أيار May 2014
الجهاد المسيحي هو في الحقيقة حرب مقدسة.
حرب لا تبقي ولا تُذْر، ضارية في قساوتها، هدَّامة في نتائجها، رهيبة في فاعليتها. وهي حرب ليست حديثة العهد في أساليبها ووسائلها، بل إن أسلحتها لم تتبدّل ولم تتغير منذ سقوط الإنسان في خطيئة العصيان. فالصراع ما بين الخير والشر، ما بين الحق والباطل، ما بين الظلمة والنور كان وما برح هو هو. لم يطرأ أيّ تبديل على قادة هذه الحروب. ولم يُجرَ أيّ تعديل على استراتيجيتها. لأن الطبيعة البشرية لم تتغير. والنفس الأمَّارة بالسوء ما زالت أمَّارة بالسوء، وإبليس سلطان هذا العالم ما فتئ متحكِّمًا بالملايين من أتباعه وقد جنَّد كل قواه وأعوانه لخوض
معركة الحياة والموت المقبلة. ولكن،
الجهاد المسيحي هو ليس جهادا ضد أبناء البشر
هو ليس جهادًا ضد الطوائف الأخرى والأديان الأخرى، فيه تُستخدم القنابل، والصواريخ، والطائرات، والتهديدات، والاضطهادات، والمظالم، وقطع الرؤوس، والاغتيالات كما يحدث وحدث في بلدان كثيرة ضد المسيحية. إن أي فئة تطلق على نفسها لقب المسيحية، أو اسم المسيح، وترتكب هذه المعاصي، هي فئة لا تعرف من المسيحية إلا اسمها، لأن كل ما تقترفه باسم الدين هو مخالف للدين. فالحروب الصليبية مثلًا ناقضت كل تعاليم المحبة والسلام التي بشَّر بها الرب يسوع المسيح وشوّهت معالم المسيحية في الشرق والغرب.
مثل هذا الجهاد هو ليس جهادًا مسيحيًا.
إذن ما هو الجهاد المسيحي؟ وكيف يختلف عن بقيَّة الجهادات الأخرى التي تحوَّلت إلى رموز شر باسم الدين والإيمان؟
يشير بولس الرسول إلى حقيقة الجهاد المسيحي عندما يعلن أن
1- محاربتنا هي ليست مع لحم ودم بل مع قوات الشر الروحية
في هذا التأكيد على طبيعة العدو، تحديد لنوعيته، وللخصائص التي يتميز بها. إننا لا نستطيع أن نرى هذا العدو بأم أعيننا، ولكننا نرى مظاهر أعماله ونتائج خططه الخبيثة التي يحاول بها أن يناوئ خطة الله السرمدية لخلاص الإنسان. إن الشيطان المترئس على عالم الشر هو عدوّ المسيح. إنه يضمر له الحقد والكراهية ولكل أتباعه القديسين من المؤمنين المسيحيين. لقد نجح في خداع أبوينا الأولين، مما أسفر عن دخول الخطيئة إلى هذا العالم، وتسرب الموت إلى كل نفسٍ بشرية، وظن إبليس أنه قد انتصر على خطة المسيح الأبدية.
غير أن هذا السقوط كلف المسيح غاليًا.
لقد أعلنت الحرب الدائمة الأرضية بين المسيح وإبليس. أعلنت التعبئة العامة. وأدرك الذين انضموا إلى جيش المسيح أن الحرب هي حرب دائمة حتى مجيء المسيح ثانية إلى هذا العالم. حرب ضروس هي. لم يترك إبليس وسيلة من الوسائل - وهو صاحب خبرة طويلة في تعامله مع الإنسان، مطلعًا على مناحي الضعف في حياته - إلاّ وجرَّبها للاحتيال عليه واستعباده. ولكنه نسي أن المسيحيين المؤمنين هم جنود مدربون يحاربون تحت لواء المسيح الظافر. قد يسقط بعضهم في إبان المعركة وهم الشهداء، قد يُزجُّون في السجون وهم المضطهدون، قد يحملون سمات آلام الصليب وهم المجاهدون في نشر كلمة الحياة، ولكنهم في كل ما يفعلون هم يحاربون أجناد الشر الروحية.
