"ولما وُلد يسوع في بيت لحم اليهودية." (متى 1:2)
من مثله في كل العصور والأجيال؟ ليس مثله بين الملوك والرؤساء والكهنة والأنبياء.
من غيره تحدثت عنه النبوات قبل مجيئه بآلاف السنين؟
عند ولادته قدّم الملاك أروع بشارة ملأت القلوب فرحًا: "فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ." وترنّمت الملائكة ترنيمتها الرائعة "الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ." وعند مولده دقّت أجراس الزمن معلنة قدومه السعيد الذي غيّر مجرى التاريخ، فبعد أن كان تنازليًّا صار تصاعديًّا. عند مولده اهتزّت عروش الظلم والطغيان، وبمولده وُلد السلام والأمان والنور والحق والحياة.
كان من الممكن أن تتوحّد المواقف البشرية فرِحَة بميلاده العجيب، ولكن بكل أسف تباينت المواقف واختلفت وتضاربت، فمنهم من خاف واضطرب، ومنهم لم يبالِ ويهتم، ولكن منهم من فرح وتهلّل ومضى ورأى المولود العظيم، وسجد وقدّم له الهدايا. وسأتحدّث عن هذه المواقف الثلاثة:
أولاً: موقف الخائفين الوجلين
وهذه يمثلها هيرودس الملك الطاغية الذي لما سمع بميلاد المسيح "اضطرب وجميع أورشليم معه. فجمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب، وسألهم: أين يولد المسيح؟ فقالوا له: في بيت لحم اليهودية... حينئذ دعا هيرودس المجوس سرًا... وقال: اذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الصبي. ومتى وجدتموه فأخبروني، لكي آتي أنا أيضًا وأسجد له."
والسؤال الذي يفرض نفسه هو: هل كان هيرودس صادقًا في قوله؟
الجواب القاطع هو "لا"، إذ كان قصده تحديد مكان المسيح ليقتله. والدليل أنه حالما اكتشف أن المجوس سخروا منه غضب وأرسل وقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم من ابن سنتين فما دون. ترى، لماذا وقف هيرودس هذا الموقف؟ لأنه كان متيقنًا أن المسيح هو الوريث الشرعي لداود، وأيضًا كان خائفًا أن ينتهز أعداؤه الفرصة، ويتحدوا ضدّه، وينتقموا منه أشرّ انتقام. ثم إن هيرودس لا يريد للناس أن يلتفّوا حول المسيح، وبذلك ينتزع كرسيُّ الملك منه. يا له من موقف غريب! هل سيظل هيرودس على قيد الحياة حتى يكبر المسيح ويملك؟
أحبائي، إن المسيح لم يأتِ ليأخذ بل ليعطي. لم يأتِ ليأخذ مكان هيرودس بل جاء ليأخذ مكان الخاطئ. فالمسيح ليس إله منعٍ وأخذٍ، لكنه إله عطاء ومنح.
ثانياً: موقف المهملين وغير المبالين
يمثّل هذه الفئة رؤساء الكهنة وكتبة الشعب. كنا نتوقع منهم بعد اجتماع هيرودس بهم وسؤاله إياهم "أين يولد المسيح"، ومعرفتهم السبب الذي من أجله سأل هيرودس هذا السؤال، أن يكون لهم السبق في الذهاب إلى بيت لحم، أو على الأقلّ أن يرجعوا إلى الكتاب المقدس ويدرسوا النبوات الخاصة به، ويطابقوها على الواقع الذي سمعوه، فيكتشفون حتمًا أن هذ المولود هو الذي تنبّأ عنه الأنبياء. عندئذ يرفعون أياديهم حمدًا وشكرًا، وتفرح قلوبهم، ومن ثم يذهبون إلى بيت لحم لرؤيته والسجود له، ولكنهم بكل أسف لم يبالوا بالأمر، ولم يعيروه أي التفاتة، وكأنهم لم يسمعوا شيئًا. هل وقفوا هذا الموقف لأنهم كانوا خائفين على مراكزهم ووظائفهم، أم كانوا خائفين من بطش هيرودس؟ إن موقفهم هذا حرمهم من بركات لا عدّ ولا حصر لها؛ بركة الحياة والحياة الأفضل التي جاء المسيح ليمنحها لمن يؤمن به. حرمهم من الفرح والسرور، ومن الشبع الحقيقي بالخبز الحي النازل من السماء الواهب حياة لكل العالم. حرموا أنفسهم من الراحة الحقيقية.
ثالثًا: موقف الحكماء والمتّزنين
وهذه الفئة يمثلها المجوس، وسأتحدث عما فعلوا أولئك الحكماء:
1. ذهبوا: قيل إن هؤلاء المجوس الذين نجهل عددهم الحقيقي جاءوا من مدينة بارثيا التي تبعد كثيرًا عن قرية بيت لحم، وتحمّلوا عناء السفر لمسافات بعيدة جدًا. كم عانوا في رحلتهم؟! ففي أيامهم كان السفر شاقًا لأنه لم تكن وسيلة مواصلات سهلة إذ كانوا يسافرون على الجمال والحمير.
2. رأوا: وما أمجد ما رأوا! رأوا طفلاً! قد يتساءل أحد الأشخاص: هل جاء هؤلاء من مكان بعيد جدًا ليروا طفلاً، وما أكثر الأطفال الذين يولدون في مدينتهم وفي البلاد القريبة من مدينتهم! إنهم رأوا طفلاً ليس عاديًا... ذاك الذي قيل عنه: مشتهى كل الأمم! ملك الملوك ورب الأرباب... بهاء مجد الله ورسم جوهره، وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته... رأوا الطفل الذي قال عنه إشعياء: "ويُدعى اسمه عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا أبًا أبديً رئيس السلام."
3. سجدوا: عرفوا معنى السجود الحقيقي، وعرفوا من هو الذي يستحق السجود. فسجدوا لهذا الصبي ولم يكن سجودهم على سبيل الإكرام والاحترام، ولكن سجود العبادة. سجدوا لمن أعطاه الله اسمًا فوق كل اسم... ولم يكتفوا بالسجود له، بل فتحوا كنوزهم وقدّموا هداياهم الثمينة. وقبل أن يقدموا له هذه الهدايا قدّموا له قلوبهم وعقولهم وأجسادهم ومجهوداتهم وتسبيحاتهم. وكم كان شبع قلوبهم عظيمًا! وبعد أن شبعت قلوبهم انصرفوا في طريق أخرى إلى كورتهم.
نعم يا إخوتي، إن كل من يتقابل مع الرب يسوع لا بد أن يغيّر طريقه! قطعًا، لم يغيّروا طريقهم فقط، بل غيّروا أساليبهم ونظراتهم ومشاعرهم، وبالإجماع صاروا خليقة جديدة.
ليت كل إنسان يقف موقف هؤلاء الحكماء المتّزنين.