"لا تنطق باسم الرب إلهك باطلًا، لأن الرب لا يبرئ من نطق باسمه باطلًا." (خروج 7:20)
لاحظنا فيما تقدم مبدأين أساسيين فيما تنادي به الوصيتان الأولى والثانية، وهما:
أولًا: إن الله واحد لا إله سواه. وثانيًا: إنّه وحده يستحق السجود والعبادة.
أما الوصية الثالثة فهي مكمِّلة لما سبقها، فتدعونا للتهيُّب في ذكر اسم الجلالة، فلا يجوز النطق باسمه باستهانة، أو عدم مبالاة، أو باتخاذ اسمه كغطاءٍ للكذب. لدينا صور كثيرة لظواهر متفشية في مجتمعاتنا الشرقية. فالتاجر يحلف والشاري يحلف. العامل يحلف، ورئيس العمل يحلف. والكل يدّعي الحقيقة، وأصبح الصدق والكذب متداخلين معًا، وأنت لا تدري أيهما تصدِّق! وصار اسمُ الله في كثيرٍ من الحالات مجرَّد غطاءٍ لستر عيبٍ أو تمرير أكذوبة. وفقد القَسَمُ الغايةَ التي من أجلها وُجِد.
لم يكن القَسَمُ محرَّمًا في التوراة قبل مجيء المسيح، فالوصية الثالثة تنهي فقط عن استعمال اسم الله باطلًا، وهذا يعني القسَم الكاذب أو النطق باسم الله بدون تهيُّب، أو بلغوٍ أو هكذا على سبيل العادة؛ الشيء الذي يُمارَس في بلداننا على نطاق واسع. أما ما نادى به المسيح في عظته على الجبل فيلغي القسَم نهائيًا، ويدعونا إلى أن نكون صادقين فيما ننطق به دون أن نقسم لصدق ما نقوله أو نصرح به.
اسم الله اسم مهوب، والتلفّظ به ليس للتسلية، ولا لسدِّ فراغ في جملة يتلفظ بها المتحدث لينتقل إلى غيرها! هذا ما يحصل مع الكثيرين، وفي ذلك استهانة باسمه. وأحيانًا يُستخدم اسم الله كغطاءٍ لخللٍ في أمانة المتحدث، فيلجأ لذكر اسم الله دعمًا لأقواله، فيُشهِد الله على كلامه خداعًا لسامعيه وهو كاذب، مما يعطي الدلالة على غياب الصدق وعدم الدقة فيما يتحدَّث به.
يُلاحَظ أن أبناء الغرب لا يحلفون إلا في المحكمة، وغالبًا لا يستعملون اسم الله إلا للضرورة القصوى كأن يكون الحديث في بحوث دينية. وعندما يُسأل أحدهم عن أمر ما، يجيب بالحدود التي يعرفها، وإلا فيعتذر دون أن يلزم نفسه بقسم.
فكثرة استعمال القسم يرسم علامة سؤال حول صدق المقولة المطروحة. والذين يقسمون كثيرًا (ولا نعمِّمُ هنا) يكذبون كثيرًا، والقسَم يشكل واجهة الدفاع عن صاحبه.
يقول البعض أنْ ما زال للقسَم حاجة ملحة، ومنها عندما يراد الفصل في خصومةٍ حادةٍ بين طرفين متنازعين وتكون الحقيقة بينهما ضائعة. فالقسم عندما يؤدّى أمام هيئة قضائية، قد يشكل عنصرًا ضاغطًا للإقرار بالحقيقة. وهذا ما جاء في الرسالة إلى العبرانيين 16:6 "فإنّ الناس يقسمون بالأعظم، ونهاية كل مشاجرة عندهم لأجل التثبيت هي القسم."
وهناك أسباب أخرى تدعو للقسَم: فالطبيب يقسم أمام هيئة رسمية يتعهَّد به أن يقوم بخدمة مرضاه بأمانة. وكذلك الجندي، والضابط، ورجل الأمن، والموظف، والوزير، والملك، ورئيس الجمهورية، وغيرهم... فهؤلاء مؤتمنون على خدمة المواطنين، والقسم يشكِّل نوعًا من التهيب لدى ضمير الناطق به ويُذكّر بالمسؤولية.
