كم تدفع؟ كان سؤالها الأول. ومن هناك انطلق النقاش بين هارفي وينستاين منتج فيلم 12، 12، 12 وأحد الأمراء العرب من الشرق الأوسط الذي أراد رؤية الممثلة كريستين ستيورات ولو للحظة، وخاطبه لهذه الغاية. وقال المنتج السينمائي هارفي وهو يروِّج لفيلمه ضمن فعاليات مهرجان تورنتو السينمائي حينذاك، بأنه نقل بدوره طلب الأمير هذا إلى كريستين ستيوارت التي أجابت على الطلب بـ : كم؟

عندها اتفق الطرفان هارفي ومعجب الممثلة الأمير القادم من الشرق بأنه إذا تبرع بخمسمئة ألف دولار لضحايا إعصار "ساندي" الذي ضرب الشاطئ الشرقي للولايات المتحدة، فإنَّها لسوف تقابله لمدة خمس عشرة دقيقة فقط. وبالفعل نقلت إحدى الصحف العربية هذا الخبر المثير مؤكدة بأنَّ النجمة قابلت الأمير المعجب بها لمدة خمس عشرة دقيقة مقابل نصف مليون دولار.

ويقع الكثيرون في هذا المنزلق كيما يغذُّوا شَبقَهُم هذا إما بهذه الممثلة أو بتلك. ونراهم يجرون وراء رغبتهم الجامحة التي لا تحظى بالاكتفاء قطّ. بل على العكس، يزدادون يومًا فيومًا في طلب المزيد. فالعين لا تشبعُ من النظر والقلب يشغفُ شَغفًا مستديمًا. ويستغل هؤلاء الأمراء وكل من هو في منصب كبير ومال وفير مراكزهم وسلطانهم وغناهم، كيما يصلوا إلى ما يريدون حتى ولو أدى بهم الأمر إلى دفع الملايين من أجل تحقيق ما يتوقون إليه ويحلُمون به قلبًا وقالبًا، غير عابئين بما شبُّوا عليه من عادات وتقاليد ومحرَّمات فُرضَتْ عليهم فرضًا بسبب الدين والتديُّن والحرام والحلال.

وفي خبرٍ آخر أيضًا ورد في الصحيفة العربية يحمل اسم بلد عربي من المغرب العربي يقول في عنوانه: ليبيا تحجب قرابة مليون موقع إباحي على الإنترنيت. يبوح الخبر "بأنَّ ليبيا أعلنت أنَّها حجبت قُرابة مليون موقع إباحي عن الظهور في شبكة الانترنيت المحلية. لافتة إلى أنَّ أربعين في المئة من مستخدِمي الشبكة كانوا يصِلون إلى هذه المواقع وفق ما كشف مسؤول برلماني ليبي. وقال رئيس لجنة الاتصالات والمواصلات في المؤتمر الوطني العام (البرلمان) على صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك، إنه : تمَّ بحمد الله وتوفيقه حجبُ قرابةَ المليون موقع إباحي عن الظهور في ليبيا. وأضاف أيضًا أنَّ الوصول إلى هذه المواقع كان يشكِّل ما بين ثلاثين إلى أربعين في المئة من استخدام الانترنيت في ليبيا. وفيما انتقد ناشطون حقوقيون الإقدامَ على هذه الخطوة، استغرب العديدُ منهم دخولَ هذا الكمِّ من مستخدمي الانترنيت لتصفُّح هذه المواقع رغمَ الخلفيّات الدينية للِّيبيّين."

