حزيران June 2014
سفر إشعياء، بين أسفار الكتاب المقدس، سفر غني بالنبوّات الواضحة عن المسيح. وهو سفر نبي عظيم عاش قبل ميلاد المسيح بسبعة قرون ونصف. وقد اكتُشِف لسفر إشعياء مخطوطة قديمة بين رقوق مغارة قمران في منتصف القرن الماضي عن طريق راعٍ عربي كان يسرح بأغنامه في سفح جبل يطل على البحر الميت من الشرق، وحصل أن رمى البدوي حجرًا نحو عنز بدى أنها تبعد عن القطيع ليردّها إليه، فوقع الحجر في حفرة وأحدث رنينًا استرعى انتباهه، فغامر ونزل في الحفرة ليستوضح الأمر، وإذ به أمام مغارة تحوي جرارًا وملفات رقوق قديمة، وكتابات لا يفهمها.
فعرض الأمر على من يفهم بالآثار، وتبين أنها تحوي سفر إشعياء، فخضعت لفحص علمي دقيق من خبراء في علم الآثار، وتبيَّن أن تاريخ كتابتها يعود إلى ما قبل الميلاد بمئة عام. ولدى مقارنتها مع السفر الموجود حاليًا، وُجدَ أنها تتطابق تمامًا مع ما في سفر إشعياء الموجود بين أيدينا اليوم. وهو ذاته السفر الموجود لدى اليهود في توراتهم العبرية. والمخطوطة محفوظة من حينها في أحد المتاحف البريطانية.
النبي إشعياء عاش قبل ميلاد المسيح بسبعة قرون ونصف، وهو أول من تنبأ عن معجزة ميلاد المسيح من عذراء، والكلمات هناك جاءت في منتهى الوضوح فقال في الأصحاح السابع والآية 14: "يعطيكم السيد نفسه آية، هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل".
فعندما يقول الوحي: "يعطيكم آية"، يعني بها يعطيكم معجزة، والمعجزة تمت في عذراء طهور لم يمسها رجل.
كما وتحدَّث إشعياء عن هوية مولود العذراء بكلمات لا تقبل التأويل، فقال في الأصحاح التاسع والآية السادسة: "لأنه يولد لنا ولد، ونُعطى ابنًا، وتكون الرياسة على كتفه، ويُدعى اسمه: عجيبًا، مشيرًا، إلهًا قديرًا، أبًا أبديًا، رئيس السلام، لنموّ رياسته وللسلام لا نهاية".
وتنبأ إشعياء في الأصحاح الثالث والخمسين بتفاصيل هي غاية في الدقة عن صلب المسيح، وجراحه، وآلامه، ودمه فدية عن كثيرين، حتى ليكاد القارئ هناك يلمس بأم عينيه ما أصاب المصلوب من جراحٍ وآلام.
فإشعياء بذلك يكون قد أنبأ عن المسيح بما يلي:
أولًا: سيولد من عذراء بمعجزة.
ثانيًا: إن المسيح هو الله القدير.
ثالثًا: إنه سيكفِّر عن خطايا البشرية بتقديم جسده فدية عن كثيرين.
عندما يقف البعض أمام حقائق كتابية من نبوات واضحة كهذه، يُذهلون أمام قوة بيانها، وبعض آخر يرفضها رغم وضوحها، وهذا من حقهم، لأن الإنسان مُخيَّر وليس مُسيَّرًا، إنما لكي يرسو الحائر على شاطئ الأمان، ما عليه إلا أن يرفع قلبه لله في صلاة ويقول: "يا رب، أنرْ قلبي لأدرك الحقيقة كما هي".
إنجيل متى، في الأصحاح الثاني عشر منه، يستذكر نبوءة لإشعياء عن المسيح، تقول: "هُوَذَا فَتَايَ الَّذِي اخْتَرْتُهُ، حَبِيبِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. أَضَعُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْبِرُ الأُمَمَ بِالْحَقِّ. لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ، وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي الشَّوَارِعِ صَوْتَهُ. قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ، حَتَّى يُخْرِجَ الْحَقَّ إِلَى النُّصْرَةِ. وَعَلَى اسْمِهِ يَكُونُ رَجَاءُ الأُمَمِ" (متى 14:12–20).
حسب نبوة إشعياء هذه، المسيح هو "رجاء الأمم". هذه النّبوءة نطق بها الوحي قبل ميلاد المسيح بقرون عديدة لتؤكِّد على ملامح رسالة السلام التي كان سيتّصف بها، وهذا ما يتطابق فعلًا مع صفاته عندما حلّ على الأرض: قصبةً مرضوضة لم يقصف، وفتيلة مدخنة لم يطفئ. بمعنى: لم يؤذِ أحدًا، ولم يتسبب بالإساءة لأحد، وهذه حقيقة! فالمسيح لم يحمل سيفًا، ولم يُجيِّش مقاتلين، ولا نادى بحرب. وعندما قاوموه وصلبوه، صلّى لأجل صالبيه طالبًا لهم الرحمة قائلًا: "يا أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لوقا 34:23).
قائد بهذه الصفات، ألا يُحبّ، ويُعْتزّ بالانتماء إليه، وترخص الدنيا في سبيل التمسك به والبقاء برفقته؟!
