يمر العالم في فترة عصيبة من تاريخ البشرية. ولعلّ أبرز خصائص هذه الحقبة هو الخوف. أجل، إن العالم يعيش في حالة خوف رهيبة، ليس على صعيد محلي فقط بل على صعيد دولي. فالدول الصغيرة تخشى سيطرة الدول الكبيرة التي تحاول أن تستنزف خيراتها ومصادر ثروتها، والدول الكبيرة تعاني من عقدة الشك، فكل منها تسعى لحماية نفسها من أخطار الدول الأخرى التي تهددها بما تملكه من قوة ذرية وهيدروجينية وسواها من الأسلحة الفتاكة التي لم تخطر على بال إنسان قبل مطلع القرن الحادي والعشرين.
فالشك عادة كل دولة كبيرة، وسباق التسلّح على أشد ما يكون قوة وعنفوانًا، والشعوب جميعًا تعيش تحت وطأة الخوف لأنها عاجزة عن صدّ حركة التدهور العسكري والسياسي والأخلاقي في دولها وفي دول العالم المجاور. فالحالة إذن، هي حالة يأس وإن تزيّت بمظاهر خادعة أقل ما يُقال عنها أنها كأوراق التين التي خاطها آدم وحواء عندما عصيا ربهما، ليواريا عورتيهما. فأوراق التين هذه لا بد أن تذبل وتجفّ ثم تتساقط، وتبقى الحقيقة العارية كما هي لا يطرأ عليها تغيير بل ربما تزداد سوءًا.
الخوف يسيطر على العقول قبل القلوب، والحيرة تأخذ بالنفوس، ومحاولات الإنسان، مهما عظمت تمنى دائمًا بالفشل... وما علينا سوى أن نطالع صفحات الجرائد حتى نجد أنفسنا أمام طائفة من الأخبار التي تحطم الأعصاب، وتثير القلق وتُفاقم من الخوف الذي امتدت جذوره إلى أعمق أعماق حياتنا. ولا يتسنى لنا، نحن أبناء القرن الواحد والعشرين أن نجد أي بصيص أمل في عالم مستعبد للشرّ، تكبّله المطامع البشرية، فردية كانت أم جماعية، إذ أن هذه المطامع التي في جوهرها، أنانية، تستبيح كل صنوف الإثم في سبيل إشباع رغباتها وشهواتها وتحقيق مآربها ولو كان ذلك على حساب الفقير واليتيم والأرملة.
لقد عجزت جميع الأنظمة السياسية أن تعالج هذه القضايا المستعصية لأن هذه القضايا نابعة من داخل القلب الإنساني. فالسياسة هي رهن النوازع البشرية، والشرائع مهما كانت عادلة لا تستطيع أن تستأصل جذور الشر من قلب الإنسان. صحيح أن هناك أنظمة أفضل من سواها ولكن خيرها وأعظمها لا يمكنه أن يصلح فساد الطبيعة البشرية، ولا أن يعيد الخليقة إلى طهارتها وقداستها السابقة قبل السقوط. لهذا، استشرى الظلم في العالم، وعمَّ الجشع، وتكاثرت الحروب، وأصبح المال إلهًا يعبد، والقوة شهوة الأمم، والاستغلال مرام كل طاغ وباغ. الصورة قاتمة جدًا، والمجتمع يزداد تدهورًا ولولا بقية من أبناء الملكوت الذين يعيشون تحت نظام آخر لكنا كلنا نحيا في أقبية الهلاك.