أما أن يُباحَ القسَمُ بلغوٍ، أو أن يتردَّد اسم الله على ألسنة الناس بلا تهيُّب، فهذا ما تحذّر منه الوصية إذ تقول: "لا تنطق باسم الله باطلًا." لا تنطق به لغوًا. لا تنطق به كاذبًا. لا تستخفّ بذكر اسم الله دون مبالاة!
ولعلَّ أبسط توضيح لأخطاء الناس في استعمال القسَم أن يقسم فلان من الناس لصديقه أنه اشترى دابةً لحقله بثمنٍ كذا وكذا. قسَمٌ كهذا فيه استخفاف في ذكر اسم الجلالة بلا مبرِّر!
والبعض اعتاد أن يبدأ كلامه بالحلف باسم الله دون أن يسأله أحد، أو يشكك في كلامه ليستوجب الحلف! بل ومن المؤسف حقًا أنْ تسمع رجل دين مسيحي يحلف، وكأنه لم يقرأ يومًا أن المسيح يدعو شعبه إلى أن لا يحلفوا البتة لا بالسماء، ولا بالأرض، ولا بقسم آخر! ويأتي التبرير بأن ذلك مجرَّد لغوٍ، فهو هناك يعطي لنفسه رخصةً للاستهانة بتعاليم رب المجد. وكأن الرب يقول كلامًا لا يعنيه.
وكأني هنا أسمع همسًا يقول: الوصية الثالثة من الوصايا العشر تخصّ الشريعة الموسوية، ولا تعنينا! وأرد على هذا بالقول: بل تعنينا أكثر من غيرنا كمسيحيين، فالمسيح شدد عليها وأعطاها بُعْدًا أكثر عُمقًا كما سنرى بعد قليل. فكون الوصية تنتسب إلى الشريعة الموسوية لا يعني أنها أُبطلت، بل الأصح أنها ما زالت قائمة ولها جذور في عمق العقيدة المسيحية، لأن المسيح لم يأتِ لينقض ناموس موسى بل ليكمِّل، وهو بنى على قاعدة الشريعة الموسوية، فأصبحت تلك بمثابة البنية التحتية لشريعة المسيح.
سلَّط المسيح الضوءَ قويًا على منطق الوصية الثالثة في سياق عظته على الجبل وأعطاها إيضاحًا جديدًا سما بها إلى مرتبة كان يصعب على أبناء العهد القديم أن يحتملوه، فقال:
"سمعتم أنه قيل للقدماء: [لا تحنث، بل أوفِ للرب أقسامك.] وأما أنا فأقول لكم: [لا تحلفوا البتة، لا بالسماء لأنها كرسي الله، ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه، ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك العظيم. ولا تحلف برأسك، لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة واحدة بيضاء أو سوداء. بل ليكن كلامكم: نعم نعم، لا لا. وما زاد على ذلك فهو من الشرير.]" (متى 33:5-37)
ثم إن المسيح بقوله "سمعتم أنه قيل للقدماء (من أهل التوراة) ... أما أنا فأقول..." يؤكِّد على أنه هو ربُّ الشريعة ومعطيها. وأنه في تعامله مع الشعب القديم كان قد أعطاهم جرعة من النور بالقدر الذي كانوا يتحمّلونه، وعندما حلّ هو رب المجد على الأرض متجسدًا بهيئة إنسان جاء الوقت ليعطي جرعة أعلى من النور، وبه رفع شعبه إلى مستوىً روحيٍّ سامٍ لم يصل إليه أبناء العهد القديم، فالنور الذي عاش بظلاله الشعب القديم كان أقل إضاءة من نور العهد الجديد، بانتظار مجيء المسيح الموصوف في نبوة ملاخي 2:4 بأنَّه: "شمس البر والشفاء في أجنحتها."
