من كتاب "من هو الإنسان؟" للمؤلف.
قصة سقوط الإنسان نقطة تحوّل رهيبة في التاريخ البشري. ففي لحظة استحال الوجود الفردوسي إلى وجود جحيميٍّ مرعب تسرّب إليه الموت والفساد. وبعد أن كان الإنسان ينعم بالثقة والطمأنينة والسلام، أصبحت حياته عرضة للقلق والخوف والضياع إذ فقَدَ سرّ أمنه وهنائه، ودبّت في كيانه جرثومة الخطيئة التي توالدت على مرّ العصور، واستبدّت بالطبيعة البشرية، فأصبحت آمرة ناهية، وظفر الشيطان، إلى حين، بما كان يتوق إليه. وابتدأ فصل جديد في مأساة الإنسان، لحمته العداوة والخطيئة وسداه المشقّة والدموع، ومناخه الجهل والظلمة، ومصيره الموت والهلاك.
كانت الخطيئة الأولى التي أدّت إلى سقوط الإنسان هي خطيئة العصيان.
ومن قبلُ، دالت دولة الشيطان حين تمرّد على خالقه وأراد أن يكون له ندًّا ومثيلاً. وحين طُرد من حضرة الرب وطّد العزم على إطغاء الإنسان وإغوائه انتقامًا وضلالاً. ولم يجد وسيلة غير إثارة روح التمرّد في طبيعة آدم وحواء وخداعهما. ولقد نجحت حيلته إلى أبلغ حدود النجاح.
كانت النفس أو "الأنا"، وما زالت، هي مقرّ الميول والأهواء، والنوازع البشرية. وكان لا بدّ للشيطان، لكي يحقق أُمنيته أن يهاجم مركز الضعف في الكائن البشري، فعثر في الإنسان على "الأنا". ولم يكن في قدرة الشيطان أن يغري الإنسان على اجتراح الخطيئة ضدّ الله لو لم يكن في داخل الإنسان ميل في النفس، أي ميل في "الأنا" نحو الانحراف. فاستغلّ إبليس هذا الميل، وحرّك فيه دوافع الإثارة دون أن يجرؤ على الدنو من منطقة الروح إذ كانت الروح ترجع في أحكامها إلى خالقها. وقد أدرك الشيطان أنه لا يستطيع أن يخدع الروح فلجأ إلى "الأنا" يستأثر بها، ويعابثها، ويغويها. فوجد لديها صدى لمآربه، فشمّر عن ساعد الجدّ ونصب حبائله.
لقد احترم الله إرادة الإنسان، وهذا يتفق كليًّا مع طبيعته، وكان أمينًا في تعهّده لخليقته، فحذّره من مغبّة العصيان، وأنذره بالموت. لم يبخل الله على الإنسان بشيء، بل توجّه ملكًا مطاعًا، وشرّع في وجهه أبواب حكمته يغترف منها الحق، والجمال، والمعرفة، والخير. كانت كل معارفه روحية مقدّسة، وكان يعيش في سعادة غامرة.
ولكن الشيطان حمل سلاحه الوحيد، وارتدى ثوب الناصح الأمين المخادع، وجاء يداعب أحلام النفس وأشواق "الأنا"، يستهويها كي تكون حرة تتحكّم بمصيرها بيدها، وتصبح قادرة على المعرفة الكلية، قانعة بذاتها، مستقلة عن مصادر نموّها، وارتقائها، وقوتها. وأخذ إبليس يدغدغ العقل ويستثير الرغبة وكبرياء الإرادة؛ وهي عناصر قوى "الأنا" الثلاثة: قالت الحية التي تلبّسها الشيطان: "أحقًا قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة؟" وكان على حواء أن تفكّر لتجيب؛ وعمل العقل هنا دون إرشاد الروح مما دفع حواء إلى الكذب إذ أجابت: "من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله: لا تأكلا منه ولا تمسّاه لئلا تموتا."
هل حقًّا أمر الله آدم وحوّاء أن لا يمسّا ثمر الشجرة التي في وسط الجنة؟ إننا لا نعثر في الأعداد السابقة على أيّ ذكر لهذا التحريم. ولكن حواء، وقد استجابت لإغراء الحية، نطقت بأول كذبة وردت في الكتاب المقدس. وازداد الشيطان جرأة بعد أن أمسك بأطراف حبل "الأنا"، وأثار سخط حواء على الله. فقالت الحية: "لن تموتا! بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر."
تطلّعت حواء إلى الثمرة المحرّمة بنظرة جديدة، ولأول مرّة رأتها "جيّدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهيّة للنظر. فأخذت من ثمرها وأكلت." (تكوين6:3)
وهكذا خضع الجسد بحواسه إلى إغراء "الأنا" التي استسلمت إلى عبودية إبليس، ونجم عن سقوط الإنسان في خطيئة العصيان نتائج رهيبة منها:
أولاً، إن الشيطان صار سيّد الإنسان، بعد أن كان الرب إلهه. وهذا ما كان يسعى إليه الشيطان: أن يكون إله هذا الدهر.
