت منه ومدّت يدها ولمست جسده، ما يزال دافئًا! مدت أصابعها إلى رأسه وأخذت تسوّي شعره المنساب على جبهته. أصوات النساء "المعددات" كانت تملأ الدار وهنّ يرددن مواويل النواح الكئيبة الرتيبة الحادة كمواء القطط المذعورة. ملأت رائحة الحنوط والعطور الكريهة خياشيمها ورئتيها. صور بغيضة متتابعة لا تتوقف عن الدوران في ذاكرتها... رأى يسوع المرأة، ودخل عالمها الحزين، وعرف ما يتصارع في داخلها. رأى دموعها وهي تنساب قطرات حمضية كاوية تحرق وجهها حتى يكاد الدم يتفجّر منه، وتحنّن عليها. تابع بعض تلاميذه نظراته وشاهدوا عينيه تعكسان حنوًّا ورحمة وتعاطفًا. كان موكب يسوع – موكب الحياة – يفوق في العدد موكب الجنازة... موكب الموت. تقدّم يسوع خطوة نحو المرأة... توقف الموكبان وتواجها... قال يسوع للمرأة:
- لا تبكي...
رفعت المرأة رأسها ونظرها إليه في تعجب وعدم إدراك.
كيف لا تبكي وهي تشيّع ابنها وحيدها إلى مثواه الأخير؟
كيف لا تبكي وهي ترى في عيون من حولها من المشيّعين اتهامًا بأنها أذنبت ذنبًا عظيمًا حتى يخطف الموت ابنها بعد زوجها؟
كيف لا تبكي وهي تحتضن في داخلها أتون نار يكوي ويحرق ويدمّر أحشاءها؟
هي وحدها التي تعرف مقدار الألم الذي يعتصرها... لا أحد يعرف ما تحسّ به. لا أحد. لذلك هي تبكي. كيف تقدر أن تتوقف عن البكاء.
- لا تبكي...
استمر يسوع ينظر إليها... وتقدّم نحو النعش... ولمس النعش.
توقّف الحاملون... ارتفع هدير همهمة من الجماهير في الموكبين، ثم عمّ المكان صمت. صمت ترقّب... كل النظرات اتجهت إلى النعش وإلى حامليه الذين وقفوا ينتظرون... استمرّت نظرات يسوع موجّهة إلى المرأة. تغيّرت نظرات يسوع من التعاطف إلى القوة... وتغيّرت نظرات المرأة من الألم إلى الأمل...
علا صوت يسوع وسط الصمت وصاح آمرًا:
- أيها الشاب. لك أقول: قم.
أنزل الرجال النعش إلى الأرض وبأيدٍ مرتعشة سريعة رفعوا الغطاء وظهرت رأس الشاب المغطاة بالمنديل. نزعوا المنديل وظهرت رأس الشاب وشعره يتحرّك بفعل ريح هبت على المشهد. رُفعت الأكفان، وجلس الميت، ودارت نظراته تتفحّص الوجوه، وتتوقّف عند أمه، ثم عند يسوع. تقدّم يسوع ومدّ يده إلى الشاب وأقامه. وقف ونفض الكفن عن جسده وأمسك بيد يسوع الذي سار به إلى أمه ودفعه إليها حيًا صحيحًا معافى.
ارتفعت الشهقات والأصوات والتعليقات والهتافات تقول:
- قد قام فينا نبي عظيم وافتقد الله شعبه!
وانفصل الموكبان وانطلق كل موكب إلى شأنه وتركا لنا مشهدًا خالدًا يقرّبنا من يسوع لنعرفه أكثر ونحن نمر في تجارب قاسية.
وسط الظلام والحزن والتجارب يرانا يسوع، ويتحنّن، ويتحرّك لنجدتنا، ويقيمنا، ويدفعنا إلى شركة رائعة معه وسعادة دائمة في رفقته. هذا هو يسوع!