هناك لغةٌ تتكلَّم أكثرَ من الكلام، وتعابيرُ يتوقف معها الزمن، وأحاسيسُ تنبئُ بمضامين الوجدان دونَ أن ينبُسَ ببنتِ شَفة. إنَّها لغةُ العيون التي هي انعكاسٌ للنفس البشرية وكيان الإنسان الداخلي. فمِن خلال العيون يغوصُ المرء بمشاعر وانفعالات حلوة في بعض الأحيان، ومؤلمة في بعضها الآخر.
وتفضحُ لغةُ العيون العشَّاق، إذ تُظهر ما يدور في فؤادهم من ودٍّ وحب واحدهم نحو الآخر. أجل العيون تحكي الكثير، وتنبئُ بالكثير، وتتحدث بالكثير، لكن دون أن تفوهَ بكلمة.
تحت عنوان "حدقةُ العين تتكلم ولا تكذب" ورد الخبر التالي الملفت للنظر إذ يقول: "حدقة العين أو البؤبؤ هي أشبه بمرآة صادقة لعواطفنا. فهي تتسع حالما نشعر بالخوف أو الغثيان أو نشعر بالسعادة. كما يمكن من خلال مراقبة الحدقة معرفةُ الكثير حيال القرارات الآنيّة. ومن المعروف أنَّ حدقة العين تتسع كثيرًا في الظلام لتتمكن من التقاط أكبر كمية من جزئيات الضوء. وبالمقابل تضيق كثيرًا أمام الضوء الساطع لحماية شبكية العين. ولكنَّ الضوء ليس العامل الوحيد المؤثّر على اتِّساع وتضيُّق الحدقة، بل إنَّ الحالة العاطفية يمكن قراءتها فورًا في العيون. فالحدقة تتَّسع أيضًا عندما نشعر بالفرح الكبير أو بالخوف. والمسؤول عن ذلك هو الجهاز العصبي التلقائي الذي يتحكم بالوظائف الحيوية اللاإرادية. وعند وجود خطر ما أو أمر مفرح، يتَّخذ هذا الجهاز العصبي التلقائي القرارات بشكل أسرع بكثير مما يتطلَّبه اتخاذ القرارات الإرادية. وهذا الجهاز التلقائي نلاحظ دوره خلال عبور الشارع مثلًا وسط زحام السيارات. وهكذا إذا فرح الإنسان لأمرٍ، فإنَّ أول ردِّ فعل يأتي من العين التي تتسع حدقتُها بشدة حتى قبل أن ينطق الإنسان بأي كلمة. وتوصَّل الباحثان (فيليام دي جي وتوبياس دونر) من جامعة أمستردام في هولندا في دراسة جديدة إلى أنَّه من الممكن التنبؤ بالقرار الذي سيتَّخذه الشخص من خلال التدقيق في حدقة العين. فمثلًا، إذا كان القرار هو بـ نعم أو لا فإنَّ نعم تكون مسبوقة باتساع الحدقة. لكن الباحث الألماني (هيلموت فيلهيلم) من جمعية طب العيون الألمانية يشكك في نتائج هذه الدراسة. فهو يرى أن هناك إجماعًا بين الباحثين والأطباء على أنَّ العين تتسع قُبيل اتخاذ القرارات، ولكن هذا الاتساع هو انعكاس للتوتر ويحدث في جميع حالات اتخاذ القرار، بغض النظر إن كان سلبيًا أم إيجابيًا. وهذا يعني أن حدقة العين لا تكذب وأنها تعكس حقًا الكثير عن الحالة النفسية للإنسان ولكن ليس بدقة كبيرة حتى اليوم".
إذن إنَّ كلَّ ما فينا يدلُّ علينا ويكشف خبايانا حتى ولو حاول الواحد منا إخفاءها. ويبقى الإدلاء، أو الإفصاح بالطبع نسبيًا ومحدودًا ولن يصل إلى درجة الكمال.
لكن هناك عينٌ أخرى تُفصِح عمَّا في دواخلنا، وتكشف عن مكنونات قلوبنا، وهذه لا تخطئ البتة لأنَّها عينُ الخالق العظيم، التي ترى خفايانا وتعرف عيوبنا، وتفحص حتى أفكارنا وأعماقنا. إنَّها عين الله التي قال عنها يومًا سليمان الحكيم في أمثاله:
"في كل مكان عينا الرب مراقبتان الطالحين والصالحين" (3:15). فعينُ الرب ترى، وتسمع، وتعرف، وتميِّز، وتراقب كل البشر. وعبَّر داود عن ذلك بوضوح في المزمور المئة والتاسع والثلاثين حين قال:
لأنك أنت اقتنيت كليتيَّ. نسجتني في بطن أمي. رأت عيناك أعضائي، وفي سفرك كلِّها كتبت (13 و15). إذن تسمو عين الله وترتفع فوق كل معرفة وتمييز ورؤية لنا نحن البشر. أما في المزمور الثاني والثلاثين فلقد اختبر داود النبي عين الله المرشدة والحارسة له فهتف يقول:
"أعلمك وأرشدك الطريق التي تسلكها. أنصحك. عيني عليك" (8). وفي المزمور الثالث والثلاثين يقول أيضًا: "هوذا عين الرب على خائفيه الراجين رحمته" (18).
