"إِنْ رَأَيْتَ ظُلْمَ الْفَقِيرِ وَنَزْعَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِي الْبِلاَدِ، فَلاَ تَرْتَعْ مِنَ الأَمْرِ، لأَنَّ فَوْقَ الْعَالِي عَالِيًا يُلاَحِظُ، وَالأَعْلَى فَوْقَهُمَا." (جامعة 8:5)
رسالة هذا العدد هدفها أن تؤكد للقارئ أن عدل الله لا بد أن يأخذ مجراه في الوقت المعين من الله.
وفي الكتاب المقدس قصتان تؤكدان هذه الحقيقة:
1- قصة تدبير داود أن يقتل أوريا الحثي في الحرب ليستر زناه مع بثشبع زوجته
والقصة تبدأ بأن رأى داود الملك، وهو يتمشى على سطح بيته وقت المساء، بثشبع امرأة أوريا الحثي وهي تستحمّ، وكانت بثشبع جميلة المنظر جدًا، فأرسل داود رسلاً وأخذها فدخلت إليه فاضطجع معها، وحبلت منه، فأرسلت وأخبرت داود بأنها حبلى، وأراد داود أن يستر خطيته. فأرسل إلى يوآب رئيس الجيش ليرسل له أوريا الحثي، فأتى أوريا، وقال له داود: انزل إلى بيتك واغسل رجليك مؤملاً أن ينزل أوريا إلى بيته ويضطجع مع زوجته وبهذا تنتهي قصة زناه.
لكن أوريا كان مكرسًا لخدمته العسكرية، ولم يذهب إلى بيته، فكتب الملك داود رسالة إلى يوآب رئيس الجيش قال فيها: "اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة، وارجعوا من ورائه فيُضرب ويموت." وفعل يوآب ما قاله له داود في رسالته ومات أوريا الحثي، وظن داود أن خطيته قد سُترت بعد أن ضمّ بثشبع إلى بيته وصارت له امرأة.
لكن الأعلى كان يلاحظ من علاه، وكان لا بد للعدل أن يأخذ مجراه.
وأرسل الرب ناثان النبي لداود فقال له: "لماذا احتقرت كلام الرب لتعمل الشر في عينيه؟ قد قتلت أوريا الحثي بالسيف، وأخذت امرأته لك امرأة... والآن لا يفارق السيف بيتك إلى الأبد، لأنك احتقرتني وأخذت امرأة أوريا الحثي لتكون لك امرأة. هكذا قال الرب: هأنذا أقيم عليك الشر من بيتك، وآخذ نساءك أمام عينيك وأعطيهن لقريبك، فيضطجع مع نسائك في عين هذه الشمس. لأنك أنت فعلت بالسر وأنا أفعل هذا الأمر قدّام جميع إسرائيل وقدّام الشمس." (2صموئيل 10:12)
وبدأ يوم العدل الإلهي في سلسلة أحداث رهيبة حدثت في بيت داود:
1) اغتصب أمنون أخته ثامار "ثُمَّ أَبْغَضَهَا أَمْنُونُ بُغْضَةً شَدِيدَةً جِدًّا... بل دَعَا غُلاَمَهُ الَّذِي كَانَ يَخْدِمُهُ وَقَالَ: «اطْرُدْ هذِهِ عَنِّي خَارِجًا... فَأَخْرَجَهَا خَادِمُهُ إِلَى الْخَارِجِ."
(2صموئيل 15:13 و17-18)
2) قتل أبشالوم أخاه أمنون انتقامًا منه لاغتصابه ثامار أخته (2صموئيل 28:13-30).
3) أعلن أبشالوم الثورة على داود أبيه وقصد أن يأخذ الملك منه (2صموئيل 15).
