كاتب رسالة يوحنا الأولى، هو يوحنا أحد رسل المسيح، وهو التلميذ الذي كان يسوع يحبه (يوحنا 23:13-25)، وقد كتب يوحنا البشارة المعروفة باسمه، كما كتب ثلاث رسائل، وكتب سفر رؤيا يوحنا وهو السفر النبوي الذي تكلم فيه بلغة مجازية عمّا سيحدث قبل عودة المسيح وبعد عودته. وتذكر رسالة يوحنا الأولى عدة قضايا هي موضوع حديثنا في هذه الرسالة.
القضية الأولى: قضية الغناطسة
في زمان يوحنا ظهرت البدعة المعروفة باسم بدعة الغناطسة (Gnosticism)، وتتلخص في أن الغناطسة اعتقدوا بأن المادة شر، ولذا فلا يمكن أن المسيح تجسد في جسد مادي، وأن الذي رآه التلاميذ كان مجرد شبح، وقد كتب يوحنا رسالته الأولى مفندًا هذه البدعة ومؤكدًا أن الذي ظهر للتلاميذ وعاش معهم لم يكن شبحًا بل كان ابن الله منذ الأزل وتجسّد في الزمان آخذًا صورة عبد وصائرًا في شبه الناس، ووُجد في الهيئة كإنسان. وقد بدأ يوحنا رسالته الأولى بالكلمات: "اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ. فَإِنَّ الْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ بِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الآبِ وَأُظْهِرَتْ لَنَا. الَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ، لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ أَيْضًا شَرِكَةٌ مَعَنَا. وَأَمَّا شَرِكَتُنَا نَحْنُ فَهِيَ مَعَ الآبِ وَمَعَ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. وَنَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هذَا لِكَيْ يَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً." (1يوحنا 1:1-4)
بهذه الكلمات المنيرة رد يوحنا على بدعة الغناطسة، وأكد بما لا يدع مجالاً للشك أن المسيح هو ابن الله الأزلي، الذي تجسد في الزمان. وأن الإيمان بأن المسيح ابن الله الذي تجسد في الزمان ومات على الصليب، ودمه يطهر المؤمنين من كل خطية هو أساس الشركة بين المؤمنين وينبوع فرحهم.
القضية الثانية: هي قضية الشفاعة
في الأصحاح الثاني تكلم يوحنا عن قضية الشفاعة فقال: "يَا أَوْلاَدِي، أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هذَا لِكَيْ لاَ تُخْطِئُوا. وَإِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ الآبِ، يَسُوعُ الْمَسِيحُ الْبَارُّ. وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ الْعَالَمِ أَيْضًا." (1يوحنا 1:2-2)
المسيح هو الشفيع الوحيد في المؤمنين الذين يخطئون، بمعنى أنه يطلب لهم الغفران من الآب على أساس أنه بموته على الصليب ستر خطاياهم، ويطلب لهم المعونة منه حتى لا يخطئوا. والمسيح هو الشفيع الوحيد عند الآب، لأنه بار في ذاته، ولأنه حي في كل حين كما نقرأ عنه في الرسالة إلى العبرانيين. "فَمِنْ ثَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ أَيْضًا إِلَى التَّمَامِ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ بِهِ إِلَى اللهِ، إِذْ هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ." (عبرانيين 25:7) فلا أحد غير المسيح حي في كل حين، ولذلك يقدر أن يشفع في المؤمنين، وطلب الشفاعة من أحد من البشر يجلب اللعنة على من يطلب الشفاعة منهم. "هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: مَلْعُونٌ الرَّجُلُ الَّذِي يَتَّكِلُ عَلَى الإِنْسَانِ، وَيَجْعَلُ الْبَشَرَ ذِرَاعَهُ، وَعَنِ الرَّبِّ يَحِيدُ قَلْبُهُ." (إرميا 5:17) لنذكر دائمًا أن المسيح هو الشفيع الوحيد عند الآب، وأن القديسين الذين رحلوا عن عالمنا انتهت علاقتهم بكل ما هو تحت الشمس. "لأَنَّ الأَحْيَاءَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ سَيَمُوتُونَ، أَمَّا الْمَوْتَى فَلاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا، وَلَيْسَ لَهُمْ أَجْرٌ بَعْدُ لأَنَّ ذِكْرَهُمْ نُسِيَ. وَمَحَبَّتُهُمْ وَبُغْضَتُهُمْ وَحَسَدُهُمْ هَلَكَتْ مُنْذُ زَمَانٍ، وَلاَ نَصِيبَ لَهُمْ بَعْدُ إِلَى الأَبَدِ، فِي كُلِّ مَا عُمِلَ تَحْتَ الشَّمْسِ." (جامعة 5:9-6)
القضية الثالثة: هي قضية الديانتان
في الأصحاح الثالث من رسالة يوحنا الأولى، تكلم يوحنا عن الديانتين، ديانة قايين وديانة هابيل، فقال: "لأَنَّ هذَا هُوَ الْخَبَرُ الَّذِي سَمِعْتُمُوهُ مِنَ الْبَدْءِ: أَنْ يُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا. لَيْسَ كَمَا كَانَ قَايِينُ مِنَ الشِّرِّيرِ وَذَبَحَ أَخَاهُ. وَلِمَاذَا ذَبَحَهُ؟ لأَنَّ أَعْمَالَهُ كَانَتْ شِرِّيرَةً، وَأَعْمَالَ أَخِيهِ بَارَّةٌ." (1يوحنا 11:3-12) لقد آمن هابيل بأن الخلاص بالدم، وبأنه بدون سفك دم لا تحصل مغفرة، وسفك الدم هو أجرة الخطية، لأن أجرة الخطية موت.