فأنت عندما تتحدث لابنك في حداثته، تستعمل لغة مبسطة يقدر على استيعابها وتحمُّل ما توصي به، وبعد أن يكبر تكلمه بكلام أعمق يكون له القدرة على الاستجابة له بفهمٍ.
من ميزات النور القويّ أنه يُعطي دقة في التمييز بين الخطأ والصواب، ويعطي قدرة أفضل في تخطّي العثرات. وبقدر النور المعطى تتعاظم المسؤولية.
المستوى الأدبي لأبناء العهد القديم (التوراة) مختلف عن المستوى الأدبي لأبناء العهد الجديد. لم يكن لدى أبناء التوراة القدرة على أن يتماشوا مع تعاليم ترقى إلى مستوى تعاليم المسيح، لأن جرعة النور المتاحة في عهدهم كانت أقل مما ناله أبناء العهد الجديد.
أوضّح هذا بمثال مبسَّط: هناك فرق بين سائق المركبة الذي عند تقاطع الطرقات لا يخالف قانون إشارة الضوء الأحمر لئلا يراه شرطي المرور، وبين من لا يفعل ذلك حتى في غياب الشرطي، لأنه ينتمي لوطنه ويحترم أنظمة بلده. فابن العهد القديم، كانت الشريعة بالنسبة له كالشرطي الممسك بالقلم ودفتر المخالفات ليُنزل به العقاب. بينما المؤمن المسيحي الحقيقي، الذي يعيش في عهد النعمة، ينشط الروح القدس في قلبه انتماءه لشريعة ربه، فهو ينتمي لملك الملوك ورب الأرباب، وقد يخطئ في تصرف ما ويندم ويقر بذنبه، فالعصمة لله وحده، لكنه لا يستطيع أن يستمر في معزل عن أجواء نعمة الله.
أخطأ بطرس وندم، وأخطأ توما وندم، وأخطأ يوحنا (كما أسلفنا بسجوده أمام الملاك) وسجَّل الواقعة على نفسه اعترافًا بخطئه.
ولنتذكر هنا أن في عهد التوراة كان الله يكلم الشعب من خلال الأنبياء، أما في عهد الإنجيل فجاءنا الله بنفسه وتجسَّد بيننا وكلَّمنا. في هذا تقول الرسالة إلى العبرانيين: "الله، بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديمًا، بأنواع وطرق كثيرة، كلَّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه، الذي جعله وارثًا لكل شيء، الذي ... هو بهاء مجده ورسم جوهره." (عبرانيين 1:1-3)
قال أحدهم: نفهم أن الوصية الثالثة من الوصايا العشر تنهي عن القسَم الذي لا لزوم له، حفاظًا على مهابة اسم الجلالة، وهذا حق.
لكن، لماذا يُبْطِلُ المسيح استعمال القسم كليًا بقوله: "لا تحلفوا البتة لا بالسماء ولا بالأرض... بل ليكن كلامكم: نعم نعم، لا لا"؟
فنقول للصديق: هذا يعني أنَّ من يتبع المسيح عليه أن يقول الصدق دائمًا كما لو كان حالفًا، نَعَمُهُ نعم، ولاؤه لا، إذ ليس للصدق معياران، أحدهما بقسم والآخر بدون قسم. معيار الصدق معيار واحد. فأمانة المسيحي، ابن النعمة، إيمانه بالمسيح هو ما يُلزِمه بقول الحق، وليس القسم. فالذي أشرق المسيح في قلبه نزع منه الكذب والتواء الفم والنفاق والتلاعب بالألفاظ.
ثم إن الإنجيل يصفنا بأننا سفراء للمسيح. فيقول في 2كورنثوس 20:5 "إذًا نسعى كسفراء عن المسيح، كأن الله يعظ بنا." فنحن كسفراء لملك الملوك ورب الأرباب لا نقدر إلا أن نتمثَّل به ونكون صادقين مثله في أقوالنا وأفعالنا، فالمسيح لم يُجِز لنا أن نكذب في أي ظرف من الظروف ولا حتّى في سعينا لعمل خير أو مداراة شر، فالكذب يعيب صاحبه مهما كان القصد منه.
