ورد في سفر إرميا 6:10-14
لاَ مِثْلَ لَكَ يَا رَبُّ! عَظِيمٌ أَنْتَ، وَعَظِيمٌ اسْمُكَ فِي الْجَبَرُوتِ. مَنْ لاَ يَخَافُكَ يَا مَلِكَ الشُّعُوبِ؟ لأَنَّهُ بِكَ يَلِيقُ. لأَنَّهُ فِي جَمِيعِ حُكَمَاءِ الشُّعُوبِ وَفِي كُلِّ مَمَالِكِهِمْ لَيْسَ مِثْلَكَ. بَلُدُوا وَحَمِقُوا مَعًا. أَدَبُ أَبَاطِيلَ هُوَ الْخَشَبُ. فِضَّةٌ مُطَرَّقَةٌ تُجْلَبُ مِنْ تَرْشِيشَ، وَذَهَبٌ مِنْ أُوفَازَ، صَنْعَةُ صَانِعٍ وَيَدَيْ صَائِغٍ. أَسْمَانْجُونِيٌّ وَأُرْجُوَانٌ لِبَاسُهَا. كُلُّهَا صَنْعَةُ حُكَمَاءَ. أَمَّا الرَّبُّ الإِلهُ فَحَقٌّ. هُوَ إِلهٌ حَيٌّ وَمَلِكٌ أَبَدِيٌّ.
مِنْ سُخْطِهِ تَرْتَعِدُ الأَرْضُ، وَلاَ تَطِيقُ الأُمَمُ غَضَبَهُ. هكَذَا تَقُولُونَ لَهُمْ: «الآلِهَةُ الَّتِي لَمْ تَصْنَعِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ تَبِيدُ مِنَ الأَرْضِ وَمِنْ تَحْتِ هذِهِ السَّمَاوَاتِ» صَانِعُ الأَرْضِ بِقُوَّتِهِ، مُؤَسِّسُ الْمَسْكُونَةِ بِحِكْمَتِهِ، وَبِفَهْمِهِ بَسَطَ السَّمَاوَاتِ. إِذَا أَعْطَى قَوْلاً تَكُونُ كَثْرَةُ مِيَاهٍ فِي السَّمَاوَاتِ، وَيُصْعِدُ السَّحَابَ مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ. صَنَعَ بُرُوقًا لِلْمَطَرِ، وَأَخْرَجَ الرِّيحَ مِنْ خَزَائِنِهِ. بَلُدَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ مَعْرِفَتِهِ. خَزِيَ كُلُّ صَائِغٍ مِنَ التِّمْثَالِ، لأَنَّ مَسْبُوكَهُ كَذِبٌ وَلاَ رُوحَ فِيهِ."
وانتقيت أيضًا طائفة من الآيات الأخرى التي تشير إلى إلوهيم، المتفرّد الذي لا مثيل له بين آلهة أمم العهد القديم، ورموز آلهة العهد الجديد، وأصنام العالم المتمدّن المعاصر التي انهمك في عبادتها الذين ضلّوا وراءها. ومن جملة هذه الآيات:
"وَبِرُّكَ إِلَى الْعَلْيَاءِ يَا اَللهُ، الَّذِي صَنَعْتَ الْعَظَائِمَ. يَا اَللهُ، مَنْ مِثْلُكَ؟" (مزمور 19:71)
"لاَ مِثْلَ لَكَ بَيْنَ الآلِهَةِ يَا رَبُّ، وَلاَ مِثْلَ أَعْمَالِكَ." (مزمور 8:86)
"يَا رَبُّ إِلهَ الْجُنُودِ، مَنْ مِثْلُكَ؟ قَوِيٌّ، رَبٌّ، وَحَقُّكَ مِنْ حَوْلِكَ." (مزمور 8:89)
"لأَنَّهُ مَنْ مِثْلِي؟ وَمَنْ يُحَاكِمُنِي؟ وَمَنْ هُوَ الرَّاعِي الَّذِي يَقِفُ أَمَامِي؟"
(إرميا 19:49 و44:50)
عندما نتمعَّن في هذه الآيات نقف:
أولاً: مذهولين أمام الرؤى التي يصوّرها لنا الأنبياء ولا سيما حين نقارنها بآلهة الأمم وأوثانهم، لا فرق في ذلك إن كانت آلهة مادية أو معنوية. والواقع ما أَلْمع إليه الأنبياء من حقائق يكشف عن طبيعة تلك الآلهة ومدى ضلال الذين عبدوها وزاغوا وراءها.