نعم، لقد استغرب العديدون كما قال الخبر عن ليبيا دخول هذا العدد الكبير ما بين 30 – 40 % إلى هذه المواقع الإباحية. إذ على حدِّ علمِهم بأنَّ الشعب متديِّن، ومن غير المعقول أن ينجرَّ المتديِّنون إلى مثل هذه المواقع غير اللائقة. فالغربُ بعُرْفهم مشهور بالحرية إلى حدِّ التدهور والإباحية المكشوفة ولا شيءَ خفيٌّ عنده. أما أن يكون هذا الوضع السائد في مجتمعاتٍ يظهر فيها المتديِّنون بأبهى مظهر للحشمة والورع والإجلال، فهذا من غير المقبول ومن غير المعقول في بلاد المغرب العربي. لذا فالأمر صدر ومُنع الشعب من الوصول إلى هذه المواقع المشينة على الرغم من اعتراض ذوي حقوق الإنسان والمدافعين عن حريته. وكان لسان حال المسؤولين الليبيين هو: ينبغي التخلص من كل ما يشوب شكلنا، ويعيب مظهرنا، وفوق هذا كله يشوّه سمعتنا، حفاظًا على الصورة الورعة التي نظهر بها أمام أعين الناس، وأعين الغرب الذي فيه كل شيء مباح ومتاح.

لدينا نقيضان يا قارئي، غرب وشرق،  لكنَّ النتيجة واحدة. يبقى الإنسان سواء في الغرب حيث الحرية، وفي الشرق حيث مظاهر الحشمة والتستر والمحجوب والممنوع، يبقى الإنسان في داخله عبدًا لميوله ورغباته الجامحة التي تظهر إلى الخارج بشكلٍ أو بآخر. وإنَّه ليحضرني في هذه المناسبة قول الشاعر المعروف يصف العابد الزاهد حين رأى شبح امرأة فقط يعبر من أمامه فكتب قائلًا:

قلْ للمليحةِ بالخِمارِ الأسود

ماذا فعلتِ بزاهدٍ متعبِّد؟

وكالعادة نعم، راح يلوم المرأة المحجَّبةَ كليًّا لمجرد مرورها من أمامه. فلقد وقع في حبالها من وراء خمارها الأسود. إذن سواء رأى أم امتنع عن الرؤية، سواء شاهد أم لم يشاهد، وسواء تخيّل وهو قابع في بيته، أو حظي بها ومتَّع نظره بها، فالمشكلة موجودة لأنَّها هناك قابعة في أعماقه تمتلك كيانه وأحاسيسه وتسيطر على فكره وقلبه ووجدانه. نعم، وكلا النقيضين واقع تحت تأثير شهوة العيون وشهوة الجسد. هذه هي التي تنبع من الداخل من حنايا الضلوع، ثم تجد طريقها إلى الخارج بأشكال وطرق مختلفة.

ولقد وضع الرب يسوع المسيح إصبعه على الجرح حين بيّن للكتبة والفريسيين الذين اعترضوا على تلاميذه لأنهم يتعدون تقليد الشيوخ وإنهم لا يغسلون أيديهم حينما يأكلون خبزًا قائلاً: لقد أبطلتم وصية الله بسبب تقليدكم. يا مراؤون، حسنًا تنبأ عنكم إشعياء قائلاً: يقترب إليّ هذا الشعب بفمه ويكرمني بشفتيه وأما قلبه فمبتعد عني بعيدًا، وباطلاً يعبدونني وهم يعلّمون تعاليم هي وصايا الناس" (متى 7:15-9). ثم أوضح للجمع بأنَّ القلب هو مصدر كل شيء فقال: "لأن من القلب تخرج أفكار شريرة، قتل، زنى، فسق، سرقة، شهادة زور، تجديف. هذه هي التي تنجِّس الإنسان" (متى 19:15-20). وخاطب الجموع والتلاميذ مشيرًا إلى الكتبة والفريسيين اليهود فيما بعد محذِّرًا إياهم من أن يتبعوا أعمالهم أو يسلكوا مسلكهم حين قال: "إنهم يحزمون أحمالاً ثقيلة عسرة الحمل ويضعونها على أكتاف الناس وهم لا يريدون أن يحركوها بإصبعهم. وكل أعمالهم يعملونها لكي تنظرهم الناس...". ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تعشّرون النعنع والشبّث والكمّون وتركتم أثقل الناموس الحق والرحمة والإيمان. كان ينبغي أن تعملوا هذه  ولا تتركوا تلك. ويل لكم لأنكم تشبهون قبورًا مبيَّضة تظهر من خارج جميلة وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة. هكذا أنتم أيضًا من خارج تظهرون للناس أبرارًا ولكنكم من داخل مشحونون رياء وإثمًا" (متى 23).

