لطالما ظلم الكثيرون يعقوب الرسول وتجنّوا على رسالته، مدّعين ظلمًا وزورًا بأنه يعلّم عن الخلاص بالأعمال! ولكننا نجترح العذر لهؤلاء لأنهم لم يدخلوا إلى عمق المعنى الذي قصده هذا الرسول بإرشاد الروح القدس، ولربما لعبت الترجمة دورًا آخر في حرف أذهان البعض عن المعنى الدقيق، فظنّ هؤلاء أن كلمة "أعمال" التي وردت في رسالة يعقوب، يقصد بها أعمال التديّن والإماتات، أو أعمال البر والإحسان.
بينما هو يركّز على نوع آخر لم يخطر على بالهم أو قد تجاهلوه عمدًا وهو "الناحية العملية للإيمان"، أو ما ندعوه "فعل الإيمان" وهو عكس مفهوم الإيمان النظري الذي هو عبارة عن فكرة مجردة في الشعور أو كلمات تنطق باللسان، وإنما هو الإيمان الكامل الصحيح المبرهن عمليًا.
ولكي نفي هذا الموضوع حقه من البحث، علينا أن نقسم الأعمال البشرية إلى حزم رئيسة. فكلمة "أعمال" تشمل في مفهومها الواسع أنواعًا كثيرة من السلوك الإنساني، تتشعّب في أسسها، وتتنوّع في مقاصدها، وتتباعد في نتائجها، وهذه الحزم هي:
1) أعمال التديّن والممارسات التقوية من صلاة وصوم وتلاوات، وتسبيحات وتقدمات وحضور اجتماعات العبادة. وهي واجبة وتُسمّى في العرف المسيحي "وسائط النعمة". ويضيف إليها البعض: التقشف، وإذلال النفس، وزيارة المقدسات...
2) الأعمال الصالحة، أو أعمال البر والإحسان كإطعام الجياع، وإكساء العراة، ومساعدة الفقراء والمرضى، وإعالة الأرامل والأيتام، والتبرّع للأعمال الخيرية، إلى ما هنالك من حلقات هذه السلسلة.
3) الأعمال الإيمانية: من ثقة بالله، وثبات، ونكران ذات، وطاعة مطلقة لصوت الله، واستعداد للتضحية بكل شيء لأجله، ومهما كانت صفة العمل الذي نؤديه لتحقيق ذلك أو تصنيفه أو نتائجه. فذلك العمل يسمّى "فعل الإيمان" وهو الوجه الآخر للإيمان الذي يجعله حقيقيًا ظاهرًا للعيان. وقد يكون إيجابيًا كأداءٍ ما أو سلبيًا كامتناعٍ عن أداء.
تلك هي أنواع الأعمال التي يتجادل المسيحيون بشأن تدخّلها في خلاص النفس. كما يمكن الإشارة إلى أنواع أخرى من الأعمال:
أ) أعمال الابتكار والآداب والفنون التي تكافأ من قبل الناس.
ب) الأعمال الشريرة التي يعاقب الله القائمين بها والمحرضين عليها بدينونته الرهيبة.
يبدأ يعقوب رسالته المعنونة "إلى الاثني عشر سبطًا الذين في الشتات"، فالمخاطَبون هم مؤمنون من خلفية يهودية، يعرفون الوصايا، والنبوات، والتقليد اليهودي، لكنه يريدهم أن يتقدّموا في اختبار الإيمان المسيحي الحقيقي الذي هو "إيمان عملي" واضح المعالم وله ما يدلّ عليه؛ فيتكلم في الأصحاح الأول وبداية الأصحاح الثاني عن تلك المعالم التي تجعل إيمان المرء واضحًا وهي: الصبر (عدد 2)، عدم الارتياب أو التقلقل (الأعداد 6-8)، التواضع (عدد 9)، احتمال التجارب (عدد 12)، السيطرة على الغضب (عدد 19 و20)، قبول الكلمة الإلهية بوداعة والعمل بها بأمانة (الأعداد 21-25)، لجم اللسان (عدد 26)، امتلاك قلب عطوف ونفس نقية (عدد 27)، والعدالة في معاملة الآخرين (1:2-13).