وثانيًا: إن الدراسات التاريخية للميثولوجيات الدينية ولا سيما في الشرق الأدنى وبالأخص في أرض مصر وأرض كنعان والهلال الخصيب، وأساطير عبادات هذه الآلهة تجعل المرء يتساءل: كيف اختلط على عقول تلك الشعوب فعبدوا آلهة من صنع أيديهم، ونصبوها في هياكلهم ومرتفعاتهم؛ إن أكثر هذه الآلهة كانت تختلف مكانتها وأهميتها على مرّ العصور، وحلّت محلّها آلهة جديدة بفضل الفتوحات والتطورات السياسية والاقتصادية وسواها من الأسباب الأخرى.
ونلاحظ في هذه الدراسات الميثولوجية أن هناك صنفان من الآلهة هما: آلهة الخير وآلهة الشر. فالإله [أميت] مثلاً، والذي كان يُدعى أيضًا [أموت أو أحيمات] هوجني ذو رأس كركدن وقفى يماثل قفى الفهد، وجذع جاموس البحر؛ ومن وظائفه افتراس الأموات، ومساعدة [أنوبيس] إله الأموات في يوم الدينونة بالتهام قلوب الذين يخفقون في اجتياز امتحان الميزان. ثم هناك إله الشمس آمون، وهورس، وأوزيرس، ورَع. والواقع أن آلهة المصريين كانت تزيد عن مئةٍ وأربع وعشرين إلهًا.
وكذلك الأمر عند شعوب الهلال الخصيب، والأشوريين والبابليين، فقد زادت في مجموعها عن أربعين إلهًا وآلهة ومن جملتها الإله مردوخ، وأشور، وأشمون، وآنوا. ومن آلهة الكنعانيين عنات، وعشيرا، وعنّار، والبعل، وبعل هداد، وبعل همّون، وداجون، وملكارت، وإيل، وغيرهم من الآلهة التي لعبت دورًا كبيرًا في عبادات هذه الأمم، ولكنها جميعها انقرضت وبادت لأن صانعها الإنسان.
وهنا يجدر بنا أن نقوم بمقارنة موجزة بين هذه الآلهة المزيفة وبين الإله الحق الواحد الذي لا مثيل له:
وأول ظاهرة نراها هي في الفارق بين تعدد الآلهة، والإيمان بوجود إله واحد هو خالق السماوات والأرض. وهذا الإله الواحد لا منافس له، فهو المتولي شؤون خليقته بطريقة مباشرة، وإرادته فوق كل إرادة. بينما نجد في تلك الميثولوجيات تعدد الآلهة الذين ابتدعهم خيال الإنسان ليسدوا حاجات الإنسان.
ثانيًا: كان من المتعذِّر الوصول إلى تلك الآلهة، ولم يكن في وسع أحد الاتصال بها سوى حكام الشعب وكهنتهم الذين تمتعوا بامتياز الاتصال بآلهتهم الرئيسيين، على غير ما نراه في حياة آباء العهد القديم وعشائرهم فكانوا على اتصال دائم بإلوهيم، يظهر للجميع في عمود سحاب في النهار، وعمود نار في الليل. بل كثيرًا ما كان يخاطبهم بصورة ملحوظة كما حدث في حواره مع إبراهيم بشأن مدينتي سدوم وعمورة، أو في حديثه مع موسى في جبل سيناء. كذلك أعلن عن وجوده لعامة شعب إسرائيل عندما تمردوا عليه. لهذا لم تقتصر تلك العلاقة على حكام الشعب وكهنته فقط. ومنذ العهد الجديد شرع هذا الإله السرمدي يتعامل مع الإنسان بطريقة مباشرة لم يسبق لها مثيل في التاريخ البشري، فقد أرسل الآب السماوي ابنه الوحيد يسوع المسيح آخذًا صورة عبد وصائرًا في شبه الناس لكي يكون مجرّبًا في كل شيء كالإنسان، ما عدا الخطيئة، ويعلن للإنسانية أبعاد محبته الإلهية التي لم يعرفها أحد من قبل والتي تجسدت في موت المسيح على الصليب لفداء الخاطئ وتحريره من عبودية إبليس. هذه العلاقة لم تقتصر على حكام الشعب وكهنته فقط بل كان متوافرة للشعب أيضًا. فالله الواحد هذا كان إله الأمة بأسرها. إن مثل هذه العلاقة لم تكن قائمة بين الأمم الوثنية وآلهتهم لأن آلهتهم لم تكن آلهة حية تستطيع أن تتجاوب مع حاجات الإنسان وأشواقه.