هذه هي الصورة المتأزمة التي تتمخض بها الإنسانية اليوم وهي صورة لا يرضى عنها الله ولا كل إنسان تقي يسعى في سبيل الخير والسعادة البشرية. هذا هو الجانب المظلم من الحياة. ولكن هناك جانب آخر متوافر لجميع الناس بغض النظر عن خلفياتهم الدينية، أو السياسية، أو العرقية، أو الاقتصادية، وفي رأيي، إن إهمال هذا الجانب هو السبب الحقيقي الذي جعل أبناء الكرة الأرضية يغرقون في ظلمات الجهل الروحي ويُستعبدون، مطلقًا، لقوى الشر الخفية التي تسيطر على العالم لأن هذه القوى قد وجدت أمامها مكانًا مأمونًا، وفراغًا يتلاءم مع أهدافها وأغراضها، فاستأثرت به، واحتلّته، وهكذا أصبح الوجود مسكونًا بهذه القوات المدمّرة.
فما هو هذا الجانب المشرق الذي خفي على أبناء الظلمة؟ أودّ هنا أن اقتبس الآية التي نطقت بها شفتا السيد المسيح. "سلامًا أترك لكم، سلامي أعطيكم، ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا."
هذه الآية لها طابعها الخاص في علاقة الإنسان مع الله. والعلاقة هنا، في تحديدها الكتابي، هي علاقة روحية بين الخالق والمخلوق. إن الوشائج البشرية هي وقتية وفانية، أما العلاقات الروحية فهي خالدة تمتد إلى الأبد.
لكن هذه العلاقة لا تتم إن لم تكن قائمة على أساس ثابت متكامل. فعندما ردد المسيح الآية الآنفة كان يخاطب تلاميذه الذين هم رمز لكل المؤمنين في كل عصر وزمان ومكان. فما هو هذا الأساس الأصيل؟
أولًا: ورد في العهد القديم قوله تعالى: "آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع" (إشعياء 2:59)، فلكي يتوافر هذا الأساس السليم لا بد للحواجز أن تزول، أي لا بد للخطايا التي أقامت حجبًا مكثفة بيننا وبين الله، فانقطعت العلاقة التي أرادها الله أن تكون مقدسة ووثيقة، أن تتلاشى. وانقطاع هذه الصلة يفقدنا السلام الحقيقي الذي نفتقر إليه في عالم موبوء. فصلواتنا لا يمكنها أن تخترق هذه الحجب لترتفع إلى المذبح الإلهي كبخور مقدس طاهر، لهذا لا يسمعها. وبانقطاع هذه العلاقة تفقد كل قوة على المقاومة، ويتوقف مد الحياة الذي يروي قلوبنا وينعشها وينميها. ولكي نستطيع أن نستعيد هذه العلاقة فنتمتع بجميع الامتيازات الروحية التي أعدها لنا المسيح علينا أن نتحرر من خطايانا، ونتصالح مع الآب السماوي الذي أحب العالم كله حتى بذل ابنه الوحيد لكي يخلصنا من خطايانا. هذا الإله الرحيم المحب لم يتخل عن الإنسان ولكن الإنسان هو الذي تخلى عنه وتمرد عليه وعصى وصاياه.
ثانيًا: إن التحرر من الخطايا لا يعتمد على العمل الذاتي أو المجهودات البشرية، فكل أعمال الإنسان، مهما بلغت من الإحسان، هي كخرق بالية في نظر الله. إنها مجهودات بشرية لا ترتفع إلى المستوى الإلهي الذي يتبرر به الإنسان في عيني الله. يقول الكتاب المقدس إن المسيح هو برنا، وهو الذي يبررنا ويطهرنا، وأننا فقط في المسيح يمكننا أن نتلفع بالبر الذي يرضى عنه الله. ولكي نحصل على مثل هذا البر الذي لا يثمن لا بد أن نعترف بعمل المسيح الفدائي على الصليب. فالمسيح لم يمت من أجل الأبرار بل مات من أجل الخطاة لكي يحررهم من كل إثم.
