"أشرنا في العدد السابق إلى قضية السقوط وسيادة الخطيئة على حياة الإنسان التي أفضت إلى مأساة انفصاله عن الله وما ترتب عنها من نتائج رهيبة أخضعت الطبيعة البشرية لسلطان إله هذا الدهر، إبليس. وها نحن نتابع في الصفحات التالية بقية بحثنا في قصة السقوط وأثر ذلك على الحياة الإنسانية، بل الإنسان نفسه في علاقته مع الله."
والآن بعد أن سادت الخطيئة على الجنس البشري وامتدت قبضة إبليس تعتصر كل ما هو خير في الإنسان، عاث الشر في كل رجءٍّ من أرجاء الأرض، وأصبح الناس "مَمْلُوئِينَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ وَزِنًا وَشَرّ وَطَمَعٍ وَخُبْثٍ، مَشْحُونِينَ حَسَدًا وَقَتْلاً وَخِصَامًا وَمَكْرًا وَسُوءًا، نَمَّامِينَ مُفْتَرِينَ، مُبْغِضِينَ ِللهِ، ثَالِبِينَ مُتَعَظِّمِينَ مُدَّعِينَ، مُبْتَدِعِينَ شُرُورًا، غَيْرَ طَائِعِينَ لِلْوَالِدَيْنِ، بِلاَ فَهْمٍ وَلاَ عَهْدٍ وَلاَ حُنُوٍّ وَلاَ رِضىً وَلاَ رَحْمَةٍ. الَّذِينَ إِذْ عَرَفُوا حُكْمَ اللهِ أَنَّ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ مِثْلَ هذِهِ يَسْتَوْجِبُونَ الْمَوْتَ، لاَ يَفْعَلُونَهَا فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا يُسَرُّونَ بِالَّذِينَ يَعْمَلُونَ." (رومية 29:1-32)
إن المقارنة الدقيقة بين وضع الإنسان قبل السقوط ووضعه من بعدُ، يولّد في النفس خوفًا ورهبة إذ تكاد القداسة أن تمّحى من العالم. وكلما تفاقم الشر ازداد الله بعدًا عن الإنسان واقتربت نهاية الكون لأن الله يبغض الإثم وينتقم من صانعي الشر كما حدث في أيام نوح.
كان نجاح الشيطان في خداع الإنسان باهرًا. ومهما حاولنا أن نتحسّس مقدار حزن الآب السماوي وكآبته على مصير خليقته فإننا أعجز من أن نخترق جدار الذات الإلهية ونتبيّن جوهر الألم المتنامي في قلبه. ولكن في استطاعة المرء أن يدرك من خَلال عملية الفداء أن حزن الله كان في مستوى محبته.
كان في مقدور الله أن يتدخل بصورة مسرحيّة، في اللحظة المناسبة، ويحول دون سقوط الإنسان. غير أن الله احترم إرادة مخلوقه وتركه حرًّا يختار لنفسه ليكون فداؤه أعظم، وهبته أروع، ولكي يستوفي العدل الإلهي حقّه متخذًا شكلًا يكاد يكون أسطوريًا فيه تتحقق أشواق البشرية، وتتجسد أحلامها، وتستعيد الروح مكانتها وسيادتها على "الأنا".
إن خضوع الروح بعد السقوط لأحكام النفس يفسّر لنا عمق التجربة التي مرّ بها بولس الرسول وما كابد من عذاب مرير في التحرر من ربقة الخطيئة. قال: "لأَنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ مَا أَنَا أَفْعَلُهُ، إِذْ لَسْتُ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُهُ، بَلْ مَا أُبْغِضُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ. فَإِنْ كُنْتُ أَفْعَلُ مَا لَسْتُ أُرِيدُهُ، فَإِنِّي أُصَادِقُ النَّامُوسَ أَنَّهُ حَسَنٌ. فَالآنَ لَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُ ذلِكَ أَنَا، بَلِ الْخَطِيَّةُ السَّاكِنَةُ فِيَّ. فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ، أَيْ فِي جَسَدِي، شَيْءٌ صَالِحٌ. لأَنَّ الإِرَادَةَ حَاضِرَةٌ عِنْدِي، وَأَمَّا أَنْ أَفْعَلَ الْحُسْنَى فَلَسْتُ أَجِدُ. لأَنِّي لَسْتُ أَفْعَلُ الصَّالِحَ الَّذِي أُرِيدُهُ، بَلِ الشَّرَّ الَّذِي لَسْتُ أُرِيدُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ. فَإِنْ كُنْتُ مَا لَسْتُ أُرِيدُهُ إِيَّاهُ أَفْعَلُ، فَلَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُهُ أَنَا، بَلِ الْخَطِيَّةُ السَّاكِنَةُ فِيَّ." (رومية 15:7-20)
يجمل بنا أن نتأمل في نص هذه الآيات بدقة لكي نستطيع أن نستوعب خفايا الطبيعة البشرية المقاومة لجوهر الروح. ولا بد لنا من أن نلتقط مفاتيح الآيات التي نُطلّ من خلالها على الحالة المعقدة التي حاول الرسول بولس أن يعبّر عنها لأنها حالة عامة تنطبق، بكل بساطة، على الإنسان في كل زمان ومكان. فبولس الرسول "لا يعرف" ما يفعله لأنه "يفعل" ما لا يريده، بل الذي يبغضه. فالروح المستعبدة في بولس، الخاضعة لإرادة النفس عاجزة عن التحكّم في سلوكه وتصرفاته، ولكنها قادرة على إضاءة مسارب فكره بحيث يدرك أن ما يفعله مناقض لِما يريد. فالمعرفة هنا متوالدة عن "الروح الإلهي" الكامن في أعماق الإنسان، وهي معرفة قيّمة من شأنها أن تكون شرارة انطلاق روحي حيّ يغيّر مجرى حياة الفرد. ويمكن أن نقرن الضمير الذي يحاول بين الفينة والفينة أن يسترعي انتباه الخاطئ إلى مصيره، إلى عجلة اليقظة الروحية التي تساهم في نشاط الروح. ويدرك بولس الرسول إدراكًا واعيًا أن النوازع التي فيه تحفزه إلى فعل ما يبغضه تحت تأثير الخطيئة الساكنة فيه. وبمعنى أصحّ، نتيجة لحوافز النفس ورغباتها التي استعبدها إبليس. لقد أصبح خضوع الإنسان للقبضة الرهيبة التي تضغط على روحه، خضوعًا كاملاً، لأنه على الرغم من وجود "الإرادة" ومحاولة الإنسان التحرر من العبودية، فإن النفس بضراوتها قد تغلّبت على الإرادة ولوّثتها بأدرانها، فعجزت عن أن تصدّ تيّار الخطيئة الهادرة أو تلجم أعنّة الرغبة العنيفة.