في قصيدة رائعة لأمير الشعراء أحمد شوقي تناغم فيها مع ما تميز به المسيح من سموٍ وملامح رحمةٍ وسلام فقال:
وُلِد الرفق يوم مولد عيسى
والمروءات والهدى والحياءُ
وسرت آية المسيح كما يسري
من الفجر في الوجود الضياءُ
لا وعيدٌ، لا صولةٌ لا انتقامُ
لا حسامٌ، لا غزوةٌ، لا دماءُ
ثم قال:
وأطاعته في الإله شيوخٌ
خُشَّعٌ خُضَّعٌ له ضعفاءُ
فهموا السرَّ حين ذاقوا وسهلٌ
أنْ ينالَ الحقائقَ الفُهماءُ
الشيوخ الذين يُشيرُ إليهم شوقي هم تلاميذ المسيح (الحواريون)، لكن ما يلفت الانتباه قوله عنهم:
فهموا السر حين ذاقوا وسهل
أن ينال الحقائقَ الفُهماءُ
فالسؤال هنا: ما هو السر الذي تكشَّفَ لهؤلاء؟ وما الذي ذاقوه ليُسهِّل عليهم كشف النقاب عن سرٍ غَمُضَ عن أذهان كثيرين؟
السر الأعظم المتعلق بالمسيح هو هُويَّته ومن تُرى يكون هو؟
أما التذوق الذي سَهَّلَ كشف النقاب عن أذهان تلاميذه وأتباعه من بعدهم، فهو حلاوة العشرة معه بالتقرّب إليه!
فأنت قد يلوح أمامك عن بُعد مشهدٌ ما، فلا تُميز حقيقته إلا بالاقتراب منه والتعامل معه عن قرب. فلكي تتعرف على المسيح، لا بد أن تتقرب منه شخصيًا، وأن تقرأ إنجيله بروية لتدرك حقيقته، وترتبط به في علاقة شخصية مباشرة، لا مجرد أن تسمع عنه أو تنتمي إليه مظهريًا بمجرد الادعاء بأنك مسيحي.
وأشار شوقي في قصيدته تلك، إلى مَنْ كفَّروا المسيحية فقال فيهم:
إنما يُنكرُ الدياناتِ قومٌ
هم بما يُنكرونهُ أشقياءُ
وفي قصيدة أخرى لأمير الشعراء خاطب بها القائد الإنجليزي أللنبي عند فتح القدس في هزيمة الأتراك خلال الثورة العربية الكبرى، يناشده بها أن يترفق بسكان المدينة وهو يدخلها، مُذكّرًا برسالة الصليب السمحة، وانتشار سلطان من اعتلى الصليب بين شعوب الأرض فقال:
يا فاتح القدس خلِّ السيفَ ناحيةً
ليس الصليبُ حديدًا كان بل خشبا
وقد رأيتَ إلى أين انتهتْ يدُهُ
وأنَّ سلطانَه قد جاوزَ القُطبا
علمتَ أنَّ وراءَ الضعفِ مقدرةً
وأنَّ للحقِّ لا للقوةِ الغلبا
ولا بد من التوضيح هنا أنْ حينما يتحدث شوقي بهذه العبارات الطيبة في صياغة شعرية جميلة، لا نقصد أن نقول أنه صار مسيحيًا، لكنّ رجلًا على مستوىً عالٍ من العلم والتحضّر والتهذيب كشوقي، ومثله أعداد لا تحصى من مسلمين أفاضل، حين يتحدثون عن الآخر، يتحدثون بأدبٍ واحترام بلا تشويهٍ أو تكفير. أمثال هؤلاء هم بناة المجتمع المتحضّر.
الرسول بولس في رسالته إلى أهل رومية، يخاطب اليهودَ المؤمنين بالمسيح الذين تحاملوا على من آمنوا بالمسيح من غير اليهود، ظنًا منهم أنَّ الإيمان بالمسيح محصور باليهود فقط دون غيرهم من الشعوب. فصحَّح معلوماتهم باقتباس مقاطع من نبوءةٍ لإشعياء تؤكد أن المسيح لكل الشعوب، وأنه "رجاء كل الأمم،" إذ يقول: "تهلَّلوا أيها الأمم مع شعبه، سبحوا الرب يا جميع الأمم، وامدحوه يا جميع الشعوب، سيكون أصل يسَّى والقائم ليسود على الأمم، عليه سيكون رجاء الأمم" (رومية 10:15–13؛ انظر إشعياء 10:11).
نشير هنا إلى أن يسَّى الوارد ذكره في هذه النبوءة هو أبو داود النبي، وقد مر خيط النبوة الذهبي من خلاله، ومن نسله جاء المسيح فقيل فيه: "يسوع ابن داود" ( كما في متى 41:22-46 ولوقا 35:18-43).
ثمّ إن المسيح نفسه أكَّد على أن رسالته للعالم أجمع، لكل الأمم وكافة الشعوب، فقال للتلاميذ في وداعه لهم قبل لحظة صعوده للسماء وهم ينظرون، قال: "اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها. من آمن واعتمد خلص ومن لم يؤمن يُدنْ" (مرقس 15:16).
وقال: "وتكونون لي شهودًا في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض" (أعمال 8:1). وهذا ما حصل. فعمّت رسالة الإنجيل الكرة الأرضية بكاملها، بحيث لا تخلو بقعة في الأرض ممن استناروا بنور الإنجيل من كل الشعوب والأمم والألسنة بلا استثناء. فالمسيح بحق رجاء كل الأمم، في البعد عنه قلاقل واضطراب، وفي القرب منه سلام وراحة واطمئنان.