4) قتل يوآب أبشالوم (2صموئيل 15:18)
هكذا أخذ العدل مجراه... دماء تلحق دماء، ويخدع نفسه من يظن أن بمقدوره أن ينجو من عقاب آثامه وخطاياه. "لاَ تَضِلُّوا! اَللهُ لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا." (غلاطية 7:6)
وها نحن قد رأينا أن الحصاد مرٌّ، ومؤلم، وأن اللذة التي نُجرَّب بالحصول عليها، لا تساوي الشعور بالذنب، وتبكيت الروح القدس، والكآبة التي تغمر القلب: "إذًا من يظن أنه قائم فلينظر أن لا يسقط." (1كورنثوس 12:10)
وفي تاريخ العالم نقرأ عن ملوك وطغاة وأباطرة ظلموا شعوبهم واستعبدوها أمثال أدولف هتلر الذي حكم ألمانيا، وجوزيف ستالين الذي حكم روسيا، وصدّام حسين الذي حكم العراق، والإسكندر الأكبر ملك مكدونية، ونيرو إمبراطور روما، وجنجيزخان حاكم منغوليا، وإيفان الرهيب قيصر روسيا، ومكسميلان روبسبير قائد الثورة الفرنسية الدموية، وفلاديمير لينين قائد ثورة روسيا، وبنيتو موسوليني دكتاتور إيطاليا، ومعمر القذافي دكتاتور ليبيا. وكيف انتهت حياة كل واحد منهم نهاية مفزعة، وكيف غطّاهم التاريخ بالعار.
هكذا أعلن تاريخ الذين سجل الكتاب المقدس أسماءهم، وأولئك الذين سجل تاريخ العالم نهايتهم... دماء تلحق دماء.
2- قصة الملك أخآب ملك السامرة
وما صنعه بنابوت اليزرعيلي
تقول القصة أنه كان لنابوت اليزرعيلي كرم بجانب قصر أخآب ملك السامرة "فَكَلَّمَ أَخْآبُ نَابُوتَ قَائِلاً: [أَعْطِنِي كَرْمَكَ فَيَكُونَ لِي بُسْتَانَ بُقُول...] فَقَالَ نَابُوتُ لأَخْآبَ: [حَاشَا لِي مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ أَنْ أُعْطِيَكَ مِيرَاثَ آبَائِي.]" (1ملوك 2:21-3)
كان الموقف واضحًا: إما الطاعة لوصية الرب التي تحرّم بيع ميراث الآباء، أو الطاعة لطلب الملك أن يعطيه نابوت كرمه الذي في يزرعيل.
وأبى نابوت أن يعصى وصية الرب.
"فَدَخَلَ أَخْآبُ بَيْتَهُ مُكْتَئِبًا مَغْمُومًا مِنْ أَجْلِ الْكَلاَمِ الَّذِي كَلَّمَهُ بِهِ نَابُوتُ الْيَزْرَعِيلِيُّ... وَاضْطَجَعَ عَلَى سَرِيرِهِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ خُبْزًا." (1ملوك 4:21)
هكذا أكل الطمع في كرم نابوت قلب الملك أخآب... وهنا دخلت إليه إيزابل امرأته وقالت له: لماذا روحك مكتئبة ولا تأكل خبزًا؟ فأخبرها بما دار بينه وبين نابوت اليزرعيلي، وكيف رفض نابوت أن يعطيه كرمه.
"فَقَالَتْ لَهُ إِيزَابَلُ: «أَأَنْتَ الآنَ تَحْكُمُ عَلَى إِسْرَائِيلَ؟ قُمْ كُلْ خُبْزًا وَلْيَطِبْ قَلْبُكَ. أَنَا أُعْطِيكَ كَرْمَ نَابُوتَ الْيَزْرَعِيلِيِّ». ثُمَّ كَتَبَتْ رَسَائِلَ بِاسْمِ أَخْآبَ، وَخَتَمَتْهَا بِخَاتِمِهِ، وَأَرْسَلَتِ الرَّسَائِلَ إِلَى الشُّيُوخِ وَالأَشْرَافِ الَّذِينَ فِي مَدِينَتِهِ السَّاكِنِينَ مَعَ نَابُوتَ،" ليتهموا نابوت بأنه جدّف على الله وعلى الملك، وفعل الشيوخ والأشراف ما طلبت إيزابل، "وقالوا: [قَدْ جَدَّفَ نَابُوتُ عَلَى اللهِ وَعَلَى الْمَلِكِ». فَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ وَرَجَمُوهُ بِحِجَارَةٍ فَمَاتَ... وَلَمَّا سَمِعَ أَخْآبُ أَنَّ نَابُوتَ قَدْ مَاتَ، قَامَ لِيَنْزِلَ إِلَى كَرْمِ نَابُوتَ الْيَزْرَعِيلِيِّ لِيَرِثَهُ."
"فَكَانَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَى إِيلِيَّا التِّشْبِيِّ قَائِلاً: «قُمِ انْزِلْ لِلِقَاءِ أَخْآبَ مَلِكِ إِسْرَائِيلَ الَّذِي فِي السَّامِرَةِ. هُوَذَا هُوَ فِي كَرْمِ نَابُوتَ الَّذِي نَزَلَ إِلَيْهِ لِيَرِثَهُ. وَكَلِّمْهُ قَائِلاً: هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: هَلْ قَتَلْتَ وَوَرِثْتَ أَيْضًا؟ ثُمَّ كَلِّمهُ قَائِلاً: هكَذاَ قَالَ الرَّبُّ: فِي الْمَكَانِ الَّذِي لَحَسَتْ فِيهِ الْكِلاَبُ دَمَ نَابُوتَ تَلْحَسُ الْكِلاَبُ دَمَكَ أَنْتَ أَيْضًا.»" (1ملوك 17:21-19) هكذا دماء تلحق دماء، وتعقّب العدل الإلهي أخآب الملك، وكان موته بتدبير إلهي عجيب... فمع أنه تنكّر حتى لا يقتله جنود ملك أرام فقد حدث أمر مدبّر من الله، وهذا ما حدث: "وَإِنَّ رَجُلاً نَزَعَ فِي قَوْسِهِ غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ وَضَرَبَ مَلِكَ إِسْرَائِيلَ بَيْنَ أَوْصَالِ الدِّرْعِ. فَقَالَ لِمُدِيرِ مَرْكَبَتِهِ: «رُدَّ يَدَكَ وَأَخْرِجْنِي مِنَ الْجَيْشِ لأَنِّي قَدْ جُرِحْتُ». وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، وَأُوقِفَ الْمَلِكُ فِي مَرْكَبَتِهِ مُقَابِلَ أَرَامَ، وَمَاتَ عِنْدَ الْمَسَاءِ، وَجَرَى دَمُ الْجُرْحِ إِلَى حِضْنِ الْمَرْكَبَةِ. وَعَبَرَتِ الرَّنَّةُ فِي الْجُنْدِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَائِلاً: «كُلُّ رَجُل إِلَى مَدِينَتِهِ، وَكُلُّ رَجُل إِلَى أَرْضِهِ». فَمَاتَ الْمَلِكُ وَأُدْخِلَ السَّامِرَةَ فَدَفَنُوا الْمَلِكَ فِي السَّامِرَةِ. وَغُسِلَتِ الْمَرْكَبَةُ فِي بِرْكَةِ السَّامِرَةِ فَلَحَسَتِ الْكِلاَبُ دَمَهُ، وَغَسَلُوا سِلاَحَهُ. حَسَبَ كَلاَمِ الرَّبِّ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ." (1ملوك 34:21-38)
حاول أخآب الهرب من عدل الله، ولكن هيهات أن يهرب المذنب من عدل الله حتى ولو كان ملكًا.
