يا صديقي،
تسألني في رسالتك الأخيرة عمّا جَدّ ويجدّ من أحداث في حياتنا في أرض الغربة، بعيدًا عن موطن الذكرى ودفء الأرض الطيبة التي ترعرعنا فيها منذ الطفولة. فماذا أقول لك؟ وبأي حدث أبدأ؟ أيّ قصة أرويها لك وقد مضى على بعضها زمن طويل. ولكن لا بأس! فأقل ما أستطيع أن أفعله في هذا السياق أن أتحدّث عن محبة الله وعنايته اللتين تجلّتا في هذه الأحداث على الرغم من المظاهر الفاجعة التي ألمّت بنا.
ولكن قبل أن أسرد عليك نتفًا من جنون الحياة، لا بد لي أن أنوّه بحقيقة قد يغفل عنها الكثيرون مع أنها جزءٌ لا يتجزّأ من حياة المؤمن: إن الله لم يَعِد المؤمنين أن يقيهم من آلام هذا الدهر أو يمنع عنهم الاضطهادات، والأمراض، والنكبات الطبيعيَّة وغير الطبيعيَّة، إنما وعد أن يمدّنا بالعون في كل حين لكي نتحمّل هذه الكوارث، ونقوى عليها، بل ننتصر على ما يُلمُّ بنا من مصائب، فالذي معنا، كما يقول الكتاب، أقوى من الذي علينا.
إن إدراكنا لهذه الحقيقة ولا سيما في المغترب حيث تطغى علينا الوحشة، والوحدة، ونتصارع مع قيم تختلف عن قِيَمنا، ونعايش حضارة تتباين مع حضارتنا، بل نجابه في كل يوم مشكلات هي وليدة المجتمع الجديد الذي يحاول أن يطمس فينا كل مقوّمات مجتمعنا القديم. إن أدركنا هذه الحقيقة وأيقنا أن ربّ المجد لن يتخلى عنا، يعترينا آنئذ شعور من الاطمئنان تعجز أية قوة عن تجريدنا منه. إنه يقين يخالج النفس كما خالج صاحب المزامير في لحظاتٍ قاتمةٍ من حياته، فلهج قلبه بالحمد والتسبيح. غير أن اليقين لا يصدر عن الشعور فقط، بل يقوم على وعي عميقٍ بصدق أمانة الله وموثوقية وعوده السرمدية. ولا يخامرني أي شك بما أقول. أليست هذه الوعود صادرة عن الله جلَّ جلاله؟ هذا وحده يكفي لكي يغمرني اليقين. ولكن هناك الظاهرة العملية في علاقة الله مع الإنسان ولا سيّما عندما تحيق بنا ظروف قاسية يتعذّر علينا قهرها. آنئذ وآنئذ فقط تتجسّد أمام أعيننا روعة حقيقة أمانة الله، فهو كما يقول النبي الشاعر في مزاميره:
"كما يترأّف الآب على البنين، يترأّف الرب على خائفيه."
فالله الخالق يتحوّل في لحظات آلامنا وأوجاعنا إلى أب حنون يترأف على خائفيه، ويسكب بلسم المحبة على جراحهم الدامية.
والآن بماذا أحدّثك؟ إن الحياة في هذه المغترب، على الرغم ما فيها من بهرجة، هي حياة قاسية إذ تغلب عليها النزعة الفرديّة والمصلحة الذاتيّة على حساب القيم الأخلاقية التي نبّر عنها الكتاب المقدس. فالمادية الطاغية تسلب من المرء كل الفضائل التي توثق من عرى المجتمع فتفقد الحياة رونقها، ويذبل جمالها، ويضحى الإنسان فريسة سائغة لأنياب الوحوش البشرية التي تتربّص لالتهامه. إن الطمع يقتحم كل مرافئ الحياة ويستولي على منازع الخير فيها، وإذا بالإنسان المتمدّن يكشف عن الوحش الكامن في داخله، القَرِم للَعقِ دماء ضحاياه بلذة. لا تظن، يا صديقي، إنني أغالي في تصويري لهذه الحياة. فهذه هي خصائص كل مجتمع مستعبد للمادية. والمأساة أنه لا يدري بأنه مستعبد لها.
ولكيلا أُتَّهم بالتعميم والمبالغة، يقتضيني الحق أيضًا أن أعرض لفئة من أبناء هذا المجتمع، أقليّة جبارة تحدّت التيار وصمدت رغم عنفوانه. غير أنها أقلية عرضة لكل صنوف المضايقات الروحية والأخلاقية لأنها تتّخذ مواقف مناقضة لمواقف الأكثرية الوالغة في مستنقعات مطامعها وأهوائها. ولعلّ هذه الأقلية هي الذبالة التي ما برحت تضيء في ظلمة هذا المجتمع لأنها تستمدّ قوتها ممن قال عن نفسه "أنا هو نور العالم".