قام القسيس بزيارة رعوية لإحدى العائلات، وأثناء تجاذب الحديث دخل عليهم صبي صغير وطلب من أبيه المنشار، فحلف أبوه أنه لا يعرف مكانه. وبعد دقائق عاد الصبي وكرر الطلب، وسمع الجواب نفسه. ثم دخلت أم الصبي لتقدم القهوة للضيف فقال والد الصبي لزوجته: "ابنكِ يريد استعمال المنشار ولم أعطِه، ها هو المنشار في المكان الفلاني، اخفيه عنه!"
فقال القسيس للأب: "حلفت وكذبت على ابنك، وهو لم يثق بجوابك لذلك كرر الطلب! أهذا أسلوب جيد نربي به أولادنا على الصدق والأمانة؟!"
في مشهد مهيب توقَّفتُ عنده في الأصحاح الثالث عشر من سفر القضاة، يتحدث فيه الكتاب عن منوح، والد شمشون الجبار، يقول: إن شبه ملاك ظهر في وضح النهار لامرأة منوح وكانت المرأة عاقرًا، فبشرها أنها ستلد ابنًا، وأوصاها كيف تتعامل معه وتربيه، ثم اختفى. فأسرعت المرأة إلى زوجها حيث كان لتخبره بما رأته وسمعته، فحضر منوح إلى المكان وتمنَّى أن يرى الطيف الذي تراءى لزوجته ويفهم منه تفاصيل الخبر. وحصل أن عاد الطيف وظهر من جديد بحضور منوح. فسأله منوح عن اسمه ليكرمه عند مجيء كلامه. فردّ عليه قائلًا: "لماذا تسأل عن اسمي وهو عجيب؟" (قضاة 18:13) وبقي منوح مع زوجته في حال من الذهول والحيرة فيمن تُرى يكون هذا الضيف الذي بشَّرنا بهذا الخبر السار! وبينما هما في حالة من الحيرة، اشتعلت نار في الساحة أمامهما وصعد الضيف من خلال لهيب النار إلى السماء واختفى وهما ينظران، فسقطا على وجهيهما رعبًا من هول ما رأيا. ولما انتهى المشهد أدرك منوح أن ضيفه هو الله، وقد تمثل لهما بهيأة منظورة، فصرخ في وجه زوجته قائلًا: "نموت موتًا لأننا قد رأينا الله" (قضاة 22:13).
فردَّت تلك قائلة: لو أراد الله أن يميتنا لما عمل لنا كل هذا يا منوح! الله لا يكذب! لا يقول كلامًا ويتراجع عنه! ألم يعدنا بولادة ولد مع أنني عاقر! ألله صادق يا منوح.
خلاصة القول أنَّ اسم الله اسم عجيبٌ، فالله قدوسٌ، والانتماء لرب قدوس يقتضي أن نحافظ على قدسيته بصدق شهادتنا فعلًا وعملًا. والمسيح علمنا في الصلاة الربانية أن نخاطب الله في صلاتنا: "أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك." (متى 9:6) فبصدق أقوالنا وأفعالنا نعبر عن قدسية الرب الذي نعبد، هل هو رب يجيز الكذب، أم رب صادق بما ينطق به ويعلم؟
نخلص إلى القول إن الإيمان المسيحي يُلزِمنا أن نحافظ على قدسية اسم الله الذي ننتمي إليه، بقول الحق دون أن نلجأ للقَسَم. أما الآلهة الوهمية التي يتعبَّد لها الكثيرون في بقاع الدنيا، فتلك لا تُعلِّم الصدق ولا تنادي به، بل تنشر ثقافة الكذب لأنها آلهة مزيّفة من صنع الناس، والأقسام المتكررة منهم تسهم في ذلك وتؤيّده.