حزيران June 2014
يا صديقي،
ها أنا أكتب إليك من المُنْقَلَب الثاني حيث طوّحت بنا أحداث الحياة. أكتب إليك وفي القلب غصّة لا تند عن شفتيّ بل ترتعش مرارتها في عينيّ كلما مرّت بالخاطر ذكرى حلوة من ذكريات بلدنا الأخضر. في خضمّ المدينة التي فيها أعيش ترعبني زعقات القطارات وهدير الطائرات المدنية، وأخبار الأنواء الهوجاء والعواصف البحرية والفيضانات وحوادث الحريق المخيفة والهزّات والزلازل وتفجّر البراكين.
لعلّك تبتسم في هذه اللحظة وتُحدّث نفسك هامسًا: هل نسي المهاجر هذا ويلات الحرب الأهلية ومآسيها التي ما زلنا نقاسي منها؟
لا يا صديقي، إنني لم أنسَ هاتيك الويلات ولا غربت عن بالي حلقات المآسي المتتابعة، ولكن زلزال واحد عنيف يحدث في ثوانٍ معدودة كافٍ ليسبّب من الأهوال ما أسفرت عنه الحرب الأهلية في بلدنا طوال هاتيك السنين.
لكن ما لنا ولهذا الحديث الكئيب؟
أنا أدرك، أن الشعور بالغربة وعدم الانتماء هو منطق الأشياء في أرض الاغتراب، وأدرك أيضًا أن حكاية القلب المتلوّع المتلهّف أبدًا إلى تراب الوطن هي حكاية أزلية يعاني منها الإنسان كلّما حلّ في بلد غريب: دفقات العاطفة الأولى التي امتزجت بدم المهاجر منذ طفولته وحنينه المستمرّ إلى مرابع طفولته وإلى همسات حفيف أشجار قريته أو ابتسامة ابن حارته أو صوت بائع الخضرة المتنقّل بعربته أو رشفة فنجان القهوة مع جاره على شرفة منزله في بواكير النهار أو عند الغروب، كلّها تذكارات محمّلة بأريج المحبّة تكاد تمحو من الذاكرة آثار الفواجع والكوارث.
أنا أدرك هذا وأكثر...
بيد أنني أودّ أن أنعتق الآن من آثار الماضي على غير رغبة مني لأسرد عليك قصة الحاضر بما فيه من تقلّبات تبعث على القلق أحيانًا وتُعمّقُ فيّ الإيمان أحيانًا أخرى.
أترى يا صديقي أن الحياة المجرّدة من ركائز الإيمان هي حياة تهوِّم في فراغٍ مبهم، أو على أقلّ تقدير هي حياة تعصف بها الأهواء والكوارث والنزعات، ولا سيّما في مجتمعٍ ماديّ انعدامي يكاد يفقد سرّ روعته الأولى عندما استشرف في مطالع بزوغه على آفاق من الحرية الأخلاقية الصائبة، والثقة الإيمانية المرتبطة بتراث مسيحيٍّ واعٍ صفا من شوائب التعصّب وضيق الأفق.
كان ذاك "زمان رؤيا".
فكيف به الآن وقد طوّقته فتنة المادة ومزّقته أنياب وحشية متمدّنة متكالبة؟
عالم كهذا رافض للإيمان هو بالجحيم أشبه.
تجدني يا صديقي في عالمي هذا أصارع نوازع المادة وأتشبّث بالإيمان لئلا تقتلعني أنواء الدنيا هذه من جذوري الروحية. يكفي أن تكون حيتان السياسة والحروب والفتن قد اقتلعتني من تربة بلادي وقدمت بي إلى مضائق الموت. ولكن لن أسمح لها أن تستأصل مني جذور إيماني ومسيحيتي لتطرحني في مستنقعات الخطية والعدمية والانتحار الروحي. أقول هذا اعتقادًا مني أن العلائق (الوشيجة) بين الإنسان والله هي علائق حياة ونمو إن بترت أو انفصمت أعقبها موت وانفصال.