ولكن ماذا أقول عن نفسي؟ هل اكتويتُ بتجارب هذه الدنيا؟ هل تقلَّبتُ على جَمْرِ غضاها؟ نعم وألف نعم! عندما تراودني الذكريات الأليمة أشعر بدنياي تطبق عليَّ، وأمواج رهيبة من ليلٍ دامس تطويني في ظلماتها المفزعة.
هل أسرد عليك حكاية الفاجعة التي كادت أن تقضي على ابنتنا عندما داهمتها سيارة مسرعة أمام باب منزلنا فقضت ثلاثة وعشرين يومًا بين الموت والحياة؟
أم أطلعك على قصة ابني الذي لم يكن قد تجاوز السادسة من عمره آنئذٍ، عندما ضلّ في يومٍ ثلجيّ عاصف في شوارع مدينة شيكاغو وقد أسدل الليل أستاره حاملًا معه قشعريرة الموت؟
أم أقصَّ عليك فاجعة النكبة المالية التي تعرّضنا لها في ظرفٍ من أقسى ظروف حياتنا عندما فقدت وظيفتي التي كانت المصدر الوحيد لإعالة أسرتي وأُغلقت في وجهي جميع أبواب الرزق؟
وماذا أقول لك بعد؟ هل أحدّثك عن الداء العياء الذي أصاب زوجتي الذي أدّى إلى وفاتها، وما أسفر عنه من مضاعفات تبعث في النفس رعبًا يحرم المرء لذة النوم؟ إن مثل هذه الضربات التي تتوالى على الإنسان توهن من إرادته، وتثبط عزيمته، بل يجد نفسه عاجزًا عن التفكير، وليس هناك آلم للنفس من الشعور بالعجز وهي ترى أحبّ الناس إليها تتلوّى عذابًا. إن مثل هذا الإحساس يفقد المرء ما يملك من الثقة ويرى ذاته كلا شيء.
ولكن يا صديقي، هذه جميعها تحوّلت في لحظة كغيوم صيفٍ تقشّعت. نعم، لقد أخفقت كل هذه الكوارث التي حلّت بنا أن تحطّم إيماننا بمن وعد أن يقف معنا، بل يحملنا بين ذراعيه ويخوض معنا معمعة القتال. إننا لم نكن وحدنا في ميدان المعركة بل شعرنا بحضور الله في حياتنا كالشمس المضيئة التي تبدّد الدياجير الحالكة. ففي خضمّ التجارب امتدّت يده القوية وانتشلتنا من وهدة اليأس، والخوف، والقلق، والشك، ورفعتنا على صخرة سامقة لا تزعزعها العواصف ولا تهزّها الأمواج المتلاطمة، واستطعنا بمعونته وقوّته أن نجتاز في وادي ظلال الموت بعد أن كادت أن تلتهمنا أفاعي المحن، والصرخة الوحيدة التي أطلقناها: "يا رب أعن ضعف إيماننا."
أجل يا صديقي، فكّر معي للحظة. ماذا كان يمكن أن يحدث لنا حين أحدقت بنا هذه النوائب لولا بارقة الأمل التي توهّجت في قلوبنا وشعلة الإيمان التي تألّقت في صدورنا؟
كيف كان في وسعنا أن نقاوم موجات اليأس الكاسحة لولا قوّة المسيح التي أعانتنا؟ كنت يا صديقي أردّد دائمًا في ضيقي: "تتعلّق نفسي بك يا ربّ. بيمينك تعضدني." حقًا لم يخيِّب الرب لنا رجاءً ولا نبذنا نبذ النواة، بل كان لنا حصنًا، وملجأً لُذْنَا به فسَلُمْنا من غوائل الأيام.
هذه نتف من قصة حياتنا، ولكنها قصة لم تنتهِ بعد، ولن تنتهي لأنها مرتبطة بمعاملات الله معنا. هي قصة قد تبدأ في الأرض ولكنها تمتدّ إلى الأبد لأن علاقتنا بالله هي ليست علاقة وقتيّة وإنما تتجاوز هذا العالم وتنتقل معنا إلى الوطن الآخر الأبديّ الديمومة.
عالمٌ هو مشتهى كلّ نفسٍ مؤمنة.