أما الأعمال التي يظن عاملوها أنها أعمال صالحة، فهي كثوب مهلهل لا يستر عريًا وصفها النبي إشعياء بكلماته: "وَقَدْ صِرْنَا كُلُّنَا كَنَجِسٍ، وَكَثَوْبِ عِدَّةٍ كُلُّ أَعْمَالِ بِرِّنَا." (إشعياء 6:64)
الخلاص بالنعمة، ويخطئ كثيرًا من يحاول أن يمزج النعمة بالأعمال "لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَال كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ." (أفسس 8:2-9) وإذا سألت الذين يتكلون على أعمالهم: ما مصيرهم بعد الموت؟ فستجد ردهم أنهم لا يعرفون هذا المصير، بينما الذين خلصوا بالنعمة فعندهم اليقين الكامل بأن مصيرهم الحياة الأبدية.
القضية الرابعة: هي قضية امتحان الأرواح
بدأ يوحنا الأصحاح الرابع بالكلمات: "أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لاَ تُصَدِّقُوا كُلَّ رُوحٍ، بَلِ امْتَحِنُوا الأَرْوَاحَ: هَلْ هِيَ مِنَ اللهِ؟ لأَنَّ أَنْبِيَاءَ كَذَبَةً كَثِيرِينَ قَدْ خَرَجُوا إِلَى الْعَالَمِ. بِهذَا تَعْرِفُونَ رُوحَ اللهِ: كُلُّ رُوحٍ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ فَهُوَ مِنَ اللهِ، وَكُلُّ رُوحٍ لاَ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ، فَلَيْسَ مِنَ اللهِ. وَهذَا هُوَ رُوحُ ضِدِّ الْمَسِيحِ الَّذِي سَمِعْتُمْ أَنَّهُ يَأْتِي، وَالآنَ هُوَ فِي الْعَالَمِ... مِنْ هذَا نَعْرِفُ رُوحَ الْحَقِّ وَرُوحَ الضَّلاَلِ." (1يوحنا 1:4-6)
ويربط يوحنا الاعتراف بتجسد المسيح في الزمان بحياة المؤمنين العملية، فيقول: "أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لِنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا، لأَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ مِنَ اللهِ، وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ اللهِ وَيَعْرِفُ اللهَ. وَمَنْ لاَ يُحِبُّ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ، لأَنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ." (1يوحنا 7:4-8) ويستطرد يوحنا في عدد 9 فيعلن كيف أُظهرت محبة الله فينا فيقول: "بِهذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ اللهِ فِينَا: أَنَّ اللهَ قَدْ أَرْسَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ إِلَى الْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ. فِي هذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا." ثم يطالب يوحنا المؤمنين في عدد 11 بأن يسلكوا على مثال محبة الله فيقول: "أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، إِنْ كَانَ اللهُ قَدْ أَحَبَّنَا هكَذَا، يَنْبَغِي لَنَا أَيْضًا أَنْ يُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا."