إن صفة العدل في الله، صفة أزلية، ويختلف عدل الله عن عدل الناس، وقد عبّر "جبران خليل جبران" الشاعر اللبناني عن عدل الناس العائشين في الأرض بشعره الرقيق فقال:
العدل في الأرض يُبكي الجن لو سمعوا به
ويستضحكُ الأموات لو نظروا
فسارق الزهر مذموم ومحتقر
وسارق الحقل يدعى الباسل الخطر
وقاتل الجسم مقتول بفعلته
وقاتل الروح لا يدري به البشر
هكذا رسم جبران خليل عدل الإنسان، لكن الكتاب المقدس يتكلم كثيرًا عن عدل الله. فمع أن الله مطلق الوجود أي موجود في كل مكان، ومطلق القدرة أي قادر على كل شيء، ومطلق الحكمة أي ليس عن فهمه فحص، ومطلق الحب أي إن حبه لا حدود له، فهو كذلك مطلق العدل، والعدل ضدّ الظلم، ويقول أليهو لأيوب وأصحابه: "حاشا لله من الشر والقدير من الظلم." (أيوب 10:34)
ونقرأ في المزمور الحادي عشر: "الرب يمتحن الصديق. أما الشرير ومحب الظلم فتبغضه نفسه." (مزمور 5:11) ويقول إيثان الأزراحي في قصيدته: "العدل والحق قاعدة كرسيك." (مزمور 14:89) هكذا يعطينا الكتاب المقدس صورة عن الله القدوس العظيم مؤكدًا أن "جميع سبله عدل." (تثنية 4:32)، والقصد من تقديم هذه الصورة، أن يتمثل أولاد وبنات الله، بالله الذي أحبهم ويمارسوا العدل والحق في معاملاتهم وحياتهم العملية ليتمجد الآب الذي في السماوات، كما قال بولس الرسول للقديسين في أفسس: "فَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِاللهِ كَأَوْلاَدٍ أَحِبَّاءَ، وَاسْلُكُوا فِي الْمَحَبَّةِ كَمَا أَحَبَّنَا الْمَسِيحُ أَيْضًا وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، قُرْبَانًا وَذَبِيحَةً للهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً." (أفسس 1:5-2)
إن الهدف الأعظم من قراءة ودراسة الكتاب المقدس، ليس للحصول على معلومات كتابية، بل أن نرى الله ونتمثّل به.
لنحذر من أن يكون هدفنا من قراءة الكتاب المقدس أن نحصل على معلومات كتابية تُظهر للآخرين مدى معرفتنا بالكتاب المقدس وهكذا ترتفع منزلتنا في عيونهم. فالهدف الصحيح من قراءة الكتاب المقدس أن ننمو في النعمة وفي معرفة الرب يسوع المسيح.
في وقت تدهورت فيه الحياة الروحية في إسرائيل تدهورًا شديدًا جدًا قررت جماعة من الأتقياء أن يركّزوا كل اهتمامهم في الرب، وفي عظمته، ومحبته، وقدرته، وهذا ما قيل عن هؤلاء الأتقياء: "حِينَئِذٍ كَلَّمَ مُتَّقُو الرَّبِّ كُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ، وَالرَّبُّ أَصْغَى وَسَمِعَ، وَكُتِبَ أَمَامَهُ سِفْرُ تَذْكَرَةٍ لِلَّذِينَ اتَّقُوا الرَّبَّ وَلِلْمُفَكِّرِينَ فِي اسْمِهِ." (ملاخي 16:3)
وما الذي سيحدث لهؤلاء الأتقياء؟
"وَيَكُونُونَ لِي، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ، فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَنَا صَانِعٌ خَاصَّةً، وَأُشْفِقُ عَلَيْهِمْ كَمَا يُشْفِقُ الإِنْسَانُ عَلَى ابْنِهِ الَّذِي يَخْدِمُهُ." (ملاخي 17:3) وفي الترجمة الإنجليزية New King James نقرأ هذه الكلمات: They shall be
mine says the Lord of hosts. On the day that I make them My jewels.”
وترجمة NKJ تعلن أن الأتقياء المفكّرين في اسم الرب، سيكونون ملكًا لرب الجنود في ذلك اليوم الذي سيجعلهم فيه جواهره.
فكل مؤمن بالرب يسوع المسيح، تميّز بالتقوى في حياته العملية، وانشغل بالتفكير في الرب وفي اسمه سيكون جوهرة في يد الرب، يوم يجمع الرب جواهره.
فيا أخي المؤمن، هل تصوّرت نفسك وقد صرت جوهرة في يد الرب؟
وهل عرفت مدى مكانتك في قلب فاديك؟
وهل أنت مؤمن جسدي؟
ما زلت طفلاً في المسيح تحتاج أن يعلمك أحد ما هي أركان بداءة أقوال الله؟... وما زلت تعيش على اللبن لأنك عديم الخبرة في كلام الرب؟ (عبرانيين 12:5)
أصلي أن تنمو في النعمة وفي معرفة الرب يسوع المسيح.