"إِذًا لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ." (رومية 1:8) "وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ." (رومية 28:8) "اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ، بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ، كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضًا مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟" (رومية 32:8)
نحن أمام ثلاثية رائعة لثلاثة أشياء: الأولى، "لا شيء"، وهي البداية في الماضي. والثانية: "كل الأشياء"، ونحن في الطريق أثناء رحلة الحياة الحاضرة. والثالثة: في المستقبل وبها "كل شيء".
أولاً: لا شيء من الدينونة على الذين هم في المسيح
وهي عبارة مطمئنة حيث لا إدانة للمؤمن على ضميره أمام نفسه، ولا من الشيطان، بل الأروع أنه لا دينونة من قبل الله. ففي الأصحاحات الستة السابقة من رومية نجد أساس التبرير، لذلك يرد في رومية 1:8 "إِذًا (أي بناء على ما تقدّم) لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ"، أي إن هناك خبرًا عظيمًا للمؤمنين، لكن قد يتأخّر التمتّع به عند البعض لعدم إدراكهم اختبار النصرة في رومية 7 حيث الإنقاذ الحقيقي، حيث يرد في رومية 25:7 "أشكر الله بيسوع المسيح ربنا،" ثم يبدأ في رومية 1:8 "إذًا لا شيء من الدينونة الآن" لأولئك الذين هم في المسيح يسوع. وهنا نجد المؤمن لا يقدّم الشكر من ذاته لكن بيسوع المسيح، فيتبعه لسان حال الشخص الذي أدرك أن يسوع المسيح فيه كل الكفاية. وهكذا ونحن في الجسد نتعرّض لمحاولات الشيطان في بداية الإيمان لإيقاعنا في الخطية، لكن لا دينونة علينا لأن يد الله أنزلت كل الدينونة على المسيح في الصليب فنردّد: "إِذًا لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ." أي ليس الذين آمنوا، أو على الذين أعطوا حياتهم للمسيح، لكن للذين هم في المسيح يسوع الذي هو مصدر وأساس مشورات الله؛ حيث هو المعيَّن من الله في الماضي مخلّصًا، وفي المستقبل ديانًا. فالذي سيدين هو في نفس الوقت الذي يبرر من الدينونة حيث أكمل يسوع العمل بموته على الصليب. وبعد إتمام العمل جلس في يمين عرش العظمة في الأعالي، "الَّذِي وُضِعَ قَلِيلاً عَنِ الْمَلاَئِكَةِ، يَسُوعَ، نَرَاهُ مُكَلَّلاً بِالْمَجْدِ وَالْكَرَامَةِ، مِنْ أَجْلِ أَلَمِ الْمَوْتِ، لِكَيْ يَذُوقَ بِنِعْمَةِ اللهِ الْمَوْتَ لأَجْلِ كُلِّ وَاحِدٍ." (عبرانيين 9:2) وهكذا فكل ما يحتاجه المؤمن في بداية إيمانه هو أن يخرج من دائرة نفسه حتى يشعر أنه في حاجة إلى الإنقاذ وعندئذ يتطلع ليرى نفسه في المسيح يسوع الذي فيه كل الكفاية فيصبح لا شيء عليه من الدينونة الآن.
ثانيًا: كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله
إن كانت العبارة الأولى تتحدث عن البداية في الإيمان حيث لا شيء من الدينونة، فالثانية تتحدّث عن كل الأشياء بحلوها ومرّها، سواء كانت أوقات جميلة أم صعبة، إن كل الأشياء بدون استثناء تعمل معًا للخير مثل أتراس ماكينة الإنتاج المختلفة، الصغير منها والكبير، فهي تشبه معاملات الله معنا كمؤمنين حيث نجد فيها اللامع المشرق، والكئيب المظلم، لكن خط الإنتاج الإلهي هذا يدور معًا لينتج شيئًا واحدًا وهو الخير للمؤمن، فليس صحيحًا أن نقول: إن كل الأشياء خير، وإلا أُصبنا باليأس والفشل، بل نقول: إن "كل الأشياء تعمل معًا للخير." والروح القدس عندما يتكلم عن هذا الأمر يقول: "ونحن نعلم"، أي يجب أن تكون لدينا المعرفة، فلم يقل: "نحن نقول"، لأنه يمكن أن نقول ولا نصدق، لكن "نحن نعلم"، أي أمر يقيني بأن كل الأشياء تعمل معًا للخير، فلا شيء بالانفصال عن الآخر، فالكل يعمل بتناغم وانسجام، الحلو والمرّ، الحسن والرديء، الكل يُدار ليأتي بالخير للمؤمن، لكن لمن؟ هل للذين هم في المسيح يسوع كما في العبارة الأولى؟ نقول: نعم، لأنهم مؤمنون في المسيح، وأيضًا نقول: لا، لأن الروح القدس يصفهم هنا بالذين "يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ." والروح يركز هنا على الذين يحبون الله لأن أول شيء يتصدّع ونحن في التجربة هو محبتنا للرب، فنشكّ في محبته لنا ويقلّ منسوبها. فدعونا نتعلم أن كل الأشياء تعمل معًا للخير حتى نستطيع أن نظهر محبتنا للرب، وهنا يضع الروح القدس أمرين في منتهى الأهمية:
1- ما يفعله المؤمن تجاه الله: إنهم "يحبون الله" أثناء التجربة.