في مصطرع الكفاح الروحي هذا اكتشفت معنى الانتماء. هذا هو الحاضر الذي أحدّثك عنه. لقد جهدت أن أستوعب في إبان عواصف حيرتي معاني الضياع والعدمية والقلق والحنين بل الرعب من الغد المجهول لأتمكّن من إخضاعها، لا على صعيد الحافز البشري المتواهن بل بطرحها عند قدمَي من رافقني في وحدتي، وسكب في أعماقي طمأنينة محبته، ومسح من ماضيّ عبرات اليأس، وأنقذني من هجمة الرعب. اعلم يقينًا أن مثل هذا الحديث قد يرسم في ذهنك طائفة من علامات السؤال. لا بأس ! ولكنها هي الحقيقة المجرّدة كما اختبرتها. إن درب الغربة قاسٍ جدًا يصعب اجتيازه منفردًا، ولقد وقفت موهولًا أمام وحشته، فأنا، كما ترى، جئت إلى هذه الأرض الغريبة، حاملًا على عاتقي مسؤولية أسرتي، ولولا قوة إيمان وبقية أمل، ونظرة تطلّعٍ نحو غدٍ أفضل لما تجرّأت على التقدّم خطوة واحدة إلى ما وراء شواطئ بلدي.
وفي غمرة حيرتي ووهلتي أحسست به إلى جواري. لم أشعر في يوم من الأيام أن "يسوعي" قد لازمني كذاتي كما شعرت به في حقبة القلق المظلمة، رأيته يقف قريبًا مني متأهّبًا لخوض معترك الحياة معي، رفّت نبرات صوته الحبيبة في مسامعي تشجعني كلّما أحدقت بي عواديَ الزمن، وضع يده على كتفي بحنان ولا أرْفَق، عندما شاهدني أنوء تحت أثقال المتاعب. فَسَرَتْ منه شحناتُ قوّةٍ متسامية رفعتني من حضيض اليأس إلى سماء النشوة والغبطة، أدفأني بنظرات محبته عندما اعتراني شعور بالتشاكي والتذمّر فأذابت تلك النظرات ما علق بنفسي من شوائب الضيق. وأدركت، كما لم أدرك من قبل، معنى الآية "الرب حالّ حول خائفيه".
أكاد ألمح في عينيك نظرة استنكار وإنكار.
لست ألومك! فإن مثل هذا الاختبار لا يحياه إلاّ من تذوّقه حقًا! إنه أشبه ما يكون بالحبّ، فالمرء قد يسمع عن الحب ويقرأ عنه وقد يسخر من المحبين ويهزأ بتصرفاتهم، بل يصعب عليه أن يفسّر ردّات فعلهم ومنازعهم.
ولكن متى "وقع" ذلك المرء بالحب وقاسى من تفاعلاته، وتمتّع ببهجة العاطفة، عندئذٍ فقط يختبر معنى الحب ويدرك سرّ العلاقة الإنسانية الكامنة في مواقف المحبين. وعلى غرار هذا، فالاختبار المسيحي من حيث فرديّته وتفرّده هو صنو الحب، بل هو كونٌ متكاملٌ لأنه ينعكس أيضًا على علاقة المؤمن بالآخرين. وكلّما تعمّق الإيمان بالمسيح تفتّقت أبعاد جديدة وانقشعت الغيوم عن آفاق في رحابة المدى لا تطالها إلاّ عين الإيمان.
في مثل هذه الحال، مع المسيح، تتحوّل الغربة إلى موعد لقاء، ويتزيّا الوجود بثوب قشيب من البهجة والمحبّة والرضى.
هذا ما اختبرته يا صديقي، فأردت أن أنقله إليك من خلال الكلمة النابضة بدفقات مشاعري، كما أحسّها، خالية من أي زيف، لعلّك تدرك معي أن انتماءنا الحق هو مع يسوع، وأننا سنظلّ غرباء في الأرض إلى أن تتمّ سياحتنا ونلقي عصا الترحال في دار البقاء.
هل أنت مستعدّ؟