وتتدفق المحبة في كلمات يوحنا بصورة تدعو للتأمل، ونسمع موسيقاها تعزف فتملأ القلب بالحب: "لاَ خَوْفَ فِي الْمَحَبَّةِ، بَلِ الْمَحَبَّةُ الْكَامِلَةُ تَطْرَحُ الْخَوْفَ إِلَى خَارِجٍ لأَنَّ الْخَوْفَ لَهُ عَذَابٌ. وَأَمَّا مَنْ خَافَ فَلَمْ يَتَكَمَّلْ فِي الْمَحَبَّةِ. نَحْنُ نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلاً. إِنْ قَالَ أَحَدٌ: «إِنِّي أُحِبُّ اللهَ» وَأَبْغَضَ أَخَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ. لأَنَّ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ الَّذِي أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ الَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ؟ وَلَنَا هذِهِ الْوَصِيَّةُ مِنْهُ: أَنَّ مَنْ يُحِبُّ اللهَ يُحِبُّ أَخَاهُ أَيْضًا." (1يوحنا 18:4-21)
القضية الخامسة هي قضية الحفظ من الأصنام
وعن هذه القضية قال يوحنا: "أَيُّهَا الأَوْلاَدُ احْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الأَصْنَامِ." (1يوحنا 21:5) وهذه الكلمات توقف المؤمنين موقف الحذر من عبادة الأصنام. ويشرح المصباح المنير الفرق بين الوثن والصنم فيقول: الوثن هو المتخذ من حجر أو خشب، أما الصنم ما يُتّخذ من خشب أو نحاس أو فضة. ولما ذهب بولس إلى أثينا رأى المدينة مملوءة أصنامًا، وفي الوليمة التي صنعها الملك بيلشاصر "كَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيُسَبِّحُونَ آلِهَةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ وَالْخَشَبِ وَالْحَجَرِ." (دانيآل 4:5) فالأصنام آلهة من صناعة الإنسان، وهناك خطر من عبادة الذهب والفضة، وعبادة ما نمتلكه من عقارات مبنية من الحديد والخشب والحجر. ويوحنا يقول للمؤمنين: "أيها الأولاد احفظوا أنفسكم من الأصنام." ويحزن القديسون إذ يرون أن أولئك الذين خرجوا من الفقر وصاروا أغنياء جعلوا من ثروتهم وما يمتلكون من رصيد في البنوك، أو من بيوت وأفدنة وعقارات أصنامًا شغلت كل وقتهم، فصارت ديانتهم ديانة إسمية خالية من المحبة الحقيقية لإخوتهم ومن الشعور بحاجة المؤمنين الذين حولهم. وقد كتب بولس الرسول في رسالته الأولى إلى تيموثاوس الكلمات: "وَأَمَّا الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَكُونُوا أَغْنِيَاءَ، فَيَسْقُطُونَ فِي تَجْرِبَةٍ وَفَخٍّ وَشَهَوَاتٍ كَثِيرَةٍ غَبِيَّةٍ وَمُضِرَّةٍ، تُغَرِّقُ النَّاسَ فِي الْعَطَبِ وَالْهَلاَكِ. لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي إِذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ. وَأَمَّا أَنْتَ يَا إِنْسَانَ اللهِ فَاهْرُبْ مِنْ هذَا، وَاتْبَعِ الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَالإِيمَانَ وَالْمَحَبَّةَ وَالصَّبْرَ وَالْوَدَاعَةَ." (1تيموثاوس 9:6-11)
ومن الفخاخ التي يسقط فيها من يحب المال، فخّ البخل، وليس هناك أشرّ من البخل الذي يجعل صاحبه مقتّرًا حتى على نفسه، يضع الدولار على الدولار ولا يشبع من دخل.
والفخ الثاني الذي يسقط فيه من يحب المال هو فخ الكبرياء.
والفخ الثالث هو فخ العزلة والتعالي على الآخرين، وكلها أمراض تصيب العقل وتنتهي بدمار شخصية محب المال، وبالنظر إليه نظرة الاحتقار، وعن هذا نقرأ في سفر الأمثال: «قبل الكسر الكبرياء، وقبل السقوط تشامخ الروح." (أمثال 18:16)
ومع الكبرياء الميل إلى العزلة. ويقول سفر الأمثال: "المعتزل يطلب شهوته. بكل مشورة يغتاظ." (أمثال 1:18) فالمعتزل كل همه إشباع رغباته ولا يسمع مشورة أحد.
وقبل أن أختتم هذه الرسالة أطلب من القارئ أن يجمع الآيات التي تتحدث عن محبة الإخوة في رسالة يوحنا الأولى ويحفظها عن ظهر قلب، ويعمل على ممارستها عمليًا بنعمة الله.
إن رسالة يوحنا الأولى غنية بالقضايا:
قضية الغناطسة الذين أنكروا تجسد المسيح واعتقدوا أنه مجرد شبح.
قضية الشفاعة التي يجهلها الكثيرون من رواد الكنائس، فيطلبون الشفاعة من غير المسيح وهم بتصرفهم هذا يؤلهون القديسين الذين ماتوا، إذ يفترضون أنهم موجودون في كل مكان.
قضية الديانتان، ديانة قايين وديانة هابيل. ديانة الموت وديانة الحياة الأبدية.
قضية امتحان الأرواح وهي قضية في غاية الحساسية. فهي تدفعنا لمعرفة مصدر ما يقوله الآخرون مدّعين أنه إعلان الله لهم.
قضية الحفظ من الأصنام وهي خطية وقع فيها الكثيرون. فعبدوا ما يمتلكون ونسوا الله الذي خلقهم.
وجدير بالقارئ المحب للحق أن يفكّر في هذه القضايا وأن يرفض كل ما يخالف كلمة الله المعلنة في الكتاب المقدس. فالكتاب المقدس والكتاب المقدس وحده هو الدستور الوحيد المُعطى من الله للناس.