فالجهاد والمسيحي أولًا هو جهاد ضد القوى الروحية الشريرة، والشيطان كأسد زائر جائع يحاول أن يجد من يفترسه. ثم
2- الجهاد المسيحي هو جهاد محبة
المسيحي الحقيقي لا يتخذ من السيف أو أي أسلوب من أساليب الضغط السياسي، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو الديني لنشر المسيحية. فجهاده في جوهره، هو جهاد محبة حقيقية. وهذه المحبة نابعة من اختباره الشخصي، إذ كان هو نفسه خاطئًا يلعق من صديد الإثم كل ما هو نتن وكريه. كان مستعبدًا لإبليس: محكومًا عليه بالموت الأبدي في جهنم النار. ولكم قاسى من عبودية الخطيئة وتذوَّق صنوف عذابها، ثم تحرَّر من أصفادها، عندما أقبل المسيح إليه وفكّ قيوده، وأطلق سراحه، ليصبح من ثم جنديًا صالحًا يسير في موكب نصرة فاديه ومخلصه. هذا الاختبار المجيد الذي شرَّع أمام المؤمن كل أبواب المحبة أصبح جزءًا لا يتجزأ من حياته؛ ومن اختبر محبة المسيح مرة لا يسعه أن يتخلّى عنها أو يتنكر لها، بل تصبح هذه المحبة هي متعته العظمى، ينتشي بها، يتغنى بها، ويبذل كل جهدٍ لكي يقدمها لكل إنسان واقعٍ تحت وطأة الخطيئة، ويفتقر إلى محبة المسيح المحيية. وهكذا تصبح الكرازة بالإنجيل معركة جهاد روحية أيضًا ضد قوات الشرّ، تستهدف إنقاذ الأسير العاني من أقبية الرعب، لكي يتمتع بفيض المحبة الصافية المخلصة. لقد بذل المسيح نفسه لأجل فداء الإنسان، "لأنه هكذا أحب الله العالم" بلا استثناء؛ لم تقتصر هذه المحبة على أمة من الأمم أو بقعة جغرافية معينة بل شملت الكون بأسره. لم يوجد كائن آخر بذل نفسه وحياته لإنقاذ أعدائه والإنعام عليهم بحياة جديدة. فالجهاد المسيحي هو جهاد محبة أيضًا يقوم على نعمة الاختبار.
3- الجهاد المسيحي هو جهاد سلام
هذا السلام صادر عن الانسجام المطلق بين الاختبار المسيحي، وإرادة المسيح. إن "الأنا" في الإنسان دائمة التمرُّد على كل ما يمكن أن يهدِّد حريتها. فهي لا تعرف قيودًا، وتسعى دائمًا في سبيل تحقيق رغباتها الذاتية حتى لو كانت مناقضة للإرادة الإلهية. لهذا فالاختبار المسيحي وحده القادر أن يخلق "أنا" جديدة في داخل الإنسان بحيث تنسجم رغبات هذه "الأنا" وأشواقها، وأحلامها وأمانيها مع إرادة المسيح. إن الإنسان عاجز عن تحقيق هذه المعجزة، بل إنه لا يستطيع، مهما بلغ من علو المكانة، ونهل من العلم، أو دانت له القوة، أو بلغ غاية الثراء أن يصبح خليقة جديدة، إنسانًا آخر، ينظر إلى الدنيا بمنظار جديد. إن مثل هذا التغيير الجذري يتطلَّب سكنى روح الله في قلب الإنسان. لا شك أن الإرادة البشرية، في الإنسان الجسدي خاضعة لرغبة "الأنا". أما الإنسان الروحي فإرادته خاضعة لإرادة المسيح، وهو وحده الذي يجري تلك العملية الجراحية في القلب فيستأصل منه كل داء. عندما قال صاحب المزامير: "لتكن أقوال فمي وفكر قلبي مرضية أمامك يا ربّ صخرتي ووليّي"، كان يتحدث عن هذا الانسجام الذي يولِّد في النفس السلام الحقيقي. فالمسيح يتناول المتناقضات: يحللها، ويزيل منها الشوائب ويصوغها من جديد فتخرج من البوتقة إبداعًا رائعًا في الانسجام والتناسق مع إرادته.
في الأسابيع الأخيرة من حياته الأرضية قال المسيح لتلاميذه: "سلامًا أترك لكم، سلامي أعطيكم...!" لم يتحدَّث المسيح عن سلام عادي يتحدَّث عنه الناس، إنما أشار إلى سلام من نوعية أخرى هو سلامه بالذات. سلام متميِّز عن سلام العالم لأنه سلام رب السلام، وفادي الإنسان، ومحيي العظام وهي رميم.
سلام لا يمكن للعالم أن يعرفه وهو سلام دائم لا تهزُّه العواصف.
هل اختبرت هذا السلام؟
هيا تعال لنخوض معًا الجهاد المسيحي.