نيسان April 2014
"انتبهْ يا يعقوب وأنتَ تحفرُ في أرض البستان، وأنتَ يا يوحنا لئلَّا تغيِّر من المخطط الذي وضعتُه أنا. فهنا سيكونُ مَثواي الأخير عندما أرحل من هذه الدنيا. ومن المهم جدًا أن تُجريا الحفر وتتبعَا الخريطة التي رسمتها كيما تؤديان معًا العمل على أحسن وجه. فهذا قبرُ العائلة، ومقرُّ الجسد باطنُ الأرض، حيث بستاني الذي أملكُه المطلِّ على تلِّ الجمجمة. ولا يهمّ كم سيكلِّف، فقط أسرعا في الأداء عساكما تنتهيان بأسرع وقت".
ردَّ يعقوب ويوحنا على يوسف الرامي وراحا يهزان برأسهما دليلَ الموافقة على كلامه، والخضوع لأوامره. وأعطى يعقوب التعليمات بدوره إلى باقي الفعَلَة والعمال، كيما يقوموا بالعمل على أحسن ما يُرام وفي الوقت المراد. فهذا مكان في حضن الأرض ستُدفن فيه الأجساد بعد أن تُدهَن بالأطياب. لذا فله رهبةٌ خاصة، واحترام مهيب. وما علينا يا رفاقي، قال يعقوب، إلا أن نُنهي العمل الموكل إلينا بالتمام والكمال والزمان.
ذهب يوسف الرامي، بعد أن أمَّن على فَعَلَته في البستان، ليريح جسده المتعب قليلًا، ذهب من هناك إلى الرامة حيث مدينتُه المتواضعة التي تبدو هناك شامخة مبنية على الهضبة المرتفعة والتي تبعد خمسة أميال شمالي مدينة أورشليم المدينة البهيّة التي تجري فيها الأحداث الجسام. وعلى مرتفع الرامة وهناك قريبًا من بيت إيل، تمدَّد يوسف في بيته محاولًا النوم والاسترخاء علَّّه يُبعدُ عن تفكيره ما يجري في مجلس السَّنهدريم، مجلس اليهود الكبير، الذي كان فيه عضوًا فعَّالاً. لكن أنَّى له أن يُغمَضَ له جَفن والأحداثُ في المدينة تتسارع وتأخذ مسارًا لم يكن يتوقَّعه وكأنَّ الأمور قد خرجت عن نطاق السيطرة بفعل التعصب الأعمى والتحزب والانفعالات. ولم يعدْ للعقل الواعي مكانٌ في خضمِّ مجرى الأحداث المتسارعة. راح يوسفُ الرامي يفكر ويفكر ويصلي في نفسه لله وحده إذ كانَ إنسانًا صالحًا وبارًّا ولا يريد أن يعاقبَ البريء أو يبرِّئُ المجرم. وغفا من كثرة تعبه لسويعاتٍ قليلة. استفاقَ من بعدها ليجهِّز نفسه من جديد لصباحٍ آخَر من العمل الشاق والجهد الكبير. ومضتِ الأسابيع بسرعة كبيرة وبدا الزمنُ وكأنه في تسابقٍ مع مجريات الأمور. فلقد كان يوسف ينتظر وبشوقٍ كبير ملكوت الله ومجيء المنقذ. لكنْ ما يجري الآن أمام عينيه كان شيئًا على عكس ما توقّع. فالمنقذ أتى بحسب النبوءات في الكتب المقدسة، هذا ما قاله في سرّه. وأنا رأيته وشهدتُ أعماله وأصبحتُ مؤمنًا فيه. نعم هذا المنقذ، يسوع المسيح، قد وُجِّهتْ إليه التُّهم العديدة. لكنني لم أوافقْ قطُّ يومًا على هذه التهم الواهية من قِبَل اليهود أترابي في مجلس السنهدريم. ويبدو أنَّ الناس العاديين أيضًا منجرُّون ومعبَّأون ضدَّ يسوع المسيح الذي أتى إلى عالم البشر وجال يصنع خيرًا ويشفي المرضى ويقيمُ الموتى. نعم، اتهموه زورًا وبهتانًا. كلَّا، لن أوافق أبدًا على أعمالهم هذه وقراراتهم الخاطئة. نعم، إنَّها قرارات خاطئة تلك التي يحاولون اتِّخاذها وفرضَها على الجميع. ساعدني يا ألله كيما أقف صامدًا في المجلس ولا أنجرُّ إلى ادِّعاءاتهم الكاذبة ضد يسوع الذي سَلَب عقلي ولبِّي بتعاليمه السموحة، التي أنارت بصيرتي وأسَرتني.