لقد أدان الرب يسوع المسيح مظاهر التدين بكل أشكاله، وأصدر حكمه على كل مراءٍ ومخادع كائنًا من كان. وفضحَ كل من يدَّعي بحمل وصايا الله وشرائعه بينما قلبه منبَتٌ للشر والرياء والإثم. نعم، هو وحده الذي يعلم الإنسان وليس شيء خفيًا لديه.  لهذا أتى لكي ينتشل هذا الإنسان الخاطئ من بؤرة الفساد، ويفتديه برحمته، ويجزل عليه نعمته الغنية، ويحرره من سلطان الشر في داخله، ويطلقه حرًا من عبودية الخطية. وهذا بالضبط ما جعله الفريدَ بدعوته حين قال: "تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيليّ الأحمال وأنا أريحكم. احملوا نيري عليكم وتعلّموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم. لأن نيري هين وحملي خفيف" (متى 29:11-30).

نعم، أحمال الدين والتدين لأي طائفة كانت ولأي معتقد انتمت، هي عسِرة الحِمل، وثقيلة. أما نير المسيح فهو خفيف وهيِّن. لأنه ليس مبنيًا على ناموس وفرائض وطقوس وواجبات وقوانين تفرض علينا، وتثقل كاهلنا، بل هو مبنيٌّ على عمل النعمة المتفاضلة جدًا على الإنسان، النعمة التي أجزلها على كل من يؤمن به، وهكذا يحصل على الخلاص، والغفران الكامل عن خطاياه الماضية والحاضرة والمستقبلة. حمله خفيف لأنه وحده قام بعمل الفداء بدلًا عن البشرية كلها، وأكمله إلى التمام، وهكذا أرضى الله عنا، وغدا الإنسان المؤمن به مبررًّا، أي من دون خطية أمام الله. وصارت علاقة الإنسان هي مع الله الآب ومع الفادي المسيح بواسطة الروح القدس الساكن في الإنسان المؤمن.

نعم، اختبر الكثيرون هذه الحياة الجديدة في المسيح، ولا يزال حتى الآن. ورسالة المسيح ما فتئت تخلِّص وتنقذ كل من يقبلها في كل يوم. ويشهد عن هذا دون خوف أو خجل، كل من اختبر عمل النعمة في حياته، وكيف جدّدته وغيرت قلبه النجس، مُرْجِعًا كل الفضل ليسوع المسيح المخلص الفريد. وهذا ما شهد به أيضًا أحد الكتاب حين قال: في إحدى الكنائس وقف الراعي وقرأ هذه الآيات على مسمع الشعب: "لا تضلوا، لا زناة، ولا عبدة أوثان، ولا فاسقون، ولا مأبونون، ولا مضاجعو ذكور، ولا سارقون، ولا طماعون، ولا سكّيرون، ولا شتامون ولا خاطفون يرثون ملكوت الله. وهكذا كان أناس منكم، لكن اغتسلتم بل تقدّستم، بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا" (1كورنثوس 11:6). إبان انتهائه من القراءة سأل الناس: من يقدر أن يقول بأنه كان يعاني من واحدة أو أكثر من هذه الخطايا؟ من كان منكم كذلك فليقف. وحصلت المفاجأة الكبرى حين وقف أكثر الناس في الكنيسة.

نعم، هكذا كان أناس منكم، لكن اغتسلتم بل تقدَّستم بل تبررتم. بغض النظر إذن عن الخلفيات، والمجتمعات المتناقضة، والمعتقدات، فإنَّ الفرصة متاحة لأن نتغيَّر من الداخل، ونحظى بعلاقة وشركة حية مع الله خالقنا من الآن وإلى الأبد. وإيَّاك يا قارئي أن تكبِّل نفسك بقيودٍ تأسرك إلى الأبد. "فالنقيضان" نتيجتهما هي واحدة، وبالطبع ليست هي الحياة.

• السابق
• التالي