هل تعلم يا قارئي بماذا عرّف مرةً أحد الوعاظ شخصية الإنسان؟ عرّفها بقوله: شخصية الإنسان هي ما هو عليه في الظلام! أجل هذا ما قاله D L Moody. فشخصيتي وشخصيتك وشخصية الآخرين تَظهر على حقيقتها حين تختلي أنت بنفسك وتكون وحدك، بعيدًا عن كل الناس، وحتى أقرب المقربين إليك. وعندما تبتعد عن الجميع تُرى بماذا تفكر؟ وكيف تتصرف؟ وماذا تقول؟ وبماذا تحلم؟ وعلامَ تركِّز، وماذا تفعل؟ وبأيِّ شيء تؤخذ؟ وبماذا أنت بالحق مسبيٌّ هناك في الظلام بعيدًا عن كل مخلوق؟! لسوف نعرف تمامًا من نحن وما هي حقيقة شخصيتنا، لأنَّنا عندئذ لا نستطيع أن نتظاهر أو نرائي، بل نخلع أقنعتنا وتنكشف حقيقتنا أمام أعيننا وعين الله الخالق التي ترى كل شيء وتكشف كل شيء فينا تمامًا كما قال صاحب المزامير.
وعلى الرغم من كل ذلك فإنَّ الواحد منا يظن أحيانًا أنه يستطيع أن يهرب أو يختفي من هذه العين القديرة العجيبة، لأنه لا يراها بشكل ملموس. وهذا ما فعله أحد الأنبياء في القديم حين أرسله الله في مهمة هامة لكي يحث الناس على التوبة هناك في بلاد بعيدة عن سكناه. "إذ صار قول الرب إلى يونان قائلًا: قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة ونادِ عليها، لأنه قد صعد شرهم أمامي. فقام يونان ليهرب إلى ترشيش من وجه الرب، فنزل إلى يافا ووجد سفينة ذاهبة إلى ترشيش، فدفع أجرتها ونزل فيها، ليذهب معهم إلى ترشيش من وجه الرب".
ويخبرنا الوحي المقدس بأنَّ الله سرعان ما أرسل ريحًا شديدة إلى البحر فصارت السفينة عرضة لعاصفة قوية حتى كادت تتكسَّر. ولمَّا ألقى النوتيَّة القرعة ليعرفوا بسبب مَن أصابتهم هذه البليَّة، وقعت على يونان. فاعترف يونان للبحَّارة بأنَّه هارب من الرب إله السماء الذي صنع البحر والبرّ. وطلب منهم أن يطرحوه في البحر. وأما الرب فأعدَّ حوتًا عظيمًا ليبتلع يونان. وصرخ يونان عندها من بطن الحوت ودعا الرب من ضيقه وصلى صلاة التوبة معترفًا بخطئه ونادمًا على فعلته وهروبه من وجه الله. وبعد ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ أمر الرب الحوت فقذف يونان إلى البر. وأطاع الرب يونان، وأخبر أهل نينوى بأنه بعد أربعين يومًا تنقلب المدينة. ولمَّا سمع أهل نينوى للحال تابوا عن شرهم وآمنوا بالله حتى إنَّ ملكهم قام عن كرسيه وخلع رداءه عنه وتغطَّى بالمسوح وأمر بأنْ يرجع كلُّ واحد عن طريقه الرديئة لعلَّ الله يرجع عن حمو غضبه. ويخبرنا الوحي المقدس بأنَّ الله عاد ورحم الشعب ولم يصنع بهم شرًا. وأفهم يونان النبي بطريقة واضحة بأنه شفوقٌ رحيم على الناس الذين خلقهم وهم لا يعرفون يمينهم من شمالهم وأنه رحمهم برحمته الواسعة مانحًا إياهم فرصة جديدة لأنه الإله الخالق والمحب (سفر يونان).
نعم، لا شيءَ يختفي منه، يا قارئي، ولا شيء يُحجَبُ عنه. ونكون فعلًا سذَّجًا إذا لم ننظر من هذا المنظور أو إذا أسقطنا ذلك من حساباتنا اليومية لا بل اللحظيَّة. فيا حبَّذا لو ننتبه ونعرف حقيقة شخصياتنا، ونحن لوحدنا، ومرحى لنا إذا اعترفنا بحقيقة وجوده معنا، لأنَّ وجوده يملأ الكون الواسع الفسيح. وعينُه ترى وتراقب وتجول في الأرض كلِّها وتكشف أعماق النفس البشرية ولا شيء يختفي منها أو يُحجب عنها. لهذا يقول الروح القدس: "الكل قد زاغوا معًا وفسدوا. ليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد".
والآن، وبناء على ما قرأنا وسمعنا، هل نعيش ونحن نعي هذه الحقيقة؟ حقيقة نفوسنا وشخصياتنا، وحقيقة أن الله الخالق يرى ويسمع ويتكلم، فهل نتجاوب مع معاملاته مع الإنسان؟ ونهتف مع المرنم ونقول:
جايين يا أبانا، اسمع لدعانا،
بتواضع يرجع شعبك
يطلب رحمة من عندك،
بقلوب محتاجة إليك.
ده رجانا فيك يا إلهنا،
وها نستنّى المواعيد
نحوك نرفع أعيننا،
وإيماننا فيك بيزيد
أجل، عينُ الله تنظر وترى كل شيء، فهل نرفع نحن بالتالي أعينَ الإيمان نحوه وهكذا تلتقي نظراتنا، ونتمتع بحنانه وحبه الأبدي، فيفيض بروحه فينا، ويُحيي رجاءنا من جديد، ويغسل خطايانا ونصبح من أبنائه ونعيش في انسجام مع مشيئته ولا نعود نحاول الغروب عن وجهه!