حضَّر يوسف نفسه من جديد وخرج من بيته متوجهًا إلى مجمع السنهدريم. كان هو عضوًا محترمًا فيه، له قيمة كبيرة فهو المشير والغني. لكن يا لَبِئسَ تلك الجلسة، كانت الجلسة صاخبة ومليئة بالصراخ والهيجان. ولمَّا أصر الجميع على موقفهم المتعنِّت، امتنعتُ أنا عن التصويت أو الاشتراك في إصدار الحكم الجائر على سيدي ومعلمي. وأدركتُ عندها أنْ لا شفقة ولا رحمة في قلب هؤلاء الذين يحكمون الأمة ويديرون زمامَ أمورها. وأراحني الله على موقفي هذا وتركت المكان، وقلبي مفعم بالأحزان على ما آلت إليه الأديان والأوطان، وما وصلتْ إليه من مهزلةٍ شيطانية ليس فيها شيءٌ من الوجدان. وقَفلْتُ راجعًا إلى بيتي وعائلتي علَّني أنسى زعيقَ الناس وصراخَ الأعوان.
وبينما أنا جالسُ فوق سريري أفكر إذا بي أتذكَّر مؤامرةً سابقة جرت على يسوع نفسه لكن حين كانَ بعدُ طفلًا. هذا المسيا المنتظر الذي سيحقِّق لنا الملكوت وكيف خافَ من ولادتِه حينذاك ملكٌ كبير ذو عرش عظيم وجاه عميم. نعم، تذكَّرت ما قاله والدي يوم ذاك وكيف قال بأنَّ صوت النساء الباكيات وصلت حتى الرَّامة مدينتي. النساء بكت يوم أرسل الملك هيرودس جنوده لينفّذوا حكم الإعدام في حق المواليد الذكور من سنتين فما دون. قال لي والدي يومها بأنَّ صرخات النساء وعلى رأسهن امرأة اسمها راحيل كانت تدوي عبرَ التلال لأنَّ أولادَها لم يعودوا موجودين. نعم، قام القتلة بقتل الأطفال في بيت لحم وكل تخومها، لكي يتخلَّص الملك صاحب الجاه والسلطان من الطفل المولود الذي ظنَّ أنه سيستولي على عرشه ويأخذ مكانه. وانطبعت كلماتُ أبي في أعماقي لما فيها من مأساةٍ وإثم ومعصية بحق الأطفال. وها المأساةُ تتكرر اليوم كما يبدو، وبعد مرور أكثر من ثلاثين سنة ونيِّف والمؤامرة تُحاكُ وتحضّر ضدَّ يسوع الذي من ناصرة الجليل. هو الذي لم يفعلْ قطُّ شيئًا يستحق الموت. ها هم يُصدرون حكم الموت عليه، وها هو بيلاطس يسلِّمه إلى أيديهم ليُقتل. يا إلهي، إنَّ قلبي يذوب في داخلي، فلا أحدَ يسمع ولا أحد يعي ما قلته لهم. والموجةُ العشواء تجرُّ الجميع إلى ارتكابِ أحمق الشرور، وصبِّ اللعنةِ القصوى على البريء. رحماكَ يا رب... رحماكْ...