ثالثًا: كان هناك أيضًا فارق في كيفية رؤية الشعوب لآلهتها، ورؤية المؤمنين للإله الواحد. فالأمم الوثنية كانت تقيم لآلهتها أصنامًا رمزية مصنوعة – كما رأينا أعلاه – من خشب أو من معادن ثمينة أو فخّار أو حجارة، بعضها على هيئة أجسام إنسانية ورؤوس حيوانات، والبعض الآخر على صورة حيوانات. ففي مصر كان الصقر هو رمز للإله "هورس"، و"توت" بأبي منجل. وعلى وجه الإجمال كان المصريون يجسّدون آلهتهم بأشكال إنسانية أو حيوانية.
أما في منطقة الهلال الخصيب فقد كانت رموز الآلهة تبدو على صور كائنات حيوانية، فقد رُمز إلى [فازيا] حارس الحكمة والمياه الجارية بسمكة، والإله "نرجال" إله الجحيم بصولجان ذي رأس أسد. ولم تماثل الآلهة الوثنية صور الكائنات البشرية فقط بل كانت أيضًا تجسّد أفضل وأسوأ ما في السلوك الإنساني من خير وشرّ، كما كانت تلك الآلهة ذات طبيعة متقلّبة فتتحوّل أحيانًا من آلهة غير مؤذية إلى آلهة لئيمة. كما كانت في ظروف مختلفة تنهمك في السكر، وتقيم احتفالات صاخبة غافلة عن أحوال رعاياها في الأرض على نقيض الإله الواحد الذي عينه لا تغفل ولا تنام بل يرعى عباده بفائق محبته ورحمته وعنايته.
رابعًا: كثيرًا ما كانت تنشب حروب بين الآلهة الوثنية كما نراها بصورة جلية في أساطير اليونان والرومان وآلهة الشرق الأدنى، وهو أمرٌ يتناقض مع مفهوم الإله الواحد في العهدين القديم والجديد، إذ أن إله الكتاب المقدس لا يشرك معه أحدًا في قوته ونفوذه وسلطانه لأنه هو خالق كل شيء، كما يتعذّر إقامة تمثال أو نحتَ رمزٍ له لا فرق في ذلك إن كانت نحوتًا حيوانية أو إنسانية، لأن الله هو روح، لا تُرسم له صورة، ولا نجد له تمثالاً لا في السماء ولا على الأرض. ومع ذلك، فإن المؤمنين به في مقدورهم مخاطبته مباشرة وليس عن طريق صنم، ولا يرون فيه قوة غاشمة لا يكترث بعباده أو يتغافل عنهم، وما غضبه أو عقابه للأفراد أو الجماعات سوى إعراب عن عدله إذ يكون شرّ الإنسان قد بلغ عنان السماء.
خامسًا وأخيرًا: لقد بادت الأصنام القديمة، وانقرضت الآلهة الوثنية، ولكن الإنسان المعاصر قد صاغ لنفسه آلهة جديدة يعبدها، ويقدسها، كمثل شهوات الجسد، تعظّم المعيشة، الشهرة، المال، المطامح الشريرة، الطمع، وجعلها أرباب حياته يقدسها، ويكرّس وجوده في خدمتها. إن هذه الآلهة أصبحت أشدّ خطرًا على الإنسانية من آلهة الوثنيين لأنها تتغلغل في بنية الحياة البشرية وتنخر فيها، والإنسان – للأسف – غافل عنها، وبغتة يفاجئه الواقع الأبدي إذ يقف وجهًا لوجه أمام الإله الحقيقي الذي تهرّب منه، بل أنكر وجوده، ولات ساعة مندم.
حقًا يا رب، لا مثيل لك بين الآلهة ولا مثل أعمالك!