إن الشوق "لفعل" الحسنى هو تعبير ظاهري قاصر عن روح الله الأسير في ظلمات الجسد. لهذا، ترد لفظة "أريد" ومشتقاتها في هذا النص بما لا يقل عن ست مرات. وهي إعراب يقيني عن قوة مقيدة تحاول التفلّت من أغلالها لتثبت وجودها حتى تتولّى قيادة دفة حياة الإنسان في معترك صاخب. فالإنسان يريد أن يفعل الحسنى ولكنه يخفق لأنه، ككلٍّ، غدا عبدًا مأمورًا يلبي أوامر سيده مكرهًا. وهكذا أصبح الإنسان جسديًّا، نفسانيًا. يقول بولس عن نفسه: "وأما أنا فجسدي مبيع تحت الخطية." (رومية 14:7) فمنذ السقوط لم يعد في وسع الإنسان أن يخلّص نفسه بفعل إرادة ذاتية دون معونة من الله؛ لأن الإرادة ذاتها لم تعد حرّة. وليس هذا بالموقف الجديد على الكائن الساقط إذ اجتاحت عاصفة الخطيئة كل كيانه، وانتقضت إرادته الأولى التي كانت على انسجام تام مع الإرادة الإلهية. ولا بدّ لكي يتحرر الإنسان من أغلال الخطيئة أن يخلع الوتد المغروز في مغاليق النفس أولاً ويطرح عنه الأصفاد ليستعيد حريته المسلوبة. وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا بفعل عمل خارجيٍّ جبارٍ في مقدوره أن يحطم قوى الشر ويقهرها. إن عبارة "الخطيئة الساكنة في!" ترتد في هذا المقطع مرتين، وهي إشارة أمينة إلى الواقع المرير الذي يعذّب الروح الإلهية السجينة بين قضبان النفس، تمامًا كما كان يعذّب لوط روحه البارة وهو ساكن بين قوم أثمة.
وهكذا طُرد آدم من الجنة وفغر الشقاء فاهًا رهيبًا راح يبتلع الإنسان. وأنَّى التفت أضحى يرى الوجود مظلمًا، مرعبًا مفعمًا بالموت والخوف. حياة لم يعهدها من قبل، ولم يكن مستعدًا لها. يصف لنا الشاعر اللبناني صلاح لبكي في مطوّلته "سأم" ملامح من مآسي برية حياتنا كما تراءت لآدم وحواء فيقول:
وفي البعيد البعيد خلف مدى الأبصار
طيفان يسحبان الهوانا
يسألان الينبوع رفدًا فيأبى
الرفد حتى ليغتدي ظمآنا
تُجدب البرية السخيّة أنّى
وطئاها فاستجدياها زمانا
وتكاد الأغصان تَبْخل بالظلْ
لِ إذا ما تفيآ الأغصانا
كل خير جفاهما ونبا الحسن
ووَلّى مهرولاً شنآنا
فكسا الترب نفسه الشوك كيدًا
واستردّ الورود والريحانا
فإذا يطلبان قوتًا عصى
القوت ولو دانيًا، وشتّ وبانا
الطريدان في عراك مع الكون
عتيدٍ يمزّق الأبدانا
تتقصّاهما الزوابع حتى
لا يقرّان خاطرًا ومكانا
مِن قتالٍ مع السباع إلى
ضرب مع الطير ترهق الأقرانا
يدفعان الغربان حينًا وحينًا
يدفعان الكواسر العُقبانا
وهكذا دخلت العداوة بالخطيئة إلى عالم الإنسان فتمرّدت عليه رعيته من حيوان وطير، وثارت عليه الطبيعة وصارعته فأجدبت الأرض ولم تُطعمه، فكان عليه أن يأكل خبزه بعرق جبينه ريثما يطويه الثرى ويواريه القبر.
من كتاب "من هو الإنسان" للمؤلف