وهناك فوق تل الجمجمة تمَّ الحكم من قِبل أترابي المجرمين، واشترك العسكر في تنفيذه بيسوع المسيح، واقتادوه كالحمل المذبوح، وعلَّقوه هناك على خشبة بين لصين اثنين. لم أستطعْ تصوُّر ما حدث، فرحت أبكي من ألمي. وما أن انتهى النهار حتى علمتُ أنه قد مات على الصليب متأثرًا بجراحه الثخينة. ولما حلَّ المساء، لم أستطع البقاء في بيتي ومع عائلتي، فهرعتُ لتوِّي إلى بيلاطس أطلب منه جسد السيد المعلم العظيم، معلم الرحمة والحق والغفران العميم. وقلتُ في نفسي، إنَّ أقلَّ ما يمكنني فعلُه هو أن أحملَ جسده الطاهر هذا، وأدفنَه في باطن الأرض بعيدًا عن أيادي الغادرين، عساه يسلَمُ من عبثهم وقسوتهم. وها إننَّي مستعد الآن وبعد أن جَهُزَ القبر الجديد أن أضعه فيه. وافق بيلاطس البنطي على منحي الجسد للحال وأمر أن أُعطى الجسد، فأخذتُه وبكل تؤدة حملته ولففتُه بكتَّان نقي أبيض يليق بمعلمي المحب. ورافقني إلى القبر الجديد صديقي نيقوديموس معلم الناموس الذي التقى يسوع ليلًا، وبجرأة لم نعهدْها من قبل وضعنا السيد في القبر الذي نحته لي العمال من شهور خلَتْ. ولكي لا يسرقَ أحدٌ جسدَه الطاهر وضعنا حجرًا كبيرًا على باب القبر. ومضينا كلٌ إلى بيته منكَّسي الرأس ومكسوري القلب. فها قد دُفِن المعلم في باطن الأرض تبعًا للنواميس والشرائع المقدسة في التوراة والكتاب.
لكن ما حدَثَ من بعد ذلك، كان أعظمَ من كلِّ ما سَبق. فالحجرُ الكبير لم يبقَ هناك. نعم يا سادةُ يا كرام، لأنَّ الملاك نزلَ من السماء ودحرجَ الحجر العظيم، وجلس هو عليه. هذا ما شهدتْ به النسوة حين ذهبنَ ليحنِّطن جسدَه باكرًا فجرَ السبت. وكان منظرُ الملاك كالبرق ولباسه أبيض كالثلج. وأخبر الملاكُ النسوة بأنَّ يسوع المسيح ليس هو في القبر، بل قامَ من بين الأموات كما قال. وفيما اثنتان منهما منطلقتان لتخبرا التلاميذ إذا بيسوع نفسه لاقاهما وقال سلام لكما. فتقدمتا وأمسكتا بقدميه وسجدتا له. فقال لهما يسوع: لا تخافا. اذهبا قولا لإخوتي أن يذهبوا إلى الجليل وهناك يرونني. (متى 28)
نعم، أيها الإخوة، لقد قام كما قال. والقبر الجديد المنحوت في الصخر الذي دفنتُه فيه أنا ونيقوديموس زميلي، أضحى فارغًا فارغًا. وباطنُ الأرض الذي صارَ مأوىً لجسده الطاهر، لم يبقَ فيه أيُّ رُفاتْ بل صارَ شاغرًا. فيسوعي ومعلمي العظيم هذا لم يقوَ الحجرُ الكبير على منعِه من القيام من بين الأموات. بقي فيه لسويعاتٍ معدودة، وقبل أن يبزغَ فجرُ اليوم الثالث، قام تاركًا الأكفان جانبًا.
أجل يا أصدقائي، هذا هو يسوعي، هذا هو مسيحي، هذا هو إلهي، هذا هو صاحبُ الملكوت المنتظر وصانع العهد الجديد. وهذا هو الذي طالما انتظرْتُه من سنين. والآن تحقَّق المجيء للإنقاذ والخلاص. هو الذي ملَك قلبي وكياني، وأدركت الملكوت الذي أتى من أجله لأنَّني رأيت علاماته بأمِّ عيني. والآن عاد القبر ليكون مثواي أنا، لكن ليس الأخير، لأنَّ المقام من الأموات منحني الخلاص والغفران والرجاء بالحياة الأبدية في دار النعيم بعد الممات. وحضنُ الأرض ليس هو للأحياء بل للأموات.
التوقيع: يوسف الرامي