ثم يأتي إلى صلب الموضوع فيقول: "مَا الْمَنْفَعَةُ يَا إِخْوَتِي إِنْ قَالَ أَحَدٌ إِنَّ لَهُ إِيمَانًا وَلكِنْ لَيْسَ لَهُ أَعْمَالٌ، هَلْ يَقْدِرُ الإِيمَانُ أَنْ يُخَلِّصَهُ؟" (يعقوب 14:2) ولكي يوضح فكرته هذه يستخدم مثالاً وتشبيهًا فيضيف: "إِنْ كَانَ أَخٌ وَأُخْتٌ عُرْيَانَيْنِ وَمُعْتَازَيْنِ لِلْقُوتِ الْيَوْمِيِّ، قَالَ لَهُمَا أَحَدُكُمُ: «امْضِيَا بِسَلاَمٍ، اسْتَدْفِئَا وَاشْبَعَا» وَلكِنْ لَمْ تُعْطُوهُمَا حَاجَاتِ الْجَسَدِ، فَمَا الْمَنْفَعَةُ؟ هكَذَا الإِيمَانُ أَيْضًا، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْمَالٌ، مَيِّتٌ فِي ذَاتِهِ." (يعقوب 15:2-17) فهو هنا يشبّه الإيمان النظري بعاطفة إنسانية نظهرها نحو الفقراء ولكننا لا نحرّك ساكنًا لمساعدتهم بشيء، فهذه العاطفة توصّف بأنها عاطفة كاذبة لا قيمة لها. وكذلك الإيمان بدون فعل لا قيمة له. وذلك واضح في استخدامه أداة التشبيه "هكذا"، والمثال يؤخذ بحسب مدلوله وليس بحسب منطوقه. فحينما شبّه الرب يسوع نفسه بحبة الحنطة التي تُلقى في الأرض وتموت لكي تأتي بثمر كثير، عنى بذلك موته وقيامته التي كانت الدافع لكثيرين كي يؤمنوا بخلاصه كثمر لتلك القيامة المجيدة.
ثم يقول: "لكِنْ يَقُولُ قَائِلٌ: «أَنْتَ لَكَ إِيمَانٌ، وَأَنَا لِي أَعْمَالٌ» أَرِنِي إِيمَانَكَ بِدُونِ أَعْمَالِكَ، وَأَنَا أُرِيكَ بِأَعْمَالِي إِيمَانِي." (18:2) ولو توقف عند هذا العدد لكانت مسألة تفسيره صعبة، ولكنه يردف قائلاً: "أَنْتَ تُؤْمِنُ أَنَّ اللهَ وَاحِدٌ. حَسَنًا تَفْعَلُ. وَالشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ وَيَقْشَعِرُّونَ! وَلكِنْ هَلْ تُرِيدُ أَنْ تَعْلَمَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ الْبَاطِلُ أَنَّ الإِيمَانَ بِدُونِ أَعْمَال مَيِّتٌ؟" (19:2-20) فهو يشبّه الإيمان الذي بدون أعمال، أو بالأحرى "بدون فعل" كإيمان الشياطين الذين يقرّون بوجود الله ولكنهم لا يطيعونه ولا يعملون من أجل مجده.
ولكي يبيّن لنا بشكل لا يقبل التأويل ما هو العمل الذي يجب أن يرافق الإيمان يذكر واقعتين من التاريخ المقدس فيقول:
أولاً: "أَلَمْ يَتَبَرَّرْ إِبْرَاهِيمُ أَبُونَا بِالأَعْمَالِ، إِذْ قَدَّمَ إِسْحَاقَ ابْنَهُ عَلَى الْمَذْبَحِ؟ فَتَرَى أَنَّ الإِيمَانَ عَمِلَ مَعَ أَعْمَالِهِ، وَبِالأَعْمَالِ أُكْمِلَ الإِيمَانُ." (21:2-22) لطفًا انظر القصة كاملة في تكوين ص 22.
فإذا تأملنا هذه الواقعة نرى أن "أعمال إبراهيم" المذكورة فيها بتفصيلاتها في تقديم إسحاق على المذبح طاعة لأمر الله هي من الناحية البشرية "سيّئة"، فليس فيها شيء من أعمال التديّن حسب البند: أولاً. وليس فيها شيء من الأعمال الصالحة حسب البند ثانيًا. فهو لم يصمْ أو يصلِّ أو يتلُ عددًا من القراءات، وهو لم يطعمْ أو يكسُ فقيرًا ولا عالَ أرملة أو يتيمًا ولكنه:
1. أخفى الأمر عن زوجته سارة وهي شريكة معه تمامًا في إسحاق ابن الموعد.
2. لم يقل الحقيقة الكاملة أمام غلاميه فقال: "نذهب فنسجد ونرجع."