2- ما يفعله الله تجاه المؤمن: "الذين هم مدعوّون حسب قصده."
لذا المؤمنون مطالبون بمحبة الرب أثناء التجربة لأنهم مدعوّون حسب قصده. فأحوالنا تتغير ونحن هنا على الأرض، لكن ما لا يتغيّر هو ثبات مقاصده، فهو يجعل كل الأشياء تعمل معًا للخير، وهنا يجب أن نفرّق بين مقاصد الله التي هي ثابتة تجاه المؤمنين، ومعاملاته التي تتغيّر وتتنوّع حيث فيها الحلو والمرّ، الجميل والكئيب، المسرّ والمحزن، لكن لنعلم رغم تغيّر معاملات الله بأن مقاصده ثابتة بثباته، وهذا ما يطمئن قلوبنا.
ثالثًا: كيف لا يهبنا الله مع المسيح كل شيء؟
هنا نجد أن الله صنع شيئًا في الماضي وهو "لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين،" إذ أتى إلينا ابن الله من السماء بكامل إرادته، وسوف "يهبنا معه كل شيء" حاضرًا ومستقبلاً. فنحن هنا أمام معادلة صعبة: الله أعطى أفضل ما عنده في السماء، لكن لأجل من؟ لأجلنا أجمعين، وهنا الأمر يختلف عما سبق الإشارة إليه في المرتين السابقتين، فلا يذكر هنا "أننا في المسيح يسوع"، كما في الآية الأولى، ولا أننا الذين يحبون الله، كما في الآية الثانية، بل يذكّرنا في صورة مجردة "الله بذل ابنه لأجلنا أجمعين،" وهذه تشمل تنوّع خلفياتنا وشخصياتنا باختلاف فسادنا وشرنا. فإن كان الله قد بذل ابنه وهو الأمر الأصعب، فهل يمنع عنا الأسهل؟ وهو "كيف لا يهبنا معه (أي مع يسوع) كل شيء؟ فكلمة "يهبنا" تختلف عن "بذل،" فالبذل هو عطاء، أما "يهبنا" فتعني عطاء مستمرّ بفيض وبلا انقطاع. فإن كان الله قد أعطانا ابنه، ومات لأجلنا، وقام، وصار لنا ارتباط به ومعه، فإنه يعطينا كل شيء بشرط أن نُعطى معه أي مع المسيح. فكل ما للمسيح فهو لنا، ولكن إن لم نرتبط بالمسيح فلا نأخذ شيئًا. "إن كنا أولاد الله فنحن ورثة ووارثون مع المسيح."
لقد بذل الله المسيح في الماضي وهو على استعداد أن يعطي حاضرًا ومستقبلاً، فإن كنا ونحن على الأرض الآن نتمتع جزئيًا بما لنا في المسيح، فإننا مستقبلاً سنتمتّع بكل ما قرره الله للمسيح تمتعًا كاملاً عندما تتغيّر أجسادنا لنكون مع المسيح.
وفي النهاية، طوبى لنا لأنه لم يعد علينا في الماضي شيء من الدينونة لأننا في المسيح يسوع، ونعلم في الحاضر أن كل الأشياء تعمل معًا للخير لأننا نحن نحب الله ومدعوّون حسب قصده، وفي المستقبل كما الآن فالله الذي بذل ابنه في الماضي فكيف لا يهبنا معه في الحاضر "الآن بشكل جزئي"، ومستقبلاً كل شيء؟ الذي له كل المجد.