والواقع، وفقًا للمقاييس الإلهية، الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله، نعم الجميع من غير استثناء. إن الدينونة، في أساسها واقعة على الجميع، والجنس البشري هو عرضة للقصاص الإلهي، ولكن المحبة الإلهية التي تفوق كل فهم حالت دون وقوع هذا العقاب فجاء المسيح ليكون ذبيحة فدائنا، ودفع الثمن عوضًا عنا. فالإيمان بفداء المسيح وموته وقيامته إيمانًا عمليًا صادقًا هو الطريق الوحيد لخلاصنا. والقول المأثور "إن كل الطرق تؤدي إلى روما" لا ينطبق أبدًا على الحياة المسيحية. ولو صحّ هذا الكلام لما كانت هناك حاجة إلى مجيء المسيح ليضيف طريقًا جديدة إلى وسائل الخلاص. فالإيمان بكفارة المسيح وصلبه وقيامته والتسليم المطلق للإرادة الإلهية، هو الاختيار الوحيد في نطاق خطة الله للخلاص والحرية. ومن شأن هذا الإيمان أن يولِّد في القلب طمأنينة يعجز العالم كله عن الحصول عليها من غير اللجوء إلى مصدر النعمة الوحيد.
ثالثًا: إن الإيمان بموت المسيح وقيامته يضمن لنا الحياة الأبدية. وإنني أعتقد أن الخوف من المجهول هو أشد أنواع الخوف رهبة ولا سيما إن كان الأمر يتعلق بالحياة الأبدية. من منا لا يريد أن يكون على يقين من مصيره الأبدي؟ من منا لا يتمنى أن يكون متأكدًا أن السماء هي مقره الأخير. يتعذّر عليّ هنا أن أعدّد الوسائل التي ابتدعها الإنسان لكي يؤمِّن حياته الأبدية؛ ولكن من المؤسف أن معظم هذه الوسائل كانت نتيجة لمحاولات بشرية أخفقت فلم تحقق للنفس أشواقها ولم توفر للقلب الطمأنينة التي يتوق إليها. إنها محاولات زائلة لا تروي ظمأ النفس المتعطشة للراحة. ولكن المسيح هو الذي قال لأن كل من يؤمن بي فله حياة أبدية، بل إن الله نفسه يقول "... لكي لا يهلك كل من يؤمن به (أي بالمسيح) بل تكون له الحياة الأبدية." هذا هو اليقين الحقيقي الذي يؤكده الله لنا عبر الوحي الإلهي. إنه عهد مقدس مبصوم بوعد الله الذي لا ينسخ ولا يتبدّل، وإلا يكون فداء المسيح قد ذهب هدرًا. أنا لا أريد أن أعيش حياتي الأرضية بغير يقين وثقة بأن لي السماء، بعد الموت، موطنًا، ومقرًا أبديًا في حضرة الرب القدوس. هذا اليقين يبعث في قلبي الفرح والغبطة، بل سعادة الترقب والانتظار.
ولكن ما هي النتائج التي يسفر عنها هذا الإيمان؟
ففضلًا عن يقين الخلاص، وضمان الحياة الأبدية هناك السلام الحقيقي الذي أشار إليه المسيح، وهذا السلام نتمتع به ونحن هنا على قيد الحياة، على الرغم من الضيقات والصعوبات والظلمة الحالكة التي تغمر هذا الوجود. وعلى ضوء هذه الحقيقة نستطيع أن نفهم وعد المسيح بأن، سلامه الذي يعطينا، يختلف كليًا عن سلام العالم لأنه سلام متأصل في القلب لا يمكن للأحوال والظروف أن تنزعه منا. هذا السلام الذي تجلى في حياة الرسول بولس ورفيقه سيلا عندما طُرحا في السجن، فإذا بحضور الرب يملأهما، فيشرعان بالترنيم وتسبيح اسم الرب القدوس. سلام الله هو غير سلام العالم. إنه نابع من القلب الإلهي ليفيض علينا بالبهجة والطمأنينة.
أنا، وأنت، وكل كائن بشري يستطيع أن يتمتع بمثل هذا السلام إن كانت علاقتنا مع الله علاقة سليمة تحققت لنا بفداء المسيح الذي صالحنا بموته على الصليب.
هو اختيار تتوقف عليه أبديتك وأبديتي.