3. كان سيُقدِم (حسب ظنه على الأقل) على ذبح ابنه وتقديم محرقة بشرية، وهي ضدّ فكر الله حيث يقول: "وَبَنَوْا مُرْتَفَعَاتِ تُوفَةَ الَّتِي فِي وَادِي ابْنِ هِنُّومَ لِيُحْرِقُوا بَنِيهِمْ وَبَنَاتِهِمْ بِالنَّارِ، الَّذِي لَمْ آمُرْ بِهِ وَلاَ صَعِدَ عَلَى قَلْبِي." (إرميا 31:7)
أما من الناحية الروحية، فقد كان إبراهيم مستعدًا لتحمّل كل النتائج حتى فقده لابن الموعد وحيده واثقًا أن الله الذي أمره بذلك يقدر أن يقيم إسحاق من الموت لو حصل هذا. وهذا هو "فعل الإيمان". أي تفعيل ما نؤمن به نظريًا.
ثانيًا: "كَذلِكَ رَاحَابُ الزَّانِيَةُ أَيْضًا، أَمَا تَبَرَّرَتْ بِالأَعْمَالِ، إِذْ قَبِلَتِ الرُّسُلَ وَأَخْرَجَتْهُمْ فِي طَرِيق آخَرَ؟ لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْجَسَدَ بِدُونَ رُوحٍ مَيِّتٌ، هكَذَا الإِيمَانُ أَيْضًا بِدُونِ أَعْمَال مَيِّتٌ." (25:2-26) راجع هذه الواقعة المذكورة في سفر يشوع الأصحاح 2. فإذا قرأنا قصة راحاب بتأنٍّ نقدر أن ندرك بشكل واضح الأعمال التي قصدها الرسول يعقوب. وحيث نجد
1. أن راحاب كانت زانية حتى ذلك الوقت.
2. استخدمت الكذب فنفت وجود الجاسوسين في بيتها (يشوع 4:2-5).
3. عملت بالغش والخداع فوجّهت جنود شعبها في الجهة الخطأ (يشوع 6:2-8).
4. ارتكبت جريمة الخيانة العظمى ضد شعبها ووطنها، فلو علم ملك أريحا حقيقة أمرها لأحرقها مع بيتها وكل من لها بالنار.
إذًا حتمًا لم يقصد يعقوب الرسول تبرير هذه السلوكيات الخاطئة فيعتبرها مرضية ومقبولة، إلا أن هذه جميعها تستطيع نعمة الله أن تغفرها بعد الإيمان والتوبة، ولكنه أشار إلى "فعل الإيمان" الذي صدر عنها. فهي لم تصلّ، لم تصم أو تتصدّق على أحد، لكنها:
1- آمنت بأن إله شعب إسرائيل هو الإله الحقيقي، وذلك واضح من قولها: "لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَكُمْ هُوَ اللهُ فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَعَلَى الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ." (يشوع 11:2)
2- كانت مستعدة للتضحية بكل غالٍ ونفيس في سبيل الثبات على إيمانها ذاك.
3- أطاعت فربطت حبل القرمز في طاقة البيت "رمزًا للحماية"، ومع أنها ليست إسرائيلية كي يُطلب منها أن تذبح حملاً وتدهن بدمه العتبة العليا والقائمتين بواسطة حزمة زوفا، ولكنها كانت مطالبة بملامسة هذا الرمز ولو من بعيد. فحبل القرمز كان إشارة للفداء بدم حمل الله، وقد اختبر إبراهيم هذا الرمز أيضًا في دم الكبش الذي قدّمه فداء عن ابنه، فذلك الكبش لم يكن مأخوذًا من حظيرة أيٍّ من الرعاة الأرضيين، ولكنه كان مرسلاً من الله رمزًا لحمل الله الفريد الرب يسوع المسيح، الذي بموته الكفاري تغفر جميع السقطات، كما هو مكتوب: "ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية." (1يوحنا 7:1ب)
أما الخطية الوحيدة التي ليس لها غفران فهي خطية رفض فداء المسيح حيث يقول الرب عن الروح القدس "وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ: أَمَّا عَلَى خَطِيَّةٍ فَلأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِي." (يوحنا 8:16-9) فما أشار إليه يعقوب هنا بالنسبة لإبراهيم أو لراحاب لم يكن أعمالاً تقوية تعبدية ولا أعمال بر وإحسان بل كان هو "فعل إيمان" الذي بدونه يبقى الإيمان النظري ميتًا ولا قيمة له.