ثانيًا، إن روح الإنسان التي تمّ الاعتداء الخطير عليها لم تعد جسرًا صالحًا يصل النفس بالله، وانقطعت الصلة الروحية مع الله. واستذلّت النفس الروحَ المقدّسة، وأصبح الإنسان، في نظر الله ميّتًا بالخطايا والذنوب. وهكذا تحكّمت النفس بالروح، وتحوّل الإنسان إلى جسديّ أو نفسانيّ كما يذكر الكتاب المقدّس، على خلاف ما أراد الله له أن يكون عليه. وأضحى العالم اليوم عبدًا للرغبة والعاطفة الهوجاء، والمشاعر غير النقيّة، والعقل المادي، والإرادة، والاختيار، الخاضعة جميعها إلى فعل حوافز خفية نابعة من "الأنا"، من غير أن يكون للروح أيّ تأثير في توجيه سلوك الإنسان العادي أو التأثير في روح العالم وقيادته.
ومن الملاحظ أن آدم وحواء بعد السقوط تولاهما الخوف والقلق، والرعب وحكم عليهما، من ثَمَّ، بالشقاء والموت. وهذا ما يعتري العالم اليوم أيضًا إذ يستبدّ به الخوف، والحزن، والكبرياء، والكراهية، والعداوة، والفسق، والذهول، والعار، والأسى. وهذه كلها من نوازع "الأنا" المنبثقة عن الرغبة. ومن ناحية أخرى نرى الخيال، والوهم، والشك، والتأمل الضال، والخرافات، والتحليل، والتعقّل المادي، وتحقيق المطامح، وحبّ التملّك، وشهوة القوة، والبغي، مطالب الحرّية الجامحة إلخ... أصبحت كلها بعد أن استعبدها الشيطان، أسلحة فتاكة يستخدمها في سبيل دمار الجنس البشري.
لقد أهان الإنسان خالقه حين عصى أمره ولم يهتدِ بروحه، ولا سيما أن الله، كما يقول أنسلموس: "قد صنع الخليقة العاقلة المستقيمة لتكون مباركة بتمتّعها به تعالى وجعلها عاقلة لتميّز بين الحق والباطل، والخير والشر، وإلا فلا فائدة من كونها عاقلة مع أن الله وضع فيها هذه القوة العقلية لغاية عنده، فلا ريب إذًا أنها قد خُلقت عاقلة من أجل هذه الغاية. ولنا دليل آخر يثبت أيضًا ذلك أنه قد أودعت فيها قوة التمييز لكي تمقت الشر وتجتنبه وترغب في الخير وتختاره، وتسرّ بالأفضل وتؤثره، وإلا يكون الله قد خوّلها قوة التمييز هذه عبثًا دون أن يكون لها قصد معين لأنها إن كانت تميّز الأشياء دون أن تميل إلى شيء أو تَعْرِضُ عنه على مقتضى تمييزها يكون ولا مراء تمييزها باطلاً."
وأكثر من ذلك، فإن أوامر الله ونواهيه للإنسان كانت صريحة، وموقفه من العصيان كان واضحًا، فأي إهانة صارخة اقترفها الإنسان في حق الله؟! فهل تعجب بعد هذا كله من سخط الله على الخطيئة ونقمته على الخاطئ؟
هناك مثل شائع عند العرب ولعلّه مقتبس من نصٍّ قرآني يقول: "إن النفس أمّارة بالسوء." وفي مزمور 12:81 نقرأ هذه الآية: "فَسَلَّمْتُهُمْ إِلَى قَسَاوَةِ قُلُوبِهِمْ، لِيَسْلُكُوا فِي مُؤَامَرَاتِ أَنْفُسِهِمْ." ونحن نعلم أن معظم الأمثال والحكم مستمدّة من واقع التجربة والاختبار، وتعبّر عن نهج في الحياة أو مسلك معيّن يشتمل على "محتوى" عام للطبائع والمفاهيم. بيد أن الأمثال، بحدّ ذاتها، تتخطّى الحدود الزمانية والمكانية لتصبح ذات مغزى على الصعيد الإنساني. وحين نرى اتفاقًا تامًا بين مضمون المثل وكلمة الله نزداد يقينًا بصحة المثل، وبالتالي بصحة هذه الحقيقة الإنسانية. فنفس الإنسان "الأنا" الأمّارة بالسوء، أغرته على عدم الطاعة وأدت به إلى الهلكة إذ لا يمقت الله شيئًا بقدر مقته للعصيان، فالطاعة أفضل من ذبيحة ومن كل بخور يحرق في مجامر قدسه، والقلب المطيع خير من جميع صلوات النفس المتمرّدة المتصاعدة من بؤر الخطيئة إذ ليس في وسع الإنسان أن يعبد ربّين في آن واحد.